رواية (ممر الى الضفة الاخرى) انموذجاً
جنس الكاتب أحمد الباقري روايته (ممر الى الضفة الاخرى) بالرواية التسجيلية، وبهذا يضعنا منذ البدء في الالتباس الذي يثيره هذا التجنيس، من خلال العلاقة بين الرواية التي هي عمل متخيل (Fiction)، والتسجيلية التي تقترب من النقل الواقعي المجرد للاحداث، اي انها عمل غير متخيل (Nonfiction)، رغم ان ميشيل بوتور يقول ( كون الكتاب (رواية) كفيلا بان يبعد عن الاحداث والشخصيات واقعيتها، لانها (الرواية) تضفي عليها –ضمنا- صفة الخيال ففي اللحظة التي يضع فيها الكاتب كلمة (رواية) على غلاف كتابه، فانه يعني من العبث التحقق من صحة احداث ما يرويه، وان اقناعنا بشخصياته يفتقر الى مايرويه لنا عنها حتى لو كانت موجودة في الواقع)1، ولكن هذا الجنس الكتابي –اي الرواية التسجيلية- وجد له موطئ قدم ضمن اجناس الكتابة الروائية العربية، رغم ان ما كتب فيه وعنه قليل جدا2، لذلك فلم يستطع – ربما – ان يصنع له حدوداً رصينة، ممكن ان تنقذه من الالتباس والتداخل.
ويتداخل هذا المصطلح (الرواية التسجيلية) مع مصطلح اخر؛ وهو (الرواية التوثيقية) اذ ان كليهما يرجعان الى نفس المصطلح الاجنبي (Documentary Novel) ولا يوجد اي تفريق بينهما في اللغة الانكليزية، اذ انهما يحاكيان نفس المفهوم في تلك اللغة، الا ان هذا التفريق جاء من الترجمة العربية، لذلك فانا اميل مع الروائي الى مصطلح التسجيلية بدل الرواية التوثيقية، لانه – برأيي على اقل تقدير- يقترب من الكتابة الروائية أكثر، إذ ان هناك حيزا مفترضا يحتمه فعل التسجيل لاستخدام الخيال، ربما أكثر من مفهوم التوثيق الذي يلتزم بما تمليه وتفرضه الوثيقة، مع ان هناك من حاول ان يفرق بينهما باعتبارهما مصطلحين مختلفين، وهذا ما يحدث في الكثير من المصطلحات المترجمة اذ يعاملها الناقد العربي ليس من منطلق ما تحمله من مفهوم، بل من ما يولده المصطلح المترجم، الذي هو بالتأكيد اجتهاد من قبل المترجم خاصة ان كان لا يجد لها مرادفا مباشرا في اللغة العربية، وربما نرى هذا في مصطلحات مترجمة اخرى كمصطلح الاغتراب (Alienation) مثلا، الذي ترجم مرة بالاغتراب ومرة اخرى بالاستلاب، والذي سبب لدى بعض النقاد التباسا كبيرا في كيفية التعامل معه.
إن الرواية التسجيلية وكما تظهر لنا ربما من خلال الرواية التي بين ايدينا، وهي رواية (ممر الى الضفة الاخرى) تقترب من انواع كتابية اخرى كالرواية التاريخية مثلا، او (التخيل التاريخي) فهل يكفي اعتماد الرواية على وقائع تاريخية معروفة لتصبح رواية تاريخية، لان التخيل التاريخي حسب الدكتور عبدالله ابراهيم (هو المادة المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية، واصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية)3، لذلك نرى ان الكاتب جنس الرواية برواية تسجيلية بدل تاريخية، وهو اختيار موفق حتى يبقى ضمن الحيز التوثيقي الوصفي الذي يسعى اليه، والذي اختطته الرواية، ولكن هل يمكن للرواية ان تكون مخلصة لفعل التسجيل الموضوعي، الذي لا يتأثر بالعمل الروائي كعمل متخيل او كخطاب أدبي، فعلى الرغم من ان افلاطون طرد الشعراء من جمهوريته لانهم يشوهون الحقائق برأيه، الا انه كان مضطراً للاستعانة بالادب المتخيل (fiction) في تفسير طروحاته الفلسفية من خلال الاستعانة بالاساطير4، لذلك فعلى الرغم من الطابع التسجيلي الذي يصبغ الرواية، الا انها كانت مضطرة الى اتخاذ الرواية والبناء الروائي ممراً او منفذاً لتقديم ثيمتها.
فالرواية التسجيلية بالتأكيد ليست ذلك النمط من الروايات الذي يوظف الحقائق والاحداث الحقيقة لصياغة رواية متخيلة، وانما تعتمد على احداث حقيقية وتساير هذه الحقيقة، ولكنها تتلبس لبوس الروايات من حيث البناء الحكائي والحبكة … الخ، وتترك الباب مواربا بعض الاحيان – وإن كان بصورة مقننة- للصياغات الشعرية للاحداث الى ان تطفو الى سطح خطابها التسجيلي، اي تزاوج ماهو حقيقي بماهو متخيل، مع (ان ما تصفه لنا الرواية يمثل جزءا خادعا من الحقيقة)5 كما يقول ميشيل بوتور، (فكثيرا ما يقال إن الاجراءات التي تدخل في صناعة الخيال القصصي متأصلة في كل تجربة خاضعة للاتصال، لان عملية الاتصال تتضمن الاختيار والتحرير طبقا لنماذج مسبقة)6، حيث ان عمليتي الاختيار والتحرير تجعل النص الذي يدخل عملية الاتصال غير حقيقي، اي متخيل لانه خاضع لاعادة انتاجه وفق تلك النماذج المسبقة.
المكان في الرواية التسجيلية
يبنى عنوان الرواية (ممر الى الضفة الاخرى) ويرتكز دلاليا على المكان، حيث (ممر) و (الضفة الاخرى) وكذلك حرف الجر (الى) تدل كلها على المكان، ويخلو العنوان من الفعل الذي ربما سيعطي للرواية صبغة تاريخية، بينما تركز العتبات النصية الاخرى كالاهداء مثلا (اليك هذه الصفحات المجيدة المطموسة من تاريخ أبنائك الشرفاء، بعثت فيها الحياة كي لا تدفن في وادي النسيان)7، والمفتتح الاستهلالي (تدور أحداث الرواية في فترة الستينات وشخصياتها حقيقية إلا اني غيرتُ في اسمائها)8 على التاريخ، اي تاريخية الاحداث، وعدم اشارتها الى المكان الذي هيمن على دلالات العنوان، والذي يحيلنا الى ان تلك الدلالات المكانية؛ يمكن ان تقرأ من وجهة نظر أخرى ترتبط مجازياً بالزمان، عندما تتحول من خلال المجاز لتؤثر على جميع دلالات الرواية المرتبطة بالبنية الزمكانية، والمراوحة بينهما تحت غطاء التاريخ الذي يمكننا استشرافه من بنية المكان ايضا.
تعامل الجانب التسجيلي مع أمكنة الرواية بصورة متفاوته، تبعاً لمدى قربه وابتعاده التاريخي، اي ذلك المكان الذي يتجاوب مع الايقاع التسجيلي المرتبط بثيمة الرواية وحدثها الذي تسعى الى توثيقه والمتعلق بالسياسيين المعتقلين الذين يمثلهم السارد، والذي يكشف وجودهم التاريخي المرتهن الى تلك الاحداث التي ينقلها من وجهة نظره التسجيلية، لذلك فربما ان كل الامكنة الاخرى التي تبتعد قليلا عن هذا المركز؛ تخرج من هيمنة ذلك النقل التصويري المجرد، حيث نرى اختلاف اللغة وشعرنتها في بعض الاحيان، والذي ربما يفتح فضاءها الدلالي، مبتعداً بها عن ذلك التجريد الذي امتازت به لغة الرواية وخاصة في جانبها التسجيلي (أصابتني الحيرة، رجعت قليلا، فلم ار شيئاً، وجدت تلاً ترابياً، وعندما أقتربت من التل نبح علي كلب كان نائماً في حفرة، فضحكت لحالتي، قلت للكلب: انت أحسن حالاً مني، عندك مكان تنام فيه، وانا لا أملك ملاذاً (…) نحيت الكلب جانباً وكبرت الحفرة ونمت فيها حتى الصباح، وكان الكلب على بعد ثلاثة أمتار وقد غفى ايضاً)9، ويمكننا صياغة هذا الطرح بصورة اخرى عندما نتتبع دلالات المكان التسجيلي التي نرى انها تتوخى الارتباط بجانبها الفوتغرافي التسجيلي أكثر من ارتباطها بالجانب التخيلي وربما حتى الدلالي، اذ ان تعامل الروائي مع مفردات المكان تعامل توثيقي مجرد، ربما يخرج من هذه الصيغة التسجيلية في الاماكن التي ليس لها تأثير كبير على مجرى الاحداث، او الجانب التصويري الذي يتبعه، وهي الاماكن الصغيرة التي ربما تنجو من هيمنة النبرة التسجيلية الوصفية، حيث يمكنها ان تنمو خارج تلك الحدود، وتنحاز الى البنية الفنية الكامنة في الرواية.
وما اقصده بالاماكن الصغيرة يختلف عن ما اقصده بالاماكن الثانوية، والتي يمكننا اعتبارها أكثر مساساً بعناصر البناء السردي، وربما تؤثر تأثيرا مباشراً على الحدث السردي وتداعياته، او تجلب نوع من المنطق للاحداث التالية عليه، حيث تمثل هذه الاماكن الثانوية في أكثر الاحيان بوابة او محطة لانبثاق تغير ما في الحدث السردي، وخاصة عندما ترتبط بأشارات وأحالات مع دلالات سابقة، وهذا ربما ينطبق على الاقتباس التالي من الرواية (عرفت الكثير عن سجن الحلة، وجدت فيه مقصورة صغيرة يسمونها (ورشة السمكرة) وتحتوي على ادوات حدادة وأدوات لحام رصاص وادوات تصليح حنفيات الماء وملحقاتها)10، والذي ربطه السارد بحدث سابق له، ربما لاقناعنا بحيثيات فكرة الهروب من السجن، عندما قال (عرفت الكثير عن سجن الحلة) وبهذا فهو ينقلنا الى حدث سابق (قال حسن ياسين: نحن منقولون الى سجن الحلة المركزي ولا نعرف ظروفه، ولكن عهدا علي ان استلمت تنظيم السجن فسنهرب انت وأنا عند أول فرصة. قلت له: اعرف ظروف سجن الحلة من خلال المواجهين..)11، وهنا اضع خطين تحت كلمة (أعرف) وارتباطها بأقتباسنا السابق والفعل (عرفت)، وهذا التأكيد يوحي لنا بان هذه الورشة/المكان ستعلب دورا مهما في الحدث الرئيسي وهو الهروب، ولكنه ايضا وقع ضمن ألية التسجيل/التوثيق، التي لا تعطيه الفرصة للنمو خارجها، ببنيتها الصورية المجردة، حتى على مستوى تعزيز الثيمة، ولا يمكن اعتبار الاشارة البسيطة لهذا المكان في صناعة كلابات باب النفق، اشارة مهمة او أدخلت هذا المكان في عملية تفاعلية تجعله فاعلا دلاليا، وبتصوري لو ان الكاتب انصاع للبناء الفني من دون التسجيلي لاعطى هذا المكان مدى أكبر، او تجنب الاشارة اليه ان كان غير مشارك بصورة فعلية في الحدث الرئيسي الذي بنيت عليه الرواية، وهو حدث الهروب كما اسلفنا، او ينتظم في بنية ايقاعه، فالفعل الذي قام به السارد عندما عمل جدارا من الخشب في المطبخ (في الاسبوع الثاني من لقائي بالرفيق عباس فاضل علوان، استدعاني ممثل
السجن الى الباب الرئيسي، وحضرت هناك واستلمت الخشب المعاكس وكمية من المسامير، ونقلت الى المطبخ. في اليوم التالي بدأت مع عباس فاضل علوان، وانجزت عمل الحاجز الخشبي خلال ثلاثة ايام)12، وهنا يأخذنا الى مكان ثانوي أخر، يبتعد به عن ذلك المكان –اي الورشة- وربما اقرب تبرير يمكننا صياغته لوجود هذا المكان/ الورشة؛ وهو غير مقنع ربما، هو محاولة بناء صورة للسارد ان لديه امكانيات حرفية، تبرر لنا تاليا تمكنه من صنع الجدار الخشبي، رغم الاختلاف الكبير بين ورشة السمكرة وورشة النجارة، لذلك فنحن نتمسك برؤيتنا لهذا المكان الثانوي الواقع تحت هيمنة تلك البنية الصورية المجردة، التي بنيت عليها الرواية، رغم عودة السارد كما اشرنا سابقا الى هذه المكان الا انها عودة غير ايجابية ولم تعطيه دورا فاعلا يبرر هذه العودة او هذه الاشارة (في ورشة السمكرة صنعت كلاليب لرفع الباب من الاسلاك الحديدية التي سمكها 4 ملم وذلك لقوة تحملها)13، وهذا الكلام ربما ينطبق على تلك الامكنة الثانوية الاخرى التي شاركت بصورة جزئية غير فاعلة في الفعل السردي، الا ان السارد قطع الطريق امامها للنمو، او ان تأخذ حيزا، ممكن ان يعزز الثيمة بدل تلك التصويرية المجردة، رغم ان احد تلك الامكنة وهو المطبخ قد خرج قليلا عن هيمنة تلك السلبية، اذ كان متفاعلا مع العناصر السردية الاخرى، من خلال اندماج السجناء السياسيين في فضاءه الدلالي انسياقا من البناء الحدثي للرواية، وذلك لتمويه عملهم في الحفر، من خلال تعلم صناعة (الشوربة)، وايضا التعاطي مع المكان بصنع الحاجز الخشبي واخفاء التراب، وايضا تفاعله مع الامكنة الاخرى كالسور ونقطة الحراسة..الخ، وهذا ما لم يحدث في المكان الاخر البديل، وهو الصيدلية، الا بعد اكتشاف أصل هذه الغرفة التي اعدت لتكون صيدلية، وهي مرافق صحية، حيث نرى ان هذا المكان قد شارك بصورة فعلية في الحدث الرئيسي وتفاعل معه، وان سيطر عليه التجريد في بعض المواضع، كما مع الامكنة الاخرى، ولم يلتفت الى تفعيل الجانب الدلالي له.
إن كل مكان روائي هو واجهة لمديات أخرى، ترتبط بالانسان والوجود، حيث لا يقتصر دوره على مجرد كونه حاضنة للاحداث والشخوص، الا ان الروائي في هذه الرواية اكتفى بالاحالة التاريخية للمكان، التي ترتبط بأحداث تاريخية معروفة وهي هروب السجناء السياسيين من سجن الحلة، من خلال نفق صنعوه بانفسهم، لينظموا بعد ذلك الى ماسمي بـ(جماعة الكفاح المسلح) في الاهوار، لذلك فكل تعامل مع هذا المكان هو اعادة رسم لذلك المكان التاريخي، والانحياز الى جانبه التسجيلي التوثيقي، وهذ ما يقلل من اهمية ذلك المكان إذ ان (وراء الامكنة تكمن ازمنة معيشة، لكل لقطة منها تجربة، وكل تجربة هي معايشة في المكان، فعلى الاديب بوصفه رائيا ان يستشف الجوهر الفكري والوجداني الذي يتواصل مع التجربة الانسانية في المكان)14، فالتعامل مع المكان حتى وان كان صوريا وصفياً؛ يخفي ويضمر فعلا أخر يرتبط بعناصر البناء الروائي الاخرى، والتي تأخذ مداها من خلال صورة المكان ودلالته، رغم ان الرواية التي بين ايدينا لم تدع هذا المكان من ان يتنامى خارج الاطار الصوري الوصفي، حيث جعلت من الرواية منفذاُ او ممرا الى ضفة التاريخ او بالاحرى التوثيق التاريخي، حيث انتصرت للواقع بحقائقه المجردة على المتخيل، والصورة الفوتغرافية الوصفية على الصورة النفسية التي تفتح فضاءات للتفاعل بين هذا المكان التاريخي والبناء الروائي الذي يبني سداه من بنية التخيل باعتباره ادبا متخيلا (Fiction)، فنقل (المكان الموضوعي الى النص كما هو، نقلا يتوخى دقة الابعاد الهندسية المجردة عن الابعاد النفسية يحيلنا الى صورة فوتغرافية تجمد المكان لا أكثر، ان صورة المكان في النص الادبي يجب ان تمتلك القدرة على النفاذ من السطوح الطبوغرافية للظاهرة الى انطلوجيا المكان)15 ولكننا مع ذلك يمكننا تصور بنية المكان بالاضافة الى البنية الزمنية وطبيعة الشخصيات وعلاقاتها، فالمكان (شبكة من العلاقات والرؤيات التي تتضامن مع بعضها لتشييد مواقع الاحداث وتحديد مسار الحبكة ورسم المنحنى الذي يرتاده الشخوص)16.
( أتو بنا الى بناية واسعة ذات واجهة نصف دائرية تشبه المضيف.. كنا في سيارة التوقيف.. انزلونا أمام البناية، أدخلونا من بابها الواسع الذي ينشق من واجهة زجاجية عريضة، فمشينا بين صفوف من الكراسي التي يجلس عليها جمهور غفير، اتجهنا نحو المنصة وارتقينا سلماً صغيراً، كان ثمة على يسار المنصة قفص الاتهام، ادخلونا فيه واغلقوا بابه)17، نلاحظ هنا العملية الوصفية للمكان، تأخذ الاسلوب السينمائي وحركة الكاميرا التي تلتقط صورة المكان والحركة، وكأن عين السارد تسجل كل دقائق المكان، ولكن هذا الالتقاط خالي من المكان المتحرك الذي بامكان دلالاته ان تنمو وتتمازج مع الحدث السردي، حيث ان الفضاء الروائي المرسوم هنا، هو فضاء محدود يقتصر على الجانب التسجيلي، اذ اننا لو حللنا هذا المكان بكل جزئياته، لوجدنا انها تفتقر لحركية الفضاء الروائي الذي يتداخل فيه الواقعي بالرمزي، فمثلا التشبيه الذي استخدمه الروائي لواجهة تلك القاعة (نصف دائرية تشبه المضيف)، ربما يحيلنا الى محاولة استباط احالات دلالية تعطي لهذا المكان بعدا دلاليا، لكن وصف المكان او الواجهة بهذه الصورة هي احالة واقعية مفرغة من اي دلالة يمكنها ان تنمو خارج نسق الاحداث التسجيلية بصورتها المجردة، والتي لا تتماشى مع اي اجتراح او موائمة مفترضة مع البنية الدلالية للمضيف، وما يحمله من فضاء دلالي، بل ان اشارته تلك هي احالة واقعية مباشرة للمسرح الذي شيد على شكل مضيف القصب في مدينة الناصرية، والذي اجريت فيه المحاكمة18.
ونرى ايضا في موضع اخر من الرواية تعامل السارد مع المكان بصورة هامشية لانه لا يمثل مركزا لحدث مهم يخدم الجانب التسجيلي، لذلك ربما لم يفصل في وصفه او الاشارة اليه، كما فعل مع السجن او في مكان المحاكمة الذي تطرقنا اليها قبل قليل، بينما من الممكن لو كانت الرواية مهتمة بجانبها الدلالي والتخيلي لاستغلت هذا المكان في تعضيد ثيمة الرواية وتفعيل الجانب الدلالي للاحداث (عند وصولي المركز أخبرني احد الرفاق بان اهلي أرسلوا الي فراشا وملابس. خلعت ملابسي.. غسل بعض الرفاق جراحي.. فتحوا لفَّة الفراش، كان في طيتها مرهم خاص للجراح مع سائل للتعقيم، ضمدوا جراحي وبقيت عارياً إلا من لباس داخلي حتى حلول الليل)19، يأتي هذا الاقتباس بعد الوصف المتأني لقاعة المحاكمة، حيث تظهر الاشارة فيه للمكان في موضع واحد عندما يستخدم كلمة (المركز) وبعد ذلك وفي نفس الصفحة اشارة لنفس المكان بـ(مركز شرطة الخيالة)، وغابت اي اشارة لشكل هذا المكان او رسم صورة او حدود له، وذلك لانه مجرد مكان وسيط، لا يمتلك اي تأثير على المسيرة التسجيلية التي اختطتها الرواية، وينطبق هذا ربما على كيفية تعامل السارد مع أمكنة الهروب، فبعد ان كان تعاملا وصفيا وتفصيليا داخل السجن، نراه اصبح مقتصرا على اسماء تلك الامكنة والمدن، عدا ربما البيت الذي اختبئت فيه الشخصية الرئيسية، ولكن هذا التفصيل كان تفصيلا جزئيا يرتبط بحدث المطاردة، لذلك فلم تخرج (الخربة) مثلا او المدرسة من ربقة هذا التجريد، ولم تشكل اي اضافة دلالية، حيث يمكننا بسهولة استبدالها الى اي أمكنة اخرى من دون ان يختل البناء الدلالي، وذلك ربما لان الاهتمام كان منصبا على تسلسل تلك التنقلات وليس دلالتها، حيث ان تفاصيل تلك الامكنة والتفاعل معها ربما لا يخدم الجانب التسجيلي الذي تصر عليه الرواية، اذ ان ما يفرض وجودها ليس البناء الدلالي والفني كما اسلفنا، وانما العملية المنطقية المرتبطة بالتوثيق التاريخي لتلك الاحداث.
ان الامكنة التي استفاض السارد في وصفها وتفصيلها ترتبط بنوع ذلك المكان، وتأثيره على البنية التسجيلية لاحداث الرواية، فمثلا وصفه لاقسام السجن، كان خاضعا فيه لمحاولة ابراز بعض القضايا التي تهم بنية التسجيلية وليس الجانب الفني والدلالي، وان كان من الممكن لها ان تعززه (كان السجن يقسم الى ثلاثة اقسام:
1- القلعة: ويسكن في هذا القسم السياسيون الذين اعلنوا براءتهم من الحزب المحظور.
2- الملحق: ويسكن في هذا القسم السياسيون الذين رفضوا إعطاء براءتهم من الحزب المحظور.
3- المحجر: ويسكن فيه السياسيون الذين لا ترغب إدارة السجن في اختلاطهم بالسجناء الاخرين.
وهناك غرف صغيرة تسمى “الانفرادي” وهي مكان للعقاب والحجز الانفرادي.)20، وهذا التفصيل في وصف المكان يظهر أهميته، والذي تلعب فيه هنا بالاضافة الى التأثيث المكاني للحدث السردي؛ الدلالات المضمرة في هذا التفصيل، والتي من خلالها يمكن اعطاء صورة عن هؤلاء المعتقلين السياسيين، الذين يتدرجون فيه تبعاً لتدرج المكان ونوعه، حيث يظهر هنا وربما بصورة غير مباشرة ان هذه الاهمية التي اسبغناها قبل قليل على المكان، هي بالحقيقة اهمية لمحتوى هذا المكان، اي ان المكان لا يمارس بنفسه الفعل المتوقع منه من خلال التوصيف، الذي اسبغ عليه كمعتقل سياسي، وانما هو مجرد اطار لام، فكل الافعال التي تنتج عنه ربما هي ردود افعال لحركة لاترتبط به بالاصل، وانما ترتبط بتكوينها الخاص الذي تنتج عنه، اي لا يهيمن على الافعال التي تحدث داخله، بل يكون ارتباطه بها من خلال كونه اطاراً تزينيا لها، فصورة المكان ربما وعلى طول الرواية؛ لم تتطور بغض النظر عن كونه كبيرا او صغيرا، واسعا او ضيقا، ولم يؤثر على الشخصيات، بل اكتفى بصورته المجردة، حيث يمكننا ملاحظة ذلك ربما مع النفق مثلا، والذي لم نلمس اي تفاعل بينه وبين الشخصيات، من خلال تحريك دلالته او الاستفادة من فضائه الاحالي او ربما التأثيرات النفسية له باعتباره مكانا ضيقