-1-
في دهاليز السياسة وفي أروقة الحكّام غرائب ، قد لايستطيع المرء للوهلة الأخرى التصديق بها ..!!
والمستور من تلك الغرائب هو الأكثر ..!!
ومن ذلك أنّ السلطان لا يتورع عن التجسس حتى على أخيه فكيف بالآخرين ؟
واذا كانت عملية التجسس – كما هو معلوم – مذمومةً ومنهيٌّاً عنها شرعاً، فانها تُعتَمَدُ بشكلٍ مُكثّف ، قديما وحديثا ..!!
وقد اختُرعت الأجهزة المتطورة لرصد كل شاردة وواردة ..!!
-2-
حين أرسل (المأمون) أخاه (المعتصم) الى مصر واليّاً ، بَحَثَ عن رجل (يتقدم اليه سرّاً بأخباره ، وما تجري عليه أمورُه ، وما يُظهر ويُبطن ، وما يرى من أمور قوّاده وخاصتهِ ، وكيف تدبيرُهُ في الأموال وغيرها )
واقترح ” يحيى بن أكثم ” على (المأمون) اأنْ يكون (احمد بن ابي دُواد) هو الرجل الذي تٌعهد اليه هذه المُهمة .
وهكذا كان …
وقد جمع المأمون بين (المعتصم) و(أحمد بن أبي دُواد) وأبلغه بتعيين (ابن ابي دُواد) ليتولى المظالم في عسكره …
والمهمة المعلن عنها شيء والمراد القيام به شيء آخر ..!!
وهكذا تتعدد المهمات لتكون بعضها سرّية لا يكشف عنها للناس، بينما تكونُ المعلنةُ شيئاً آخر ..!!
وانتظر (المامون) تقارير (ابن ابي دُواد) طويلاً دون ان يصل اليه شيء منها ، فانزعج وأنبّ (يحيى بن أكثم) على تسميته (لابن أبي دُواد) الذي لم يقم بتنفيذ ما أمره به !!
ثم أمر ( المأمون) (عمرو بن مسعدة) أنْ يكتب الى (المعتصم) يأمره بان يبعث (احمد بن دُواد) مشدودةً يدُه الى عنقه مثقلا بالحديد ،
محمولاً على غير وطاء “
ولقد وَجَدَ (أحمد بن ابي دُواد ) (المعتصم) مغموماً لوصول ذلك الكتاب اليه وقال له (المعتصم) :
” أعفيك من الغلّ والحديد ، وأحملك على حالٍ توهنُكَ ولا تؤلمُك “
واستمهله (ابن أبي دُواد) أنْ يذهب الى منزله قبل التوجه الى (المأمون) فأذِن له .
وحين ذهب اصطحب معه رسائل يحيى بن أكثم التي كانت تطالبه بتنفيذ ما أُمر به من قبل المامون والاسراع بارسال التقارير …
وَأَطْلَعَ (المعتصمَ) عليها ، وقال :
” انما بعثتُ لأكتب بأخبارك، فخالفتُ ذلك لما رجوتُه من الحظوة عندك ، وما أملتُه من غَدِكَ “
فقدّر المعتصم موقفه ولم يبعث به الى المأمون ، ولم يزل (احمد) معه الى أنْ آلت اليه الخلافة .
والمهم هنا :
التركيز على الطريقة التي حصل بها (احمد بن ابي دُواد) على المنصب المرموق، الذي أسنده اليه المأمون ، حيث أظهر كامل الاستعداد لتنفيذ ما أراد، وقال له بالحرف الواحد :
(مَنْ يعمل بغير ما يؤدي الى محبتِكَ ، ويقود الى إرادتِكَ ، فأذاقه الله بأسَكَ، وألبسه نكالَكَ ، وصَبَّ عليه عذابك )
ولكنه بعد ذلك ، غامر مغامرته، ولم يف بشيء مما أراده المأمون، وآثر الانحياز الى (المعتصم) .
والملاحظ ان الحكّام يُشدّدون العقوبة على مَنْ خالفهم، ولكنهم ينسون عقوبات الله لهم على مخالفتهم لأوامره ونواهيه …!!
وهذه هي سَكْرةُ السلطة .
عانى (العراق الجديد) من هذه الحالة أشدّ المعاناة، فهناك مَنْ تسنم مناصب حساسة وخطيرة، مُدعيّاً أنه أشد الناس حرصاً على مصالح الشعب والوطن ، بينما هو في الحقيقة أبعد ما يكون عن مُدعياته ، وأقرب ما يكون لمصالحه وامتيازاته ، ومصالح مَنْ دفعوا به الى الموقع الخطير الذي تبوأه ..!!
ان قسماً كبيراً من هؤلاء كانوا يمثلون “المعارضة” وهم أصحاب مواقع سلطوية عليا ..!!
وهنا يكمن التناقض
انّ على المسؤول ان يخلص العمل ليؤدي ما أنيط به من مهام ومسؤوليات على الوجه الأمثل ، وليس الحيلولة بين السلطة وبين تحقيق الانجازات والخدمات للمواطنين …!!
-3-
ان ” ابن ابي دُواد ” توّلى قضاء القضاة للمعتصم ثم للواثق ، وكان أَسنّ من (يحيى بن أكثم) بعشرين سنة ،
وقد رضي أنْ يتولى ديوان المظالم شريطة كتابة التقارير السرّية ..!!
وفي هذا القبول كشف صريح عن عمق حبه للمنصب ، وتعلقه الشديد بنيل الحظوة عند السلطان ولو باجتراح المعاصي والموبقات …
انها ليست صفةَ (ابن ابي دُواد) وَحْدَهُ ، بل صفة كل الانتهازيين والوصوليين في كل زمان ومكان …
صحيح انّه تمرّد على (المأمون) وانحاز (للمعتصم) ولم يكتب التقارير، ولكن هذا التمرد لم يكن بدافع من خشية الله ، أو النبل الأخلاقي، وانما كان بسبب الوضع الواعد (للمعتصم)، والقراءة المستقبلية التي تشير الى أنه سيكون قمة الهرم بعد أخيه، وعند ذاك يكون (لابن ابي دُواد) ما يكون من المقام والجاه العريض والمنصب الرفيع والثروة الطائلة …
واذا كان السذج من المواطنين يخدعون بألاعيب المحترفين السياسيين ، فان السلاطين أيضا يُخدعون بألاعيب بعض من يرسو عليهم الاختيار للمهمات الصعبة …!!
-4-
انّ الرجال أسرار ، ومن الصعب أنْ تصل الى كلّ تلك الاسرار .
ولا خير في من يتعهد للحُكّام بانجاز مشاريعهم المسمومة، ورغائبهم المحمومة، أيّا كانت البراقع التي يتستر بها، أو العناوين التي تخلع عليه لتلميع صورته واخفاء حقيقتِه …