25 مايو، 2024 12:20 م
Search
Close this search box.

الملك فيصل الأول صورة قلمية

Facebook
Twitter
LinkedIn

ما زال ممتطيا صهوة جواده، ويعتمر عقاله العربي ، هكذا يُرى الملك فيصل الأول اليوم في قلب بغداد ، على الرغم من مرور ( 79) عاما على رحيله ، فحين تنظر الى تمثال الملك المؤسس ينتابك الحزن على العراق الذي انتشله الفارس العربي فيصل من الخراب ، ولكن من جاء بعده لم يكن  يملك فلسفته السياسية وحصافته وأولوياته وتفانيه وإستيعابه المجتمعي. فعاد الخراب من جديد ، ولكن على صورة أكلح.      
كغيره من الزعماء يختلف عليه النقاد والكتاب بين من يصفه بزعيم عربي فذ أو الآخرالذي يتهمه بأنه صناعة بريطانية، الكتب التاريخية تذهب بما يؤيد هذا الرأي أو ذاك ، ولكن الموضوعية تقتضي التأنّي في إصدار الأحكام القطعية على زعيم يعد كواحد من أبرز القادة العرب الذين عرفهم التاريخ الحديث في القرن العشرين ، قاد العراق بحكمة تجلت بوضوح منذ تسنمه عرش العراق في ( 1921 الى حين وفاته في 1933).
اتبع فيصل سياسة حكيمة وواقعية في مشروع ( خذ وطالب) مع الانكليز، وسياسة ( المد والجزر) مع دول الإقليم القوية، وسياسة (المصالح النظيفة) مع العرب وسياسة ( فوق الميول والجهوية والإتجاهات) مع مجتمع الداخل الصعب المتنوع، حسب تعبير المؤرخ العراقي الدكتور سيار الجميل.
كان فيصل يرى أن العراق بحاجة لأولويات ملحة يجب تقديمها على غيرها حتى يغدو دولة محترمة بين الدول من خلال معالجة معضلتين اساسيتين واستراتيجيتين وهما أمن مجتمعه الداخلي واستقراره وثبات علاقاته الإقليمية مع جيرانه.
كان ذكيا في إختيار مستشاريه ، فهم من أفضل الكفاءات التي أحسن اختيارها لتكون ضمن حاشيته الملكية، واعتمد على النخب في إدارة دولته فكانوا من ألمع الرجال المهنيين الواقعيين، لذا نجح فيصل في بناء دولة دستورية عراقية قوية مؤسساتية مستقرة مستضيئا بما يؤمن به من أفكار راسخة كان يرددها في يقين كقوله ( كل عمل لايشيّد على أساس متين .. لاتقوم له قائمة).
زعيم ديمقراطي بكل معنى الكلمة ، ملكيته دستورية ، كرّس جهده كليا لمهمته في تحسين ظروف العراقيين والحفاظ على وحدة العراق فحقق نجاحات رائعة على شتى الصعد. فكان العراق في عهده دستوريا ، يتمتع بحرية الصحافة وانبثاق الاحزاب وولادة الفكر الحديث والتيارات الجديدة ، كما يعد عهده من أخصب العهود على الرغم من فقر العراق المدقع وارتباط العراق بالمعاهدات الثقيلة مع بريطانيا.
سلوكه السياسي والقيمي دليل على ذكائه وحنكته ، إذ أراد أن يوازن بشكل عادل بين ابناء المجتمع تجانسا خلاّقا باعطاء كل ذي حق حقه،  فلم يكن منحازا الى أي طرف عراقي دون طرف آخر ، فلم يكن طائفيا ولامذهبيا ولا عشائريا ولاجهويا ولا عنصريا … الخ فقد جعل الجميع في مرتبة واحدة ، وتعامل معهم تعامل أبناء وطن واحد ، احترم الجميع ولم يميز بينهم ، كان حريصا ودؤوبا في تشكيل الإنسجام بين العراقيين برفع مستوياتهم ووعيهم بالمواطنة وتعليمهم وانتشالهم من انتماءاتهم الضيقة،  وهذا ماخدم العراق كثيرا ، وكان هذا من حُسن حظ العراقيين فأتعب من جاء بعده من الحكام بسبب ضيق أفقهم أو إنفراديتهم أو تسلطهم.
تبنى فيصل مشاريع حضارية متنوعة كان يأمل من خلال نجاحها تعزيز فرص التلاقي الثقافي، والإدراك المتبادل ، والتفكير الذهني المشترك بين العراقيين ، وعلى أسس علمية ناجحة. وحمل للعراق مشروعا نهضويا متمدنا وبناء دولة وتحديث المجتمع ، وكان يمتلك امكانات سياسية ويتمتع بكاريزما الزعامة ، فكان مؤهلا تماما لحكم العراق .
كان مدركا لواقع الشعب الذي أراد النهوض به عندما سجل في أخريات أيامه ( أقول وقلبي ملآن أسى : إنه في إعتقادي لايوجد في العراق شعب عراقي بعد ، بل توجد تكتلات بشرية خيالية ، خالية من أي فكرة وطنية ، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية ، لاتجمع بينهم جامعة ، سمّاعون للسوء ، ميالون للفوضى ، مستعدون دائما للإنقضاض على أي حكومة كانت ، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعبا نهذبه وندربه ونعلمه ، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف ، يجب أن يعلم أيضا عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل ، هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي) عبد الرزاق الحسني ، تاريخ العراق السياسي الحديث 12/ 1 
الفلسفة السياسية وآليات الحكم الرشيد التي سار عليها الملك فيصل، يجب أن لاتغيب عن بال من  يتصدى لإدارة مصالح الشعب العراقي ، لعلها تكون حزمة ضوء تنير درب  الساعين الى الحكم ،ومفردات أساسية في قاموسهم السياسي المعاصر. فما أحوجنا اليوم الى قيادة واقعية كقيادة الملك فيصل الأول ، تنتشل العراق مما يتهدد وحدته ، ويقوّض آمال أبنائه في حاضر مستقر ، ومستقبل مزدهر.
إضاءة : ان فيصلا الاول كان عراقيا اكثر منه عربيا ، برغم كل دعواته الى اتحاد الامة ، فهل يستوعب العراقيون دروس التاريخ ويتعلمون من تجارب الماضي ، ومنها تجربة فيصل الاول من اجل بناء مستقبل من نوع جديد ؟ ( د. سيار الجميل المؤرخ العراقي من مقال له على موقعه الألكتروني بعنوان ( الملك فيصل الأول بعد سبعين سنة على رحيله) ، وكتابه الرائع ( جامعة آل البيت في العراق 1924- 1930) دار ضفاف 2012 والذي استفدت منه كثيرا في رسم هذه الصورة القلمية.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب