23 ديسمبر، 2024 8:32 ص

الملك فيصل الثاني يحتفل بعيد ميلاده الرابع والثمانين

الملك فيصل الثاني يحتفل بعيد ميلاده الرابع والثمانين

من واقع مفترض
كان البلاط الملكي العامر في المملكة العراقية قد أتخذ ومنذ فترة ليست بالقليلة كافة الاستعدادات اللازمة للاحتفال بعيد ميلاد جلالة الملك فيصل الثاني، الرابع والثمانين، وأَعدًّت لذلك منهاجًا احتفاليًا خاصًا، حول ما سيقوم به جلالته من نشاطات محلية، ومشاركات شعبية، واستقبالات رسمية، كما اُتخذت الاستعدادات اللازمة في بغداد لاستقبال الوفود العربية والأجنبية التي ستحضر للتهنئة بهذه المناسبة ومشاركة الشعب العراقي هذه الفرحة.
ذروة هذه النشاطات التي ابتهج لها العراقيين من شمالهم إلى جنوبهم، غطّتها ونقلتها وسائل إعلام عديدة مرئية ومسموعة، محلية وأجنبية، منذ فجر صباح يوم 2/5/2019، وحتى ساعات الليل المتأخرة وبزوغ فجر جديد من أيام العراق، والآتي أحد التقارير الإعلامية المفصلة التي غَطّت ذلك الاحتفال ونُشرت في اليوم التالي منه:
الملك فيصل الثاني هو سليل الأسرة الهاشمية العلوية الشريفة، فهو ابن الملك غازي بن الملك فيصل الأول بن الشريف حسين شريف مكة حتى يصل نسبه إلى الإمام السبط الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله من زوجته فاطمة الزهراء بنت رسول الله محمد ﷺ.
في إشراقات صباح الثاني من مايس (أيار) 2019، بدأ الملك فيصل الثاني، يومه الطبيعي كأي يوم عادي، نشطًا دؤوبًا، باسمًا للحياة، مطمئنًّا على أبناء شعبه، ساعيًا إلى ارتقاء بلده، حالمًا بازدهاره وتطوره، يساعده الخيرين والنبلاء من أبناء هذا البلد. إلا أن ثمّة شيء سعيد حدثَ في هذا اليوم بالنسبة له شخصياً، يميّزه عن بقية أيام السنة، تلك هي إطفاء جلالته الشمعة الرابعة والثمانين من عمره المديد ليوقد محلّها شمعته الخامسة والثمانين.
ففي الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم الخميس، الموافق الثاني من مايس من عام 1935، ولِد أول ولي عهد للملك المحبوب غازي الأول، في قصر الزهور، سمّيّ الأمير(فيصل) تيمنًا بجده الملك فيصل الأول. وعمّ الفرح والسرور في كل أنحاء البلاد، لهذه الخبر البهيج. وفي شهر تشرين الثاني من نفس السنة جرى خِتانه في نفس القصر بحضور الأمير عبد الله بن الحسين، أمير شرق الأردن.
تَشاء أقدار الله لتميّز هذا الطفل عن بقية أطفال العالم ويصبح بين ليلة وضحاها، وهو بعمر أربعة أعوام، أصغر ملك في الكون، بعد وفاة والده الملك غازي المفاجئة، بحادث السيارة المؤسف ليلة 3/4 نيسان 1939، ويصبح خاله الأمير عبد الإله بن علي، وصيًا على عرشه لحين بلوغه الثامنة عشر من العمر…!
هذه السعادة والفرحة للملك في عيد ميلاده هي حالة اعتيادية وطبيعية، يتملّكها كل إنسان في هذه الدنيا وفي كل سنة وطوال حياته.
أما حالة المملكة العراقية في ذلك اليوم فهي حال أي بلد يزهو ويحتفل بعيد ميلاد مليكه، الذي طالما أحبوه حُبًا وراثيًا على حب والده الراحل الملك الشاب غازي، ومن ثمَّ تعاطفوا معه قلبيًا عندما أمسى يتيم الأب ثمَّ يتيم الأم، وتتويجه وجلوسه على عرش العراق في مثل هذا اليوم من عام 1953. فأعلام المملكة العراقية رُفعت في كل ساحات العاصمة بغداد وبقية الألوية (المحافظات) ورفرفت على كل السواري، وتوشّحت البنايات الحكومية والدوائر الرسمية بصور جلالته ويافطات عريضة وطويلة ومزركشة بعبارات التهنئة، وزُينت البنايات بالمصابيح الملونة والزينة احتفاءً بهذا اليوم الأغر

