18 ديسمبر، 2024 10:21 م

المكدود في ذات الله

المكدود في ذات الله

لا ينفك البلغاء والمتكلمين من الاعتذار عندما يصفون شخصا عظيما باقواله وافعاله واثره في التاريخ والمسيرة الانسانية بشكل عام, ويزداد الامر عسرا اذا كان من يصفون ممثلا لرسلات السماء, وخليفة لانبياء الله تبارك وتعالى كصاحب الذكرى امير المؤمنين عليه السلام, وربما هذا الاعتذار لا وجه له, لاننا عندما نستذكر الامير وخصاله, لا نريد ان نوفيه حقه بل نود التعبير عن مشاعرنا وتصوراتنا, تجاه هذه الشخصية العظيمة, وبأساليبنا المتواضعة التي يشوبها النقص والقصور.
وإذ نقف امام هذا الطود العظيم لا يمكننا ان نصف الا ما نستطيع رؤيته, ونحن على ثقة ان سبر اغواره لاينالها الا من حاز مراتب عالية من العلم والتزكية, بل ان الأمر عسير على هذه الفئة ايضا, لقول رسول الله صلى الله عليه واله ياعلي ما عرفك الا الله وانا.
منهجية الاستفادة من سيرة العظماء تقتضي تقسيم المراحل الزمنية لحياتهم, والنظر الى الظروف التي واجهوها, ومعرفة الادوار والمواقف التي سلكوها, وعليه فأن حياة الامير يمكن تقسيمها الى ثلاث مراحل؛ الاولى مرحلة الجهاد ومواجهة المشركين, والمرحلة الثانية مرحلة الصبر وتعميق التجربة الدينية, والاخيرة مرحلة الحكم ومواجهة الانحراف والمنحرفين.
وتتمثل المرحلة الاولى في كون امير المؤمنين فدائي الاسلام الاول, الذي كان الدرع الذي يدرأ عن رسول الله صلى الله عليه واله الاخطار, ومشاهد الفداء تبدأ حين المبيت في فراش رسول الله صلى الله عليه واله, ومرورا ببدر, وأحد, والخندق, وحنين, وما بينهن كثير من المواقف التي تمثل روح الفداء للاسلام وللرسول التي كان يحملها ذلك الفتى المغوار.
ولا نجد ابلغ من وصف السيدة الزهراء لهذه الروح الفدائية, التي كان يحملها امير المؤمنين عليه السلام حيث تقول: كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ,أو نَجَم, قرن للشيطان ,أو فَغرتْ فاغرة من المشركين, قَذف أخاه في لهواتها, فلا ينكفئ حتى يطأ صِماخها بأخمصه, ويخمد لهبها بسيفه, مكدوداً في ذات الله, مجتهداً في أمر الله, قريباً من رسول الله, سيداً في أولياء الله, مُشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً, وأنتم في رفاهية من العيش, وادعون فاكهون آمنون.
بل القرآن الكريم كان شاهدا جلي في هذا الشأن في حادثة التفاخر بين طلحة بن شبية والعباس بن عبد المطلب, حيث قال الاول: أنا صاحب البيت مفتاحه بيدي ولو شئت كنت فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال علي: ” لا أدري [ ما تقولان ] لقد صليت ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد “فأنزل الله تعالى * (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله) * إلى أن قال * (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون).
اما المرحلة الثانية من حياته الكريمة, وتبدأ بعد ان تنكرت الامة لبيعتها في يوم الغدير, ولم توكل الامر لأهله فكان دوره في هذه المرحلة حماية الاسلام من ان تناله شبهات المنحرفين, واشكالات المناوئين, فكان متصديا لشبهات اليهود والنصارى والزنادقة, عندما يعجز أصحاب السلطة عن الإجابة فكان ابو بكر وعمر يرجعان اليه عند كل مشكلة عويصة ولا يحيدان عن رأيه حتى اشتهر عنهما مقولة لا ابقاني الله لمعضلة ليس لها ابو الحسن وكثيرا ما كان يردد الخليفة الثاني مقولته الشهيرة لولا علي لهلك عمر, اضافة الى دوره في بناء الجماعة الصالحة التي تحفظ روح الاسلام وتجسد قيمه, فكان من تلاميذه ابو ذر وعمار ورشيد وكميل وحبيب والمقداد وميثم وغيرهم كثر من الاسماء اللامعة في تاريخ الاسلام.
اما المرحلة الثالثة من حياته المباركة فبدأت بعد ان هجم الناس على بيته يريدوه ان يتولى امور حكمهم بعد ان تفشى الظلم والمحسبويات في امة رسول الله صلى الله عليه واله, ولكنه بعلمه الرباني كان يعلم ان الانحراف في طرق العيش, والفساد, والمحسوبيات بات متجذرا, ولايمكن لهذه الجموع ان تصبر على حكم علي, الذي يعتمد موازين الاستحقاق والعدالة, لذلك كانت حروب الناكثين والقاسطين والمارقين, كتعبير عن مدى الانحراف الفكري والسلوكي الذي وصلت اليه الامة, وكان دوره عليه السلام منصبا على مواجهة ذلك الانحراف متدرعا بقوة الدليل والوقوف مع الفقير, وليعطي بذلك درسا ان الفساد عندما يكون متفشيا وعندما تكون الامة ساخطة على الحكام, لا يمكن لمن اراد ارجاع الامور الى نصابها ان يحمل افكار سابقيه, او يتصرف بنفس الاليات والاخلاقيات التي سلكها من قبله, بل عليه ان يتصرف بنحو مختلف يجعل من الناس يثقون به وبافكاره وطهارة يده وهذا يحتاج الى جهاد عالي للنفس ومقاومة لشديدة لما تجلبه السلطة من بريق ولمعان ياخذ بالابصار.