الملأ : استعارة تعبيرية دقيقة ومبدعة تداولتها الاوساط الصحفية والاعلامية لتطلق على النخبة الاقتصادية والسياسية التي تتحكم بالقرار الاخطر في السياسات الامريكية العليا وهم ورثة التأسيس للولايات التي انضمت الى الاتحاد الامريكي, وهم الحلقة الاعلى التي تترفع على النظام القائم وتاخذ على عاتقها وبما لديها من مجسات ارتباطية متشعبة من رسم الرؤى السياسية المفصلية والاستراتيجية وخاصة في المسارات الاقتصادية والعلاقات الخارجية وتترك ما دون ذلك الى المؤسسة التشريعية التي يمثلها “الكونجرس” والتنفيذية التي يمثلها “البيت الابيض” وأدواتة المعروفة كالامن القومي والاستخبارات والدفاع لتعمل ضمن منظومة عالية التنسيق, والملأ الامريكي هم صناع السياسة والخلفية الفوقانية التي تتعامل مع الاحداث الكبرى عند وجود تحديات محتملة أو عندما يتعلق الامر بالمصالح العليا للاتحاد, وهم الذين يحددون المسارارت التي تتعامل وتؤثر في الوجود الامريكي وتاريخه وما هو قادم وفق معطيات تخصصية ذات خبرة عالية في الدراسات الذكية التي تزود الماكينة السياسية الامريكية بالتحليلات الدقيقة وتقدم لها الخيارات بمتواليات فاعلة في اتخاذ نسق القرار الاخير والذي تكون ردات الفعل عليه قد حسبت بمهارة ومهنية .
الحدث الانتخابي الاخير والذي كان اكثر تميزا في التاريخ الرئاسي الحديث لم يكن مفاجئا كما اريد له ان يسوق اعلاميا وفوز رجل الاعمال السيد ترامب لم يتحدد بشخصيته ولا باسلوبه وانما بنطاق اخر اطلق عليه المراقبون “صعود ظاهرة ترامب” والتي لها رواسب منذ اكثر من ثلاثين سنة, فقد مر المجتمع الامريكي خلال هذه الفترة بمتغيرات كثيرة حيث ان غالبية السكان تم تجاهلهم من التطور والنماء الاقتصادي ولم يتغير الدخل القومي للفرد الامريكي بل قلّ وهذا قد صعد الفارق والاختلاف عن السنوات الاولى, وقد تنامت بعض الامثلة لمقاومة جدية ولكنها مبعثرة وليست واسعة الانتشار, وانقلبت الظاهرة لتصبح غضب عام وهي التي ادت الى ان تصبح الانتخابات التمهيدية مثيرة للإهتمام ليس بسبب ما تحتويه بل بما يجري في تاثيراتها, فعلى الرغم من ان الاعلام كان يصف السيد ترامب بتعابير قاسية ليقرب الصورة الى الناخب بانه مهرج وان مكانه في السيرك بدلا من البيت الابيض, الا انه كان يتلقى دعما كبيرا جدا من اناس اغلبهم من الطبقة العاملة والفقراء الذين تملكهم الغضب من كل شئ لعدم حصول تنمية حقيقة في الوسط الذي يعيشون فيه بينما تعاظمت السلطة والمؤسسات لتصبح ضدهم فأشتد القلق لديهم بان بلادهم قد تسحب من تحت ايديهم حيث فقد 5 ملايين منهم مساكنهم وفقد 15 مليون وظائفهم وكان هذا بسبب السياسات التي توالت من الوسط الامريكي التقليدي, هنا برز السيد ترامب من وسط رجال الاعمال والمال لينقلب على كل شئ وليحول تصريحاته التي اعتبرها البعض كريهة حتى من اعضاء في الحزب الجمهوري الى غضب عارم ولكنها في كل مرة ترفع من شعبيته لانها مبنية على الكراهية والخوف وقد كان يعي هو ومؤيديه بان هذا الانقلاب سيكون مقبولا من الملأ الامريكي بعد قراءات متقنة لما آل اليه الشان الاقتصادي في عموم الاتحاد في السنوات الاخيرة .