بعد أن تناول الملك فطوره الصباحي مع عائلته، ارتدى ملابسه الرسمية وتوجه إلى حديقة القصر الأمامية، قصر المُشرف (القصر الجمهوري) لتحية ألاف الجماهير التي قَدِمت من جانب الرصافة وتجمعوا في ساحة الملكة عالية (ساحة التحرير) ثمَّ اجتازت جسر الملكة عالية (الجمهورية) وانحرفت نحو حي كرّادة مريم، وفي ذات الوقت التحمت معها موجات بشرية قادمة من الكاظمية اجتازت جسر الأئمة واندمجت مع أهالي الأعظمية مرورًا بباب المعظّم من جانب قاعة الملك فيصل الثاني (الشعب) ووزارة الدفاع فشارع الرشيد، ثمَّ عبروا جسر المأمون (الشهداء) متجهين صوب القصر الملكي وتجمهروا أمامه، والتقوا وجهًا لوجه مع جلالته، وشخصيته المتفرّدة التي تدخل القلوب دون استئذان، حيث جددوا له البيعة الدائمة والولاء المطلق للأسرة الهاشمية الشريفة، والوفاء لعهده، متمنين له الصحة والسلامة وأن يحفظه الله وأسرته وعائلته من شرور الأعداء والمارقين، ويبقى عهده زاخر بالإنجازات الكبيرة وأن يسود الوئام والسلام كل أنحاء البلاد. في المقابل قدّم جلالته شكره الوافر لهذه الجماهير المخلصة والأبية داعيًا في الوقت نفسه أن يحفظ الله المملكة وشعبها من كل شؤم، وينعم عليها بالخير والعطاء الدائم.
كان جلالته قد وقّعَ إرادة ملكية سامية في ليلة عيد ميلاده تقضي بتخفيض مدة محكومية كل السجناء والنزلاء في دوائر الإصلاح، وتخفيض كل أحكام الإعدام الصادرة من المحاكم المختصّة إلى المؤبّد.
في الساعة العاشرة صباحًا اعتلى جلالة الملك فيصل العربة الملكية السوداء تجرّها أربعة خيول عربية أصيلة بيضاء، وخلفها أربعة خيول يمتطيها فرسان ببدلاتهم الحمراء وخوذهم البيضاء، ترافقه عقيلته الملكة فاضلة بنت الأمير محمد، وولي عهده الأمين الأمير غازي بن فيصل، متجهين صوب المقبرة الملكية في الأعظمية، أو الضريح الملكي كما كان يسمى.

المقبرة الملكية أنشئت بين عامي 1934 و1936، بيد المعماري البريطاني (G. P. Cooper)، -وهو نفسه الذي صمم القصر الملكي في بداية الخمسينيات-وبُنيَّ بأيادي (اسطوات) عراقية بأسلوب العمارة الإسلامية. المبنى فيه ثلاث قباب جميلة مكسوة بالكاشي (البَلَاط) الأزرق، ومزخرف بزخارف إسلامية وبفن معماري مميّز، حيث ترقد تحت ثراها الطاهر وقبابها، رفات عدد من أفراد العائلة المالكة.
لدى وصول موكب جلالته بوابة المقبرة، استقبله رئيس الديوان الملكي وموظفي الديوان والوزراء وعدد من الأعيان والنواب وكبار الشخصيات. بدأ بعدها الجوق العسكري الملكي بعزف السلام الملكي، (أعدَّ موسيقى هذا السلام، الميجر G.R. Mori عام 1924) بعدها فتّش جلالته حرس الشرف بملابسهم الرسمية المزركشة الذي اصطفّ على طول ممر المقبرة، ثم دخل إلى فناء المقبرة وقرأ صورة الفاتحة وترحّم على أرواحهم الطاهرة في أجواء روحانية مفعمة بالإيمان وأقدار الله تعالى في خيرها وشرّها. ثمَّ ووضع أكاليل من الزهور على ضريح كل منهم، وهم: جده الملك فيصل الأول، وجدّته الملكة حزيمة، وجده الملك علي، والدته الملكة عالية، ووالده الملك غازي، وعمّته الأميرة رفيعة، وخالته الأميرة جليلة، ورفيقي جَدّه الشهيدين رستم حيدر، وجعفر العسكري، ثمًّ تجوّل جلالته في فناءات المقبرة والحديقة الخلفية التي أعيد تجديدها وتحديثها بما يليق ومكانة أصحاب تلك الأضرحة.
لدى خروجه من المقبرة، تجمهرَ أهالي حي السِفينة وطلاب دار المعلمين وإعدادية الأعظمية، أمام المقبرة فضلًا عن طوفان جماهيري غفير من أحياء مدينة الأعظمية، لتحية الملك والملكة وولي عهده الأمين مهنئيه بعيد ميلاده الميمون، متمنين له العمر المديد وأن يحفظه الله وعائلته الكريمة. وردَّ جلالته التحية لهم بيده الكريمة وابتسامته المعهودة التي تملأ وجهه ولا تفارق محياه.
في الساعة الحادية عشر صباحًا استقلَّ الملك العربة الملكية مرة أخرى متوجهًا إلى ملعب الكشافة الكائن في منطقة الكسرة – ذلك الملعب الذي شيّده جده الملك فيصل الأول عام 1931-لحضور مهرجان رياضي أقامته مجموعة من المدارس الأهلية العريقة في بغداد، بهذه المناسبة، منها كلية بغداد، ومدرسة المنصور، وثانوية الأمريكان (ثانوية بغداد)، ومدرسة فرنك عيني (الإعدادية النظامية)، ومدرسة مدام عادل، وثانوية القديس توما (إعدادية دجلة)، وثانوية راهبات التقدّمة (ثانوية العقيدة)، وغيرها من المدارس الأهلية. وقبل أن يرتقي الملك فيصل المقصورة الرئيسية للإيذان ببدء المهرجان، ذهب إلى المقصورة الملكية العريقة التي تقع إلى يسار المدرجات، فالتمعت عيناه وهو يستذكر تلك الأيام التي كان فيها طفلًا يرافق والدته الملكة عالية لحضور مناسبات رياضية عديدة والجلوس معها في هذه المقصورة الخاصة.
الملكة عالية، هي الملكة القدّيسة التي حرصت على تربية ولدها الوحيد واحتضانه بكل حنان وتضحية ونكران للذات خلال حياتها القصيرة وغذّته بالفضيلة، وحب الخير للناس وهيّئته لكي يقوم بخدمة شعبه على أحسن ما يرام.
بعد انتهاء فعاليات المهرجان وتوزيع المداليات على الفائزين، بدأت المباراة النهائية لبطولة (كأس جلالة الملك) للمدارس حيث تنافس في هذه المباراة فريقا أعرق مدرستين هما الإعدادية المركزية التي تأسست عام 1919، والإعدادية الشرقية التي تأسست سنة 1932، وفي نهاية المسابقة وزّع جلالته الكؤوس على الفائزين.

