23 ديسمبر، 2024 11:30 ص

(المملكة السوداء).. عوالم محمد خضير المتوارية

(المملكة السوداء).. عوالم محمد خضير المتوارية

بعد مرور أكثر من قرن على نشأة السرد العراقي، وما رافق تلك الرحلة الأدبية من نجاحات وإخفاقات، وحجم ما عاناه السارد العراقي طيلة مسيرته الإبداعية، من ضعف الإمكانات المادية وتكميم الأفواه من قبل السلطة، والتقنينات القسرية المفروضة عليه في اختيار القضايا التي يتناولها في منجزه الأدبي، إلا إن رواد السرد على امتداد هذه العقود الطويلة استطاعوا أن يشيدوا لنا صرح أدبيا كبيرا، وان يضعوا بين أيدينا خزينا أدبيا ومعرفيا ضخما، أمثال ( عبد الملك نوري، ذو النون أيوب، غائب طعمة فرمان، احمد خلف، محمد خضير، فؤاد التكرلي، شاكر خصباك ) .. وهنا أود تسليط الضوء على منجز أدبي لقامة من قامات القصة العراقية الحديثة.. القاص محمد خضير ورائعته المجموعة القصصية ( المملكة السوداء) التي صدرت عام 1972.
شكل أدب محمد خضير ظاهرة متميزة في السرد القصصي العراقي الحديث، منذ نهاية ستينات القرن الماضي، فقد استطاع هذا القاص رسم معالم جديدة وفريدة في عالم القصة العراقية، من خلال صناعته لمنهجية تفرد بها عن جيل عصره والأجيال اللاحقة، وأسس لاتجاه سردي جديد يحمل الكثير من التعقيد لكنه في نفس الوقت يشكل عنصر إثارة وتشويق للمتلقي والذي أطلق عليه ( الواقعية الافتراضية)، هذا الواقع البديل الذي أوجده محمد خضير ليواكب الواقع الفعلي لزمان ومكان النص القصصي، ويمتد معه ليشكل أشبه ما يكون بالرؤية والحلم أو عرض سينمائي داخل سياق السرد الحكائي، سمح لقلمه بالإبحار بعيدا في مجاهيل النفس الإنسانية، واستطاع تصوير ردود أفعالها وتصوراتها وأحلامها ومخاوفها بطريق أكثر عمقا وتعقيدا، وذهب بنصوصه الى مديات اكبر وأوسع ليبرز الجانب الآخر من الإنسان وعلائقه الاجتماعية.. إلا أن هذا العالم الافتراضي لم يحل بديلا عن الواقع، بل سار معه بخطوط متوازية ، متواريا مختبئ يطل برأسه في لحظات مفصلية من النص فيجذبه نحوه بقوة، في حلقة رقص مولوية هائمة بين
الخيال واللغة، ثم يتوارى مرة أخرى ليعود النص إلى ارض الواقع.
إن الواقع الذي اقتنص منه محمد خضير ثيمات قصصه، هو غالبا ما يكون كلاسيكيا رتيبا يسير وفق متوالية اجتماعية لم تتغير ملامحها لعقود طويلة، ومثل هكذا مجتمعات تقليدية لا تفرز جدليات كبرى، وكان من الصعب على أي قاص إن يجعل منها عامل اثارة وتشويق، ومادة دسمة لنص أدبي يحمل أبعادا فكرية واجتماعية ونفسية عميقة، ما لم يخرجه من دائرة المنطق، ويحشره في هوة مجاهيل النفس الإنسانية، وتخيلاتها وأحلامها ورؤاها، ويقفز به بعيدا عن حيزه المادي، لذلك لجأ محمد خضير إلى واقع بديل يداعب الخيال ويضفي مسحة أكثر عمقا ونضوجا على نصوصه القصصية، كما فعل غابريل غارسيا ماركيز بتاسيسه لاتجاه (الواقعية السحرية ) في الأدب اللاتيني.
في مجموعته ( المملكة السوداء) رسم لنا القاص معالم جديدة لبيئته وحدد اطر فكرية أراد لها أن تكون محورا مهما في اغلب قصص المجموعة من خلال واقعية مفترضة، وعوالم متوارية خلقت اجواء غرائبية، كان للغة تأثيرها الكبير في خلق هذه العوالم وسوقها نحو قصديتها الفكرية والنفسية .. في ثلاثة عشر قصة قصيرة توزعت على قسمين، كانت سمة الانتظار هي الغالبة والسائدة على المشهد العام للمجموعة، كان أبطالها أناس بسطاء حالمين منتظرين مسلوبي الإرادة، يعيشون عزلة نفسية فرضها عليهم واقع منغلق على نفسه، فقدوا فيه أدوات صناعة صيرورة جديدة لمصائرهم الحزينة، لذا نجد أجواء المجموعة لا تخرج عن حيز ( الأقبية، السراديب، السلالم المظلمة، الباحات المعتمة، الآبار، الغرف الرطبة، محطات القطارات الشبه خالية، القطارات الليلية).. وظواهر صوتية تخللت البناء الهرمي لنصوصها.. ( وقع خطى مجهولة، أصوات، عواء، موسيقى جنائزية، خرير مياه، صراخ، رفيف أجنحة طيور…) يرافق هذا عوالم افتراضية مليئة بالرؤى والتخيلات ينقلها القاص من عوالم أخرى، عوالم ساحرة متوارية لا يدركها إلا من يعيش تلك اللحظات المفصلية العابرة في حياته، بمعزل عن محيطه
الحسي، عوالم متخمة بالخيال والظلمة، كائنات تخرج من العدم لتعيش عوالمها كما تراها هي، لا كما نتصورها نحن.. ( عناكب، ضفادع، عقارب، اسماك، خيول، ديكة، سلاحف …).
في قصة ( المئذنة) يحرك فينا القاص نوازع نفسية غائرة في قرارة أنفسنا، ويستفز جزئية تشكل حيزا كبيرا من طبيعة حراكنا الاجتماعي وعلاقتنا بالمكان والاخر، تلك المسحة التي تجذبنا الى عالم الأمس القريب وتثير في نفوسنا شجون جميلة، انه ( الحنين) .. امرأة متزوجة تزور نزلها القديم، لترى ابنتها الصغيرة التي تعيش هناك، لكن القاص لم يشر إلى طبيعة ارتباطها به، وعلاقتها بصاحبته، غير ان القارئ يمكن أن يستنتج، انه ربما يكون مكان لعلاقة غير شرعية ربطتها في الماضي بأحدهم، تتجول في النزل تدخل غرفتها القديمة بحنين طاغ لماضي نجهله تماما، ولكننا ندرك انه كان أجمل من حاضرها، تصعد إلى السطح، تطالع مئذنة جامع الحي القديم، تندهش لرؤيتها عش اللقلق الذي لم يفارقها لأعوام وقد تهدم وأوشك على التلاشي، عش اللقلق رمزية للسلام والعلائق الحميمية.. هو إشارة موت عالمها القديم واضمحلاله.. هذا الارتباط الحسي بالمكان ورمزيته نجده حاضرا أيضا في قصة ( المملكة السوداء) التي حملت المجموعة القصصية اسمها.. عالم بديل متواري يحيط بصبي صغير اسمه ( علي)، جاء ليزور عمته المريضة في بيت العائلة القديم ، ليسألها عن ارث أبيه، بعد سنوات من موته، كانت جدران المنزل تعج بالأشباح والرؤى الغريبة ( عناكب، اسماك، عصافير، خيول..) عالم افتراضي يرافقه خلال مسيره من باب البيت إلى غرفة عمته، ثيمة برغم بساطتها إلا إن القاص استطاع تحميلها عبا ثقيل لتركة كبيرة وارث اجتماعي تراكمي مر به هذا المكان، حين كان بيت الأسرة الكبير.. لم تخلو القصة من الإيحاءات الجنسية التي كانت تعانيها عمته، كنتاج لا إحساسها العميق بالفراغ والوحدة وحاجتها إلى الآخر ( الرجل) لسد هذا الفراغ، كان لحضور الأسماء داخل النص إشارة مؤثرة قد تحمل بعدا مثيولوجيا .. بعد حوار قصير مع العمة توافق على إعطائه ارث أبيه، ليكتشف انه عبارة عن صندوق صغير لا يحتوي إلا على، مسبحة وقنينة كحل وقلادة
