قصة قصيرة
كان جالسا على سرير ثمين في القصر يفكر في احداث اليوم العجيبة:
” ما هذه التقاليد! لماذا اجتمع كل الناس امام باب المدينة ؟
لماذا بمجرد ان رأوني، هرعوا إليّ جميعاً ؟
لماذا حملوني على اكتافهم وجاؤوا بي الى القصر وأجلسوني على العرش؟
اليس لهذه المدينة حاكم او ملك؟
…ربما اشتبهوا بكوني شخصا آخر! ”
***
كان كل شيء بالنسبة اليه اشبه بالحلم.
عندما دخل المدينة لأول مرة صباح ذلك اليوم لم يكن يتخيل ما سيجري له.
في الصباح دخل المدينة مسافراً وحيداً متعباً
وبعد ساعة… اصبح ملك هذه المدينة!
***
مرت الايام واحدا بعد الاخر،
كان دائماً حائراً في تفسير ما جرى له ذلك اليوم؟
كيف اصبح ملكاً بهذه السهولة؟
ولماذا اختاروه هو دون غيره؟
هل في الامر خدعة؟
اسئلة كثيرة تدور في ذهنه…..كان السؤال يبدأ في ذهنه بأداة استفهام لا تلبث ان تزاحمها لتحل محلها اداة استفهام اخرى ثم تترك مكانها لاداة استفهام ثالثة…
…..ماذا ؟ ….لماذا؟…..كيف؟ …متى؟….اين؟ ….من؟…ماذا؟… لماذا ؟…..كيف؟
لم يكن يعرف كيف يرتب الاسئلة حسب الاهمية. كل الاسئلة مهمة. لا يستطيع ان ينظم سلّم اولويات.
اخيراً تمكن من دفع كل الاسئلة من واجهة عقله ليضع محلها سؤالاً وجده الاجدر، لأنه مفتاح الاجابة على باقي الاسئلة.
اقتنع بتفوّق ذلك السؤال على غيره
انه سؤال مفتاحي، او السؤال الملك، اذا عرفه اصبح الجواب على باقي الاسئلة سهلا، او على الاقل ممكناً.
السؤال الملك هو: لمن يتوجه بأسئلته؟
ثم تفرّع السؤال الملك الى اسئلة اخرى:
كيف أسال؟…متى أسال؟…أين أسال؟
كلما التفت لأحد لكي يساله انحنى له إجلالاً ثم رفع رأسه وخاطبه:
– مولاي صاحب الجلالة
يحار كيف يساله!
كاد في احدى المرات ان يقول بكل عفوية:
– قل لي لماذا اصبحتُ صاحب الجلالة؟
لكنه سرعان ما ادرك استحالة الحصول على جواب.
بقي السؤال المفتاحي، او السؤال الملك يحيره:
من أساله عما انا فيه؟
هل يمكن ان يسال ملك حاشيته كيف اصبحتُ ملكا؟
….من أسال..؟
من أسال؟
اخيراً قرر ان يضع حداً لهذا العذاب. سوف يسال اي احد في القصر، وليكن ما يكون. التفت الى الحارس عن يمينه فسأله بكل بساطة وبدون مقدمة:
– قل لي: لماذا اختاروني ملكا؟
– مولاي صاحب الجلالة.
ولم يزد على هذه الجملة التي قالها بعد ان انحنى حسب الرسوم الملكية!
وعندما جرب ان يسأل آخرين في القصر حصل على نفس الجواب وبنفس النص وبنفس العدد من الكلمات:
– مولاي صاحب الجلالة.
استبدل السؤال المفتاحي ” من اسال؟” بسؤال مفتاحي اخر هو:” أين أسال؟” لأن السؤال في القصر لم يجد له جوابا.
عليه ان يسال في مكان اخر.
***
وفي أحد الايام… .
خلع الملابس الملكية سرّاَ وارتدى ما يلبسه عامة الناس في المدينة وتسلّل خارج القصر متجها الى السوق حيث اندس بين الناس.
في زحام وضوضاء السوق كان كل انسان مشغولاً بشأنه.
نظر بفضول الى ما حوله وفجأةً احس بيد دافئة على كتفه.
تسمّر في مكانه.
أدار رأسه فرأى شيخا وقورا.