غادر جلالته ملعب الكشّافة، ترافقه الملكة فاضلة، وولي العهد الأمير غازي، وودِّعوا بنفس الحفاوة التي اُستقبلوا بها من قبل وزير المعارف والقائمين على هذا المهرجان والجمهور الغفير الحاضر، واجتاز موكبه شارع الإمام الأعظم، فشارع الرشيد، حيث اصطفت الجماهير بشكل عفوي على جانبية لتحيته ومباركته، ثمَّ عبر جسر مود (الأحرار) ومرَّ من جانب تمثال جده الملك فيصل، فساحة المتحف متوجهًا إلى مطار المثنى لاستقبال ابن عمه جلالة الملك عبد الله الثاني، ملك الأردن، الذي قَدِم إلى بغداد بطائرة الخاصة (الملكية الأردنية) يرافقه في الطائرة عقيلته الملكة رانيا العبد الله، وولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله، وبرفقتهم أيضًا رفيق دربه في طفولته وصباه وعميد الأسرة الهاشمية في الأردن الأمير رعد بن زيد، أبن عم الملك غازي.
على أرض المطار عُزف السلامان الملكيّان الأردني والعراقي، بعدها سلّم الضيف والوفد المرافق له على كبار مستقبليه. توجّه الملك فيصل مع ضيفه الكبير الملك عبد الله الثاني وعائلته بسيارته الجديدة نوع (Rolls-Royce) والموكب الملكي المهيب إلى مقر إقامتهم في القصر الأبيض. حيث يحلّون ضيوف أعزاء على المملكة العراقية وشعبها
القصر الأبيض، الواقع مقابل بارك السعدون، في جانب الرصافة، هو قصر كبار ضيوف المملكة العراقية وكانت تحلّ فيه فيما مضى من أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي عائلة الأمير زيد بن الحسين، السفير العراقي في بلاط سانت جيمس البريطاني، كلّما قَدِم إلى بغداد ليحل نائبًا عن الملك والوصي أثناء غيابهما عن العراق.
أقام جلالة الملك فيصل، في هذا القصر مأدبة غداء كبرى، تكريمًا لضيوفه وأبناء عمومته والوفد المرافق له. وخلال المأدبة تبادلت العائلتين الأحاديث الجانبية والوديّة ومناقشة الموضوعات ذات الاهتمام المشترك واستعادوا فيه ذكريات الآباء والأجداد وخلصوا إلى ضرورة إعادة إحياء روح الاتحاد العربي (الهاشمي) بين البلدين الذي كان قد أُعلن رسمياً بين المملكة العراقية والمملكة الأردنية الهاشمية في 14 شباط 1958، ووقعه في عمّان في حينها جلالته مع جلالة الملك حسين (رحمه الله). كان هذا اللقاء بمجمله لقاءًا حميميًا خالصًا جمع الأسرة الهاشمية في عاصمة الرشيد. على أمل اللقاء في العاصمة عمّان قريبًا.

بعد أن ودّع الملك فيصل الثاني، ضيوفه في القصر الأبيض غادر موكبه، متّجهًا إلى مدينة المنصور قاصدًا شارع الأميرات وصوب قصر خالته الأميرة بديعة، ووصلها في الساعة الثالثة عصرًا، فكان في استقباله في باب القصر ابن خالته الشريف علي بن الحسين، ورافق جلالته إلى صالة الضيوف الكبيرة حيث تجلس الأميرة بديعة بنت الملك علي بن الشريف الحسين، فقبّل يدها ورأسها وهنّئها بقرب بلوغها المائة عام من عمرها المديد. واستذكر معها رعايتها له واعتنائها به حين فقد والده الملك غازي، وأصبح يتيمًا وهو بعمر أربع سنوات وبعدها بعقد من الزمن فقد والدته الملكة عالية، وأصبح يتم الأبوين، فكانت الأميرة بديعة وخالتيّه الأميرة عبديّة، والأميرة جليلة، وخالهِ الأمير عبد الإله، بمثابة الأب والأم الساهرين عليه ليل نهار، وأن ما يتمتع به الآن من صفات ومؤهلات حميدة هي ثمرة جهود والدته الملكة عالية، وجهودهم آنذاك، حتى بلوغه سن الرشد وجلوسه على عَرش العراق عام 1953.
الأمير بديعة، (أطال الله في عمرها) هي أكبر شخوص العائلة الهاشمية سننًا على الإطلاق ولا زالت على قيد الحياة وستبلغ المائة عام من عمرها المديد إن شاء الله في العام القادم 2020، كما أن ربيبة العائلة المالكة المدعوة رازقية، الحجازية الأصل والمكفولة من قبل الأميرة عبدية، لا زالت على قيد الحياة وتسكن بغداد، مكرّمة ومعزّزة لدى إحدى العوائل المعروفة.
ويُذكر أن رازقية، هي الناجية الوحيدة من بين حاشية قصر الرحاب في مجزرة 14 تموز 1958، بعد إصابتها بطلقتين ناريتين غير قاتلة في رجلها.

