وقف ابن الراوندي يوما عند رجل يبيع الباقلاء فنظر الى رجل غني اشترى الباقلاء واكل لبها ورمى قشرها، ومضى من غير حمد ولا شكر، فأتى بعده رجل فقير فألتقط القشور وأكلها حامداً شاكرا لله .فتقرب اليه ابن الراوندي وصفعه صفعته محرقة وقال ما تجرأ علينا معاشر المساكين إلا منك ومن أمثالك إذ علم منكم الشكر على أكل القشور .يعتبر ابن الراوندي من أبرز علماء الاسلام الذين تعرضوا لتهمة الزندقة والالحاد بسب الاراء والافكار الجريئة التي كان يطرحها . تهمة الالحاد والتكفير والزندقة من أسهل التهم التي يوصم بها أي انسان يخرج عن تصور الجماعة عن قيمهم افكارهم موروثاتهم التي كسبوها بلا معرفة ووعي وانما عن وراثة او المجتمع الذي ينتمي له بكل خرافته واساطيرة. يحفل التاريخ الانساني بأعدام العديد من الفلاسفة والكتاب والعلماء مع احراق كتبهم لانهم خالفوا التفكير السائد بمحاولة نقد او تصحيح أفكار خاطئه داخل المجتمع.لا يكاد يخلو مجتمع من ذلك سواء في اوربا بقيام محكام التفتيش سيئة الذكرالتي تراقب افكار الناس والتفتيش عن عقائدهم ومطاردة الكتاب الاحرار والعلماء بقتلهم ثم حرق كتبهم . أما العالم الاسلامي فليس بعيد ايضا حيث تعرض كتابه وفلاسفة للتضيق والقتل والنفي كأبن رشد والحلاج والراوندي وابن المقفع وحرق كتبهم وماتزال الحملات مسترة ضدهم .أن البشرية مدينةُ اليوم بما وصلت اليه على مستوى الفكر النظري والجانب العلمي في اغلب المنجزات البشرية للافذاذ الذين قدموا حياتهم قرابين على مذبح الحرية والكرامة في سبيل الكلمة الحرة والعقل الناقد وعدم التسليم للافكار اي كان مصدرها اذا لم تخضع لمعيار العقل واقفين بالضد امام كل قيم التخلف والجهل السائدة انذاك . ان القيم التي دعا اليها كل من اتهم بالزندقة او الالحاد بشكل عام كان في مقدمتها ،تمجيد العقل ليكن الحاكم الاول والفيصل الذي لا راد لحكمه. حيث قدمت النزعة العقلية التي دعا لها كبار المفكرين الى اعادة بعث روح الشك والتسائل سواء قبال النص الديني او مواجهه الخرافات التي حكمت تلك الفترة .كذلك التاكيد على فكرة التقدم الانساني المستمر وهي فكرة اكدها جابر ابن حيان في الحضارة العربية والتي تمثل اتجاه في اعمار العلم وبث الروح العلمية ،حيث ان الامم كلما ابتعدت عن فترة نزول النص او الوحي كلما زادت تخلفا وجهلا وابتعادا عن القيم العلمية المعرفية غارقتا في اوحال الجهل والتخلف بسب الصراعات والحروب والحس الجاهلي الذي اعيد بعثه من جديد بسب سلطة النص وتحيد العقل وقتل اي محاولة احياء وبعث روح العلم من جديد. كذلك الدعوى الى النزعة الانسانية للنهوض بالقيم الانسانية الداعية لبث روح التسامح والاخاء الانساني بين ابناء البشر جميعا في قبال القيم الدينية الداعية لقتل الاخر وبث روح الحقد والكراهية بين الناس .الدعوة من اجل الانسان وحقة بالحياة اي ان يحيا حرا على مستوى الفكر مختاراً لدينه ومعتقده بلا اكراه . لقد كانوا مدافعين اشداء عن الحرية ولن يرضوا عن غيرها بديلا .مقدمين اجسادهم وارواحهم فداء على دروب الحرية والكرامة.ان تاريخ الحقوق والحريات وحتى المنجزات العلمية حافلا بالاسماء التي قدمت الارواح من اجل ان يصل الانسان لما وصل اليه من رقي على مستوى الفكر والمعرفة .اما على مستوى الفكر الذي جاء نتيجة نضال طويل جدا وهو القانون العالمي لحقوق الانسان ،الذي دعا لحق الانسان ان يكون حرا بأختيار العقيده كذلك أختيار العمل وحق الحياة والعديد من الحقوق الاخرى . والا الان مازال كل التطور العلمي والتقني الذي يغزوا العالم الان هو بفضل من لا ينتمي لدين او يعتقد بأله .ان ما وصلنا الينا وما نعيشه الان هو بفضل دماء وتضحيات الافذاذ الاوائل الذين خاصموا الارباب من اجل الناس ،فسقطوا على دروب الحرية ليعبدوها بدماءهم الزكية.فسلاما على تلك الارواح أينما حلت وأينما سكنت .
ومضة :
آثار الذكاء تعيش أكثر من آثار القوة.
فرانسيس بيكون