فوز السيد ترامب بعد ان مال اليه الملأ الامريكي قد رسم خارطة طريق لحقبة جديدة من الاهداف والمصالح التي يمكن تحقيقها وهذا ما نراه من تفاعلات قد بدأت تظهر وخاصة في تغيير التحالفات والمحاور والتي تكون المؤشرات الاقتصادية قاعدتها الاساسية وسيبدأ التقارب مع الاقطاب الرئيسية المؤثرة في السوق العالمية وعلى رأسها الصين وحجمها الضخم في التبادل التجاري واليابان تلك الايقونة في التطور التكنولوجي الحديث, وستكون هناك اتفاقات بعيدة المدى لعالم اخر غير الذي نعرفه في عالم المال والاعمال, وستتيح هذه الشراكة الدولية الى استثمارات خيالية في مناطق واراضي جديدة كانت خارج تلك المنظومة والمقترح الاول على ما يبدو هي الدول الافريقية من غير العربية, وسيكون التعامل مع مع التحالفات القديمة وخاصة الخليجية منها وفق هذا المنظور وسيطبق السيد ترامب مبدا الجزية والخراج بالمفهوم الاسلامي او الضريبة بالمفهوم الامريكي, اما دول الاتحاد الاوربي فلن تكون خارج تلك المحاور والتحالفات وخاصة بعد خروج المملكة المتحدة وعليها ان تتماشى مع هذه الحقبة القادمة وان تتعامل معها ببراغماتية خانعة كون تلك السياسة الاقتصادية الجديدة ستؤثر على المجتمع العالمي ولا تستطيع اية دولة ان تنفذ من خلالها الى فضاء الاستقلالية والتحصن بعيدا عنها كون الاقتصاد اليوم هو المحرك العالمي الذي ازاح كل تراكمات الايديولوجيات التي عفا عنها الزمن وسيزيح كل الحركات العقائدية واقتصادياتها البائسة وباشكالها المتناقضة التي شوهت الفكر الانساني, أما المنطقة العربية فهي ولعقود لم تنهض بواقعها الاقتصادي ولم تؤسس الى تعليم انمائي حداثوي واخذت تعتمد الواردات الريعية كمفهوم ستراتيجي لبقاء السلطة السياسية التي تتفضل على مواطنيها بالدخل الذي ترسمه له الدولة كحالة منعزلة عن القطاعات التشغيلية الاخرى وانسحبت رؤوس الاموال والاستثمارات الى خارج حدودها في البنوك والمصارف العالمية التي تؤمن تلك الاموال وتستفاد من تشغيلها في القطاع الخاص الذي يكون اساسيا وحيويا في ادارة اقتصاد تلك الدول, ولذا سيكون التعامل مع المنطقة العربية ومتلازمة الصراع فيها وفق تلك التصورات على انها طاردة لأي استثمار او تطوير يتطابق مع الحقبة الجديدة التي تؤمن المصالح المالية والاقتصادية العليا في الاتحاد الامريكي والتي اصبحت اليوم على راس الاولويات التي يتم التركيز عليها من قبل الملأ الامريكي وسيكون التهافت والاذعان والخنوع لكل المتطلبات والشروط التي يمليها الملأ على دول المنطقة وحلقاتها التي تعمل لتحصل على موطأ قدم من التاثيرات التي تثير اهتمام النخبة الاقتصادية في الحلقات واللوبيات والشخصيات التي تؤثر بدورها على القرارات ما فوق النظام الذي نعرفه والذي يكون من صلاحيات الملأ الامريكي حصرا .
وحديث العراق من اوجع الاحاديث وخاصة بعد الخراب الاقتصادي الهائل الذي انتهينا اليه ولاسباب اصبحت عامة وشاملة ولا حاجة لاستدراكها او الدخول في جدلياتها فكل مؤشرات الاقتصاد ومفهومه قد غابت عن وعي الدولة “أن وجدت” بعد ان تم رهن مرتكزاته واهمها النفط وتراخيص الهيمنة والموازنات الانفجارية وهدرها وبيع اراضي الدولة وعقاراتها واللجوء الى القروض كحل لتمشية مصاريفها والفساد الذي انتشر كالوباء في مؤسساتها ولم نرى اي رؤية او منهجا او حتى تطمينا من مستشاريها رغم تحذير الخبراء والمراقبين بان الاقتصاد عمود الدولة وروحها, فكل التداعيات التي دقت نواقيس الوجع فينا يمكن تحملها الا تداعيات المرحلة القادمة وتفاعلاتها مع التاثيرات الاقتصادية العالمية وخاصة ونحن على ابواب مرحلة خطيرة ومصيرية من مراحل الهدم السياسي الذي بني على جرف هار قد يسحبنا الى عواقب وخيمة, فهل من امل ان يظهر علينا “ملأ عراقي” من النخبة الخيرة ومن اصحاب الكفاءة والخبرة المستقلين تماماعن المشاريع التي تبحر الى الشاطئ العراقي لتجلب معها الاعاصير والكوارث, وان يكونوا على دراية كافية في كيفية التعامل مع مواقع القوى التي تنطلق منها مخرجات السياسة الامريكية وامكانية تحويلها الى واقع انتاجي وانمائي يحافظ على الخصوصية اولا ويحدث انقلابا جوهريا على مصالح القوى التي تتسلط على الواقع العراقي وباي شكل كان وان لا تهادن أي سلطة كانت دينية أو قومية او عشائرية أو طائفية وان تنطلق من نقطة شروع حديثة وتترك الموروثات العقائدية التي لا يمكن ان تطرح مشروعا حتى وان لجّ الجمل في سم الخياط, فالاقتصاد اليوم هو المحور العالمي والاقليمي والمحلي القائم وبعدها سنمتلك كل الحلول التي تتبعه ولا تحيد عنه, ولابد من الانطلاق للحقبة الجديدة من خلال اعداد البرامج التي تغير من هوس ووجع السياسة ومن ركب راحلتها التي اخذنا ندور في حلقاتها ونتبع احداثها من خارج المنطقة الزمنية العالمية, ففي العراق كما في امريكا هناك غضب حاد يتنامى في الاوساط الشعبية من السلطات المترفة والمؤسسات الصورية التي تديرها بعيدا عن الشعب الذي قد خنع بدوره ليسلم نفسه الى جهل مقدس وفقر كافر ليدق في وجداننا قواهر مؤلمة ومفجعة من (الوجع العراقي) .