بينما كان الملك يقوم بواجباته الرسمية والشعبية في هذا اليوم الميمون وحسب المنهاج المقرر، بدأت الوفود العربية والأجنبية من ملوك وأمراء وأشراف وحكام، ورؤساء وزارات، وكبار الضيوف، تتقاطر على مطار المثنى للمشاركة في حفل الاستقبال الكبير الذي أقامه جلالة الملك فيصل الثاني وقرينته مساء ذلك اليوم.
من أبرز الشخصيات التي وصلت إلى بغداد، للمشاركة في هذا الاحتفال، جلالة الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانية وزوجها الأمير فيليب، دوق إدنبره، والأمير تشارلز ولي العهد. حيث حلّوا ضيوفًا أجلاء في قصر الزهور الملكي، الكائن في منطقة الحارثية مع الوفد المرافق للعائلة الملكية البريطانية.
قصر الزهور الملكي، هو القصر الذي بدء بنائهُ في عهد الملك فيصل الأول، بداية عام 1932، ووضع تصاميمه المهندس الإنكليزي jamis muwlisun walasun، واكتمل بعد وفاة الملك فيصل بفترة قصيرة فسكنه الملك غازي، وتزوج فيه ووِلد فيه الملك فيصل الثاني، وفيه أيضًا لفظ الملك غازي أنفاسه الأخيرة عام 1939، وتوفيت فيه الملكة عالية سنة 1950، بعد إصابتها بمرضِ عُضال. بعدها هُجرَ القصر حتى عام 1958، وأمسى فيما بعد قصرًا للضيافة ثمَّ متحفًا للعائلة المالكة في العراق وشاهدًا على تاريخها، حتى قصفه الغزاة الأمريكان عام 2003.

في الساعة الخامسة عصرًا زار جلالة الملك فيصل وعقيلته الملكة فاضلة، وولي العهد الأمير غازي، الأسرة الملكية البريطانية في مقر إقامتهم في قصر الزهور الملكي وتناول معهم الشاي في وقته (Tea Time) في الصالة الكبيرة حيث تبادل مع الأمير تشارلز ذكريات الماضي الجميل عندما زار الملك فيصل يرافقه خاله الأمير عبد الإله، لندن عام 1952، وتشّرف بزيارة العائلة الملكية البريطانية في قصر باكنغهام الكبير، المقر الرسمي لملوك بريطانيا وكيف كان يداعب الأمير تشارلز عندما كان عمره أربع سنوات وشقيقته الأمير آن، بعمر سنتين، في حدائق القصر الغناء.

ثمَّ أخذ يتحدث جلالته مع الملكة إليزابيث وزوجها الأمير فيليب، واستذكر معهما زيارته التاريخية لبريطانيا عام 1956، ولحظات ذلك الاحتفال الملكي المَهيب الذي لقيّهُ في محطة قطار فكتوريا من قبل جلالتها وشقيقتها الأميرة مارجريت، والملكة إليزابيث الأم والأسرة المالكة والشعب البريطاني الصديق، والوليمة الكبرى التي أقامتها الملكة على شرف جلالته في قصر بكنغهام.

غادر جلالته قصر الزهور، في الساعة السادسة مساءً متوجّهًا إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون في الصالحية –تلك المحطة الأول في الشرق الوسط والذي افتتحها جلالته في نفس هذا اليوم من عام 1956-وأذاع من هناك بيانًا موجهًا إلى أبناء الأمة، عبّر فيه عن سروره البالغ بما شاهده من الشعب العراق من مشاعر المحبة والوفاء التي تركَت أعمق الأثر في نفسه وإنه بفضل تآزرهم وتعاونهم الوثيق معه سيكون بوسعه تحقيق حاجات الشعب وما يعود بالمنفعة والخير على العراق، سائلًا المولى العلي القدير أن يأخذ بيد الجميع لما فيه عزّ البلاد.