– ” جلالة الملك! المفروض ان تكون الآن في القصر. ماذا تعمل في السوق بهذه الحالة التي انت عليها؟! ”
اضطرب بشدة. لم يعرف كيف يجيب. لقد عرفه الشيخ الوقور. قال بصوت متقطع:-
– كنت اريد.. كنت اريد.. انت تعلم أنه…
ابتسم الشيخ وقال: من اليوم الاول كان واضحا انك انسان ذكي. لابد انك تريد ان تعرف ماذا يجري في المدينة وما هو سبب السلوك الغريب لسكان هذه المدينة. اليس كذلك؟
– أ….أ….نعم…ربما….اقصد…
– إصغ إليّ جيداً لأشرح لك الامر:
اهل هذه المدينة – وبحسب تقليد تاريخي- يتجمعون عند باب المدينة في يوم معين من كل عام. وعند وصول أول داخل للمدينة يتقدمون نحوه ويحملونه على الاكتاف ليجعلوه ملكاً عليهم، يطيعونه ويلتزمون اوامره بدقة لمدة عام كامل، وفي العام القادم يجتمع الجميع عند باب المدينة ليختاروا ملكاً جديدا.
– وماذا يحصل للملك السابق؟
– يحملونه على سفينة ويرحّلونه الى جزيرة حيث يتركونه هناك.
– وهل يعلم الملك السابق ذلك؟ وهل يعلم الملك الجديد ان سلطته لا تدوم اكثر من عام؟
– لقد قلت هذا الامر للملوك السابقين، لكنهم لم يكترثوا لما قلت.
– وهل تعلم اين تقع هذه الجزيرة؟
– استطيع ان أدلّك على موقعها إن أردت…
***
قضى الملك ليلته ساهرا يمشي جيئة وذهابا في القصر ويفكر:
استطيع ان اعيش في هذا القصر سعيدا لمدة عام كامل واستمتع بالحكم والسلطة. فكل شيء في المدينة تحت سلطتي. اساساً لا يوجد سبب للتفكير بالمستقبل، لا ينبغي ان ازعج نفسي… . ولكن لمدة عام واحد فقط؟! بعد ذلك ماذا أفعل؟ اذا اردت ان اقضي هذا العام بالاستمتاع، فسوف ابقى في تلك الجزيرة بلا ماء ولا طعام، بدون منزل ومأوى، كيف سأعيش؟
كان خياراً صعباً. راحة عامٍ وشقاءٌ دائم؟ أم تعب عامٍ وراحةٌ دائمة؟
واخيراً، وقبل الصباح وصل الى قرار نهائي.
اعتبارا من اليوم التالي، والى جانب اعماله اليومية في تصريف شؤون الحكم وسعيه المخلص لحل مشاكل الناس، تمكن – بمساعدة الشيخ الحكيم- من العثور على عدد من الاصدقاء المخلصين حيث اطلعهم على خطته التي وضعها. لقد بدأ باعطاء الهدايا التي يقدمها له الناس الى هؤلاء الاصدقاء لكي يشتروا بها مواد بناء، فسائل و شتلات اشجار، وقطعان ماشية. ولم يحتفظ بأي شيء من امواله في القصر.
ومنذ ذلك الوقت كان بين الحين والحين يرسل سراً سفينة من ساحل المدينة الى الجزيرة لتنقل ما تجمّع لديه من مواد البناء والفسائل وشتلات الاشجار وقطعان الماشية. وكان يرسل من قصره عمالا وفلاحين الى تلك الجزيرة و… .
جرت الامور هكذا حسب الخطة التي وضعها الى أن…. وفي إحدى الليالي:
شعر نصف الليل انه لا يستطيع ان يحرك يديه. عندما فتح عينية رأى منظرا عجيبا لم يكن يصدقه. فقد تقدم منه حراس القصر وبحزم وسرعة اوثقوا يديه وقدميه لكي يأخذوه معهم.
– عفوا يا جلالة الملك! لقد انتهت فترة حكمك هذه الليلة وعليك الان ان تأتي معنا.
– اعطوني فرصة لكي أتهيّأ.
– مع الاسف، لا يمكن ذلك.
– اذاً على الأقل اسمحوا لي ان آخذ لوازمي الشخصية… .
– متأسفون جداً! ليس ذلك مسموحاً. لقد انتهت فترة ملكك وعلينا ان ننقلك على الحالة التي انت فيها.
عندما حملوه الى خارج القصر وسط الجماهير الحاشدة التي كانت تنتظر وداع ملكهم لإلقاء النظرة الاخيرة عليه وقعت عينه على الشيخ الحكيم الذي كان ينظر اليه نظرة رضا.
***
عندما وصلت السفينة الى الجزيرة الموعودة انزل ملاحوها الملك على الساحل وتركوه وعادوا. لم يكونوا يعلمون ان عددا كبيرا في الجزيرة كانوا ينتظرون صديقهم العزيز، حيث اعدوا قصرا جميلا واسعا ليسكن فيه الملك القادم الى هذه الجزيرة.
***
اما الشيخ الوقور فواصل مهمته المعتادة، التطواف في الاسواق والازقة والمجالس العامة وهو يكرر على مسامع كل من يلتقي به:
انما الدنيا دار مجاز،
والآخرة دار قرار،
فخذوا من ممركم لمقركم