أخطأ الظالم الحجاج بن يوسف الثقفي التقدير في وقفته المنبرية الشهيرة ( أرى رؤوسا قد اينعت وحان وقت قطافها ) ، ولكن الحين في فعل الحجاج واتباعه اسلوب القتل والتصفية لم يثمر سوى مزيدا من الثورات وردود فعلٍ في ظاهرها العلني والباطني والذي قاد بن امية الى انهيار حكمهم على يد العباسيين الذين لم يبتعدوا كثيرا عن رؤى بني أمية فكان للامبراطوريتين أن تذوبان في منطق القسوة وتلاقيان مصيرا مشتركا في الابادة واندثرت السلالتين ، واحدة في الاندلس والاخرى على يد المغولي هولاكو…….!
كان المنبر الوسيلة الاعلامية التي يعتليها المبلغون والخطباء والخلفاء والولاة والساسة ليوصلوا الفكرة والمحاضرة وليبقوا تواصلهم مع الناس قائما ، ومنذ خطب الامام علي ع . كان فهم الناس يقوم في سماعهم لخليفة المسلمين في خطبه بجامع الكوفة انه يلقي موعظة العدل والحق والصلاح وقد جمعت هذه المحاضرات والخطب ببلاغة الصوت والحكمة والتفسير والموعظة بكتاب عُدَ من معجزات التراث العربي النثرية والفقهية والفكرية ايضا ( نهج البلاغة ) .
ولكن منبر علي ( ع ) لم يرق لمن كان يعتقد أن عليا أطال في زهد الكلمة والعيش وان صراعه مع معاوية استفحل في بساطة وورع الخليفة ومكر ودهاء والي الشام المتمرد ، فأتى مخطط اغتيال الاثنين على يد الخوارج فأستشهد الامام ونجا معاوية .ومن يومها لم يفعل المنبر من غايته في اكثر مناسباته سوى التمجيد بالحاكم واجبار الناس على السماع على أمل أن يكون هذا السماع منتجا حتى في حكمته وفلسفته وموعظته المؤمنة.
وبسبب طبيعة المجتمع وعدم اكتشاف المرئي والمسموع في وسائل الاتصال بقي المنبر في سلبيته وايجابيته غاية الناس في اكتساب العلم والموعظة والتفسير ثم تطور في بعض حاجاته ليكون محفزا للفقراء والمحرومين للمطالبة بحقوقهم. وكان منبر العرب في يوم الجمعة ، وكانت الجوامع ناصية للمنابر إلا ما ندر في خروج المتصوفة وجعل المنبر تكية في باب الجامع وليس داخله كقولهم : منابرنا مع الله تكية نطير منها لنتوحد في عطره ورحمته ومحبته.
فكان الاشكال عليهم في هذا قول السلطة : أنكم تبتعدون عن ناصية ما خطط له النبي داخل حرمة الجامع وغادرتم منبره الذي اسسه في المدينة ليكون جمعا للمسلمين . فرد أحدهم : نحن خرجنا لأنكم تشهرون عليها السيوف ونحن نريد أنْ نشهر الكلمة والورد ، فرموه بزندقة وصلبوه.
في العولمة ، عصر مايكروسوفت وهاتف الكلسي 4 وفضاءيا ت بعدد سكان الصين والبحرين انتشرت معها المنابر بذات السعة التي انتشرت بها نشرات الاخبار ولكن ظهرت ظاهرة التشظي في هذه المنابر من خلال اختلاف الخطاب وقصده ، ودخلت السياسة اكثر من أي وقت مضى في توجهات تلك الخطب لتتحول في الكثير من مقاصدها الى دعوة اعلان حرب وتكفير الاخر وزرع الغلة والتفريق بين البشر.
مرات اسمع موعظة فأستطيب لها ولكنها تبقى موعظة تهذب القلة من العاقلين والمهتدين ولكن حين اسمع موعظة ( الحماس ) والدعوة الى جهاد يكون عنيفاً في اغلبه ارى الافا من الشباب ترفع اكفها مؤيدة هذا الخطيب في تحريضه على بني جلدته واهله بحجج تتراوح في اشكالياتها بين ( متعاون مع المحتل ، روافض ، نواصب ، فسقة ، علمانيون ، فرس ، يهود ، بيزنطنيون ، شيوعيون ) وغيرها.
ويبدو أن المنبر التكفيري الموسوم بعولمة خفية وآخر بدافعه الباطني والتأريخي يسيطران على اغلب المنابر التي لم تحسمها بعد وتعود الى رؤية التوحيد في أول خطاب نبوي للتبشير بمكة…!