رخيصة، لم تكونا لامه بل لزوجة أبيه الثانية، وخنجر ابيه القديم وصورة رجل غير واضحة المعالم، أخبرته عمته انها تعود لأبيه الميت.. هذه الوحدة والحاجة للآخر نجدها تتكرر في قصة (نافذة على الساحة) التي حاول القاص فيها أن يسلط الضوء على جدلية (الانتظار) ببعديها النفسي والسلوكي على الإنسان، امرأة تنتظر زوجها الذي هجرها منذ سنوات، هذه الحاجة الكبيرة له ولدت لديها حالة من الهذيان الفكري، جعلتها تقص حكايات غرائبية على الآخرين، عن ثور تزوج من امرأة أرملة، وعن خيول تهاجمها وتطرق علبها الأبواب ليلا ..انتظار غارق بحاجة جنسية لامرأة وحيدة ..( ولكني اسمع من يطرق علي الخشب في آخر الليل.. المرأة لا تقدر أن تبقى لوحدها طويلا).. ويبقى الانتظار يشكل هاجس يعيشه اغلب أبطال محمد خضير ، في قصة (الشفيع) يكون للانتظار طعم آخر، مزيج متجانس من الأمل والمعانات ولحظات هيام روحية ، تنصهر في بوتقة الانتظار، عبر مشهد بانورامي يصور تلاقح جميل بين مراسيم العزاء الحسيني ولحظات انتظار الولادة، لامرأة حبلى تنتظر مولودها الجديد، وفتاة صغير تجلس بقربها تحاول تدوين المراثي الحسينية التي تسمعها، صورة رمزية كبيرة للتفاعل الحسي والايدلوجي في لحظة الولادة التي تمثل حلقة مفصلية بين عالمين ، ونقطة تداخل بين النهاية والخلاص وبداية مشوار جديد في الحياة، يقف بجانب هذا المشهد فتاة تحاول تاصيل هذا المعنى الوجداني واستمرار يته، كانت سينوغرافية المكان ( الدهاليز، السلالم المظلمة،الباحات المعتمة ) تنسجم مع مظاهر الحزن التي تغلفه ، لحظة الانتظار التي هيمنت على المشهد العام للنص، رافقها واقع بديل سار بموازاته، رؤى لامرأة تنتظر مولودها تعيش لحظة هيام دينية حزينة وتشبث بعالم آخر تؤمن بأنه سيوصلها إلى ما تريد، حين تستحضر برؤية غرائبية واقعة الطف في كربلاء .
من الملاحظ إن رمزية الخيول جاءت ضمن سياق السرد القصصي لتشكل إشارة إلى الرجل والفحولة، وقد اتضح هذا المعنى في قصة ( أمنية قرد) التي تناولت جزئية صغيرة من يوميات فتاتين تعيشان بمفردهما في غرفة صغيرة وتعملان في معمل حكومي للخياطة
تعانيان الوحدة والفقر والعزلة الاجتماعية.. تجلس إحداهن قرب النافذة المفتوحة التي تطل على شارع شبه فارغ ، إلا من رجل غجري يحمل قردا، وهنا يسحبنا القاص إلى النقطة الحرجة في طبيعة هذه العلاقة الطارئة التي نشأت دون قصد بين الفتاة والغجري، حين قرأ الغجري بفراسته المثيولوجية المتوارثة حاجة الفتاة للاخر .. ليطلب من القرد ان يصنع حركة (زوجة السلطان) التي أثارت نوازع جنسية كبيرة لدى الفتاة، حتى تخيلت أن الخيول المرسومة على اللوحة المعلقة بجوارها، تهجم عليها وتجتاحها).. في قصة ( حكاية الموقد) يأخذ الانتظار منحى آخر، ترقب جماعي لأسرة فقيرة تنتظر عودة ابن غائب وزوج غائب، يجلسون حول الموقد في ليلة شتاء باردة، ينصتون لصوت القطارات العائدة، عسى أن تحمل لهم معها البشرى ..( كانوا جميعا في انتظار احد.. غريب يطرق، أو غائب يعود لبيته) .. نلاحظ في هذه القصة القصيرة تداخل الأحداث والحوارات فيها، وكثرة القطوعات والتفسيرات التي يلجا إليها القاص لتوضيح أمر ما، وتكرار ظاهرة الخروج عن سياق السرد ثم العودة مرة أخرى، حتى تجاوزت هذه القطوعات العشرين، وهي تقنية لجا إليها القاص لترسيخ ثيمة الانتظار وتأثيرها على النمطية النفسية والسلوكية لهذه الأسرة المترقبة، التي تشتت اسماعها بين حديث جارتهم العجوز وقصصها الفنتازية، وبين أصوات القطارات المحملة بالأمل والترقب :
* قالت الجدة المضطجعة: انه لا يأتي بقطار حمولات.
* قالت الأم : بل يأتي في القطار السريع.
* قالت الجارة: ولكنه سيحصل على إجازة في يوم ما.
شكل القطار محورا مهما لعوالم محمد خضير البديلة، فنجده يتكرر ضمن متوالية سردية كرمزية واضحة الدلالة عن ( الغربة والانتظار والوحدة).. في قصة ( تقاسيم على وتر الربابة) امرأة تنتظر زوجها التي غيبته عها ساحات الحروب ، ليعود إليها في إحدى ليالي انتظارها المضني .. لكنه يحمل في ثناياه جروح جسدية ونفسية افقدته القدرة على فعل أشيائه الجميلة ، الاقتراب منها، وعزفه للربابة.. وهنا نجد حضور القطار كرمز للانتظار والوحدة والترقب..( بعد أن
هبط درجات عربة القطار النازل، شاهد خزان الماء خلال ظلمة المحطة، كزهرة حديدية مبللة)..وهنا تاخذ القطارات حيزا اكبر لتهيمن على عنوان القصة ( القطارات الليلية) .. رجل وامراة في عالم افتراضي، تنتقل مشاهد الاحداث بين مسرحين هما صالة سينما وعربة قطار ليلي، قطارات ليلية تاتي وتغادر في محطات مهجورة ، يجلسان في عربة قطار مظلمة يستوقفهم شبح امراة ، ترتدي عباءة سوداء، تنتظر زوجها الذي غيبته جبهات القتال، تتشبث بالعابرين لتحملهم رسائل فارغة اليه وبلا عنوان..( كان شبح امراة ذات هالة مغبرة، قرعت يدها احدى النوافذ، اطل جندي من مقعده خلف النافذة إلى الأسفل، ثم انزل الزجاج وسمع صوتا مكتوما):
* هل ستسافر إلى الجبهة.
* لماذا ؟
* لدي رسالة ؟
* لمن ؟
* لزوجي.
يقول الدكتور علي جواد الطاهر ( يجب ان يمتلك الروائي أو القاص القدرة على التنبؤ) .. وهذا ما نلاحظه من قدرة محمد خضير على تصوير مأساة الحروب وتأثيرها على البناء الاجتماعي والنفسي، على الرغم من إن المجموعة كتبت بين ( 1969-1972) وفي تلك المرحلة لم يشهد العراق حروب حقيقية ، كما شهدها بعد عام 1980 باستثناء حرب الشمال ومشاركة الجيش العراقي في حرب 1967 ، لكن على الرغم من ذلك نجد محمد خضير قد غاص في هذا الجانب وأولاه أهمية كبيرة في عدة قصص في مجموعته هذه، واستطاع بحرفة كبيرة من تصوير حجم المعاناة التي خلفتها على نفسية الفرد العراقي، وهي أشبه ما تكون بنبوءة قاص مثقف واعي يعرف ما يدور من حوله، فنجد قصص الحروب وتداعياتها حاضرة بصورة واضحة في قصص ( تقاسيم على وتر الربابة والقطارات الليلية والتابوت والأرجوحة) في قصة (الأرجوحة ) عائلة ريفية تنتظر عودة ابنها من جبهات القتال، الذي طال انتظاره، ليزورهم عن حين غفلة صديقه، الذي عجز عن أخبارهم بمقتله.. وفي قصة التابوت ،
يصور القاص مأساة الحروب من منظار آخر، عبر رحلة افتراضية لجنازة جندي مجهول الهوية، تتقاذفها المحطات وعربات القطارات، تنتظر من يتعرف عليها، وينتشلها من غربة فقدان الهوية، وقد حملت القصة بعدا رمزيا، حين يقترب صبي صغير من تابوت ذلك الجندي القتيل، ليرفع غطائه دون إذن ويطالعه، ثم يغادر مسرعا، ليأتي حملة التابوت ويضعونه في عربة قطار، ويرحل إلى محطة أخرى.. إنها النهاية والصيرورة الجديدة، التي تتكرر في قصص محمد خضير.