23 ديسمبر، 2024 6:09 م

المناصب ..وشهوة الحكم في العراق

المناصب ..وشهوة الحكم في العراق

ليست مشكلة العراق الراهنة مشكلة تعدد أديان وطوائف وقوميات يستحيل تعايشها تحت سقفه الواحد، وإذا حاول المغرضون أن ينحوا بهذا المنحى اللا ديني واللا إنساني، فأن هذه المحاولة ستصطدم بحقيقة الأديان السماوية وهي أديان محبة وسلام، ولان الدين لم يكن يوماً عائقاً في سبيل قوة الأمم وتقدمها وازدهارها، بل العكس هو الصحيح.
وقد عاش المسلمون والمسيحيون وباقي الطوائف بكل قومياتهم في العراق منذ مئات السنين (متصافين) متآلفين، المشكلة الأساس في رأيي –وان صارت اليوم اكبر من العراقيين لأنه حين يضعف الجسم يتعرض لكل أنواع العلل والأمراض هي مشكلة (حكم) لا بل شهوة حكم لتحقيق مآرب شخصية  بالدرجة الأولى، فمصيبة أن يصل شخص عندنا إلى الحكم، ومصيبة ألا يصل، لأنه إذا وصل عمل لمصلحته الشخصية ومصلحة أزلامه وأعوانه من حزبه والأقربين، وحرم الباقين وان لم يصل (وقد ذاق طعم الوصول مرات) وضع العصي في دواليب الواصلين أو إحراق دواليبه العتيقة احتجاجاً وتنكراً واتهمهم بالعمالة والوصولية والخيانة الوطنية والعمل للمصلحة الشخصية. فلو كانت المناصب خدمة وطنية مجانية لوجه الله تعالى، ولو كانت الرئاسة والوزارة تكريماً لعين المواطن ليس غير، كما هي عند بعض الشعوب الراقية (حبذا لو صارت عندنا كذلك أو لقاء اجر رمزي ضئيل) ولو كان الناجحون من أطبائنا ومهندسينا وتجارنا، حتى لا نقول موظفينا الصغار منهم والكبار، الذين يستفيدون من مهنهم الحـــرة ويفيدون الوطــن، لو كان هؤلاء لا يطمحـــون طلبــــاً للمجـــد الفـــارغ وللمزيـــــد من تكريـــس الثـــــروات والمناصـــــب,
بالمختصر المفيد لو كان كل هؤلاء وأولئك يتسلمون سدة الحكم عن طريق مؤهلاتهم العلمية وثقافتهم الواسعة، وبدافع من غيرتهم على وطنهم لا غير (كما هي حال القلة النادرة منهم) وليس على سلالم الطائفية والمذاهب الدينية والقومية وغيرها، لما كان بالتأكيد هذا الإقبال النهم على مراكز السلطة، ولما كان بالتالي هذا الاقتتال الضاري في الساحة العراقية، ولما كانت أية قوة غاشمة أو ظالمة في الكون لتزعزع حجراً واحداً في جدار بيتنا العراقي.
وشهوة الحكم هذه التي تعمل للصالح الفردي هي أرذل الشهوات وأقبحها إطلاقا. إنها أكثر شراً من شهوة الجنس، وأقبح من شهوة المال، واخطر من شهوة القمار، وأدهى من شهوة المجد،
وأرذل من شهوة الأكل والشرب، ثم إن جميع هذه الشهوات قد تضر بأصحابها أولا، وان ألحقت الضرر بالآخرين فأن ضررها على كل حال ضئيل. أما شهوة الحكم الشريرة هذه التي غايتها الوصول إلى الحكم للحصول على تلك الشهوات جميعاً فهي وبال على الآخرين أولا وأخيرا وبكل تأكيد لأنه: إذا كان الحاكم جاهلاً كان جهله عمى وخراباً للآخرين، وإذا كان ظالماً كان ظلمه سحقاً وإذلالا  للآخرين، وإذا كان غنياً ومحباً للمال كان غناه فقراً وتعاسة للآخرين، وإذا كان فاسقاً وملحداً كان فسقه وإلحاده عاراً وشناراً على الآخرين. وإذا كان نهّاباً وسلاّباً لخيرات الدولة والمواطنين كان أسوأ قدوة للآخرين، وإذا كان سقيم النفس والجسم كان سقمه موتاً للآخرين. الحاكم في العالم الغربي الذي يقدم مصلحته الخاصة على مصلحة وطنه يُقصى من الحكم ويُنبذ ولا يظهر له اسم على المسرح السياسي أو المحافل الدولية، ولنضرب مثلاً على ذلك فأن رئيس أعظم دولة في العالم وهو الرئيس الأميركي الأسبق “ريتشارد نيكسون” عزل من رئاسة الولايات المتحدة الأميركية بسبب فضيحة كان بالإمكان سترها ولفلفتها لو لجأوا هناك إلى أساليبنا الخاصة وطرقنا الفظة. ولذلك يخشى أيضا أن تحول شهوة الحكم عندنا دون عقد الطاولة المستديرة, يقول “جون شتاينبك” الحائز على جائزة نوبل للآداب في روايته “قتال مريب”، “لا اعتقد إن بمقدور رجلين الوصول إلى نتيجة وهما يتناظران- أي ينظر الواحد إلى الأخر- مثل كلبين هائجين، ضع الرجلين كلاً من ناحية إلى طاولة ليتفاهما، فسوف يخرج من ذلك دائماً “شيء صالح” ولا نريد القول ان “ليس لدينا طاولة” ولكني سأجهر بملء الصوت وبحناجر جميع منكوبينا لإنهاء حالة الفوضى اللامعقولة، مهيباً بجميع العراقيين إن يتسارعوا إلى الحوار حول هذه الطاولة التي بدأت تظهر للعيان، للتفاهم ونخرج بالتأكيد من اجتماعنا وحوارنا بــ “شيء صالح”….
كل الشعوب التي تناحرت قبلنا في كل العصور وفي كل الأمصار اجتمعت في نهاية الأمر وتفاهمت وأوقفت تناحرها، فالعراقي شرب حليب التآخي من ثدي أمه، وبعد فطامه أعطيت له جرعات ضد وباء التباغض والتحاقد… وهناك أقوام لم يكونوا دوننا شراسة، اجتمعوا في قطار الوفاق حول طاولة مماثلة وخرجوا بنتائج ايجابية.
فما الذي يمنعنا اليوم من أن نعود إلى تحكيم العقل ولو لمرة، وكلما تأخرنا في ذلك نكون قد خسرنا أنفسنا ونبذنا كل القيم ودنسنا كل المقدسات وكفرنا بكل أديان السماء وشوهنا صورة الإنسان العراقي كما لم يشوه في أي زمان وأي مكان… فبغداد دار السلام وقبلة العلم والعلماء نراها اليوم متشحة بالسواد, يكفي أن يتفق العراقيون وحدهم، ويتحدوا، فقوى الشر لا تتحد إلا حين ينقسم البيت على نفسه.
أقول هذا لئلا يشمت بنا العالم ويسخر أكثر مما شمت وسخر، ولئلا يحسبنا أقواما بدائيين، ودون ذلك فيسمح لنفسه وباسم الإنسانية والدين والمدنية والحضارة بأن يحرمنا حتى من حق الحياة.
ما نفع بحار البترول المكتنزة في باطن الأرض إذا لم تسخر كلها لخدمة العراقيين ومن أية طائفة أو دين ومن أي جنس كانوا لأن الأموال التي أهدرت طوال تلك السنين لم تكن إلا لسفك دماء الضحايا على الأرض العراقية، لو توزعت تلك الأموال على جميع العراقيين من دون استثناء لكان اليوم لكل فرد عمارة وسيارة ورصيد محترم في احد البنوك ومن دون (حواسم). وما قيمة حضارتنا الرائعة، لا بل ما قيمة تراثنا الفلسفي والأدبي والخلقي والعلمي الهامد في بطون المجلدات العديدة على رفوف المكتبات شرقاً وغرباً إن لم يشتعل هداية في نفوسنا، ويشع ضياءاً ونوراً في مدنيتنا ويمثل أحسن التمثيل في تعايشنا الحبي والإنساني
أو لم نكن حتى الأمس القريب نعلّم أولادنا (حضارة العراق وتأريخ العرب) والعلوم عند
العراقيين… كأنها, أي إن تلك الحضارة والعلوم شيء من التاريخ العراقي مضى وانقضى بينما العلوم تتطور في كل عصر ويتطور معها إنسان العصر، ثم ما جدوى أدياننا السماوية المنزلة ان لم تنزل روحانيتها في قلوبنا وتنعكس آياتها الباهرات على أعمالنا وتعاملنا… وهذه الفوضى الوخيمة تصمنا بميسم العار وتدمغنا بطابع الوثنية العريقة؟ أو ليس الدين أولا وأخيرا عملاً ومعاملة ؟