في الساعة السابعة مساءً استقبل جلالته في القصر الملكي رئيس وأعضاء مجلس الإعمار، الذين جاءوا للتهنئة بعيد ميلاد جلالته، واستعرضوا أمامه المشاريع التي تمَّ تحققت خلال الفترة السابقة من عهده، وأهم المشاريع التي خُطّط لها وسيتم إنجازها خلال الأعوام القادمة، بما يحقق طموحات وأماني وأحلام جلالته لأبناء شعبه وبلده وما يستحقونه هم من رخاء وعزّ.

في الساعة الثامنة مساءً، استعدَّ ملك العراق الملك فيصل بن غازي، وملكة العراق الملكة فاضلة بنت محمد، وولي عهد الملكة العراقية الأمير غازي بن فيصل، لاستقبال المهنئين في الحفل الخاص والكبير، الذي أقامه في حديقة القصر الملكي الخلفية والمطلّة على ضفاف نهر دجلة الخالد الذي بدى بحلة مختلفة وأجواء مبهرة. حيث اكتسوا بدلاتهم الرسمية المسائية الجميلة، المزيّنة بالنياشين والأوسمة والأوشحة ووقفوا في الصالة الكبيرة للقصر بانتظار ضيوف العراق من الوفود العربية والأجنبية والشخصيات المدعوّة التي بدأت تتوجه نحو القصر الملكي وهم بكامل بدلاتهم الرسمية الأنيقة.
بعد أن اكتمل الحضور توجّهه جلالته مع ضيوفه الأكارم إلى حديقة القصر الخلفية الغنّاء والتي هُيّئت وزيّنت لهذا الاستقبال بأبها شكل، فيما سطعت الأنوار الكاشفة على نهر دجلة الخالد بمناظره الخلّابة، أما شارع أبي نؤاس، في الضفة الثانية من النهر والمقابل للقصر فقد أُنير بالمصابيح الملونة على طوله الممتد من جسر الملكة عالية وحتى الجسر المعلّق ومنه انطلقت أيضًا بكثافة الألعاب النارية المتلألئة، ابتهاجًا بالميلاد الميمون لجلالته.

على الرغم من أن الليل قد أرخى سدوله على مدينة بغداد، وضوء القمر بدء يُنير سمائها الصافية، إلا أن أي أثر لتوقف أفراح الشعب لم تلح في الأفق، واستمرت الموسيقى تنبعث من الأجواق ومكبرات الصوت ودور السينما والملاهي، وظلّت الطبول تُقرع والشباب تَرقص والناس تَفرح وأحياء بغداد ممتلئة بأهلها، حتى ساعات الفجر.
وهكذا انتهت ساعات النهار الطويلة القصيرة، وليلهُ المتأخر بنسماته، والمراسم الكثيرة والكبيرة والاحتفالات الشعبية والرسمية في بغداد وبقية الألوية، لكنها كانت سريعة ببهجتها، وشاملة بأفراحها.
خَلدَ بعدها الناس إلى نومهم الهانئ، مطمئنين البال قريري العين على أمل أن يصحو لفجر يوم مُشرق من أيام العراق الخالدة ولبعث حياة جديدة في حياة العراقيين وأن يروا مشاريع تنموية عملاقة قد اكتملت وجُهّزت، ومنجزات عديدة قد تحققت ونُفّذت على أرض الواقع، واستراتيجيات مستقبلية قد وضعت، ووعود صادقة وأمينة، لا تتغير ولا تتبدل، كل ذلك تحت ظلّ الخيمة الهاشمية الكبيرة وعمودها الساند، جلالة الملك فيصل الثاني.
عسى أن تتحقق هذه الأحلام الوردية، والرؤيا المستقبلية في القريب المنظور وتتحول إلى وقائع صادقة وحقيقية تلامس حياة العراقيين وينعموا بها دهور.
رحم الله جلالة الملك فيصل، والعراق والعراقيين.