19 ديسمبر، 2024 2:20 ص

الملحمة الحسينية…والمشروعية الدينية

الملحمة الحسينية…والمشروعية الدينية

بعد أن نزا الطلقاء وأبنا الطلقاء على منصب قيادة الأمة الإسلامية بعد وفاة النبي (ص) قام هؤلاء الأدعياء بالكثير من الأفعال التي تنافي روح الشريعة المحمدية التي جاءت لتخلص الإنسان من عبادة الأصنام البشرية ومن عبادة المال والجاه؛ ومن أجل أن يعطي هؤلاء المشروعية الدينية لسلوكياتهم ولأفعالهم الشنيعة، قاموا بحملة كبيرة ومنظمة في الوقت نفسه من أجل تدجين الدين للسياسة الأموية، وجاءت هذه الحملة على عدة مستويات : منها الجانب الروائي، فقد جندوا عدداً من أصحاب الذمم المأجورة؛ أجل وضع الأحاديث على لسان الرسول الأكرم تذم كل من يخرج على إمام زمانه صالحاً كان أم فاجراً، وقد أغدقوا على هؤلاء الوضاع  آلافاً من الدراهم والدنانير، ومن الأحاديث  التي تروى في هذا المجال: عن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية ). صحيح مسلم .. وفي الوقت نفسه وضعوا أحاديث تشيد ببني أمية العدو الأول للإسلام منذ انطلاقته الأولى وروجوا، ومن تلك المستويات ترويجهم لمذهب الجبر، الذي يقيد الإنسان بالقدر الذي وقع فيه ويشله ويجعله يستسلم له ولا يحرك ساكناً أمام الواقع السيئ؛ لأنه على وفق هذا الفهم مجبور ليس له من الأمر شيء، وأوَّلوا الآيات القرآنية على وفق هذه الرؤية حتى أن أحدهم أخذ يستهزئ بوعي الأمة، ويقول: كيف أخلع قميصاً قمَّصنيه الله!!! ولقد استعانوا كذلك بالإسرائيليات والرواة اليهود الذين دخلوا للإسلام من أجل طعنه من الداخل، فبث هؤلاء الكثير الكثير من الأساطير والخرافات التي تلقفها بنو أمية لغرسها كالأدغال في بساتين الإسلام الأصيل، وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح، ولم يغير عليهم أحد إلا ما ندر، وأول من ثار بوجههم هو أبو عبد الله الحسين، إذ المشروعية الدينية والفتاوى المعلبة في مصنع وعاظ السلاطين جاهزة لتكفير وتضليل أي مسلم ينكر على الخليفة أو حاشيته، ولا ننسى التحشيد العشائري وإثارة النعرات الجاهلية في هذا العهد البائس، وإلهاء الجماهير المسلمة بالكثير من القضايا التي لا تنتمي إلى واقعهم بصلة، فانتشار الحس العشائري، كما قلنا، والقومي من جهة أخرى، وتشجيع المخرفين والقصاصين على جذب الناس إليهم والاهتمام بالمعارك الأدبية والشعرية، كل ذلك أسهم بغفلة البعض عن أفعال بني أمية، و رضا البعض الآخر عنهم؛ وكان لسكوتهم أو رضاهم أيضاً سبب ديني مزيف كما ألمحنا أو سبب دنيوي يرتبط بمصالح الناس الفئوية والشخصية، وهذا ما جعل الخط الأموي يكون عبر التأريخ المتصدر لقيادة الأمة، اما الخط المحمدي الأصيل الذي ينادي بالحرية والعدالة الاجتماعية والوقوف بوجه الجبابرة والطواغيت، فكان يمثل الحركة الخارجة عن القانون! في حكومات الخط الأموي عبر التأريخ.

أما الخط المحمدي فقد مثله أروع تمثيل أمير المؤمنين علي وابنه الحسين (ع) في المطالبة بتعديل الانحراف وتصحيح مسار الأمة، وكان(ع) يتهكم على كتاب أرسله معاوية بن أبي سفيان إليه يبين فيه مكانة النبي و اصطفاء الله له وأشياء أخرى، فأجابه (ع) ))لقد خبأ لنا الدهر عجباً إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا، ونعمته علينا في نبينا، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر، أو داعي مسدده إلى النضال)) فمصدر التشريع الذي أحد أعمدته وأركانه الوثقى هم أهل البيت الذي ينبغي للأمة الرجوع إليه، قد استطاع بنو أمية اختطافه وتزييف وعي الأمة، بل الأعجب ،كما في كتاب أمير المؤمنين علي أن أعداء الإسلام والشريعة المحمدية أصبحوا مصدراً للمعلومات ويخبرون أهل البيت بما في البيت!!

أما أبو عبد الله الحسين، فقد كان المثال الأروع والأوضح لإعطاء المشروعية الدينية للوقوف بوجه الباطل والظلم والثورة على المستكبرين والظالمين، فهو يمثل مصدراً من مصادر التشريع عند مدرسة أهل البيت، وهو وإن كان لا يحتاج إلى دليل في خروجه بوجه الطغاة، لكنه أراد أن يلفت أنظار الذين انطلت عليهم شائعات بني أمية ومن تأثر بالأحاديث الموضوعة التي تحث على السكوت ومباركة الحكام الظلمة، فكان من أقواله في هذا المجال: ((إني سمعت رسول الله يقول من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً لعهده يعمل في عباده بالإثم والعدوان فلم يغيّر بقول أو فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)).

فكانت حقاً كربلاء المدرسة الجهادية الكبرى للتغيير والوقوف بوجه العتاة الطغاة، ورفض الذل والانصياع مهما كانت النتائج، إذ يقول أبو عبد الله الحسين(ع) : (( والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد)) ويقول : (( إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما)).

واليوم ويعد مضي ألف وثلاثمائة وسبعين سنة تقريباً، أدركت الشعوب العربية والإسلامية أن الركون إلى أحاديث ذم الخروج على الحاكم هو وهم محض وتخدير لطاقات الأمة، وأن مشروعية الثورة على الظالمين التي خطها أبو عبد الله(ع) بدمه الطاهر هي الحل الواقعي لكل المشاكل التي تحيط بالأمة؛ لذا رأينا كيف انتفضت تلك الشعوب وأزاحت طواغيتها أحفاد بني أمية في الفكر والمنهج، ونامل من كل تلك الشعوب أن تبني البناء الإسلامي الأصيل المتمثل بخط علي والحسين لا أن يرجعوا القهقري، ويقعوا في الذي نبذوه، ولا يبنوا ما هدموه، وأن لا يكونوا مصداقاً للمثل المشهور: ((رجعت ريمة لحالتها القديمة))!! 

أحدث المقالات

أحدث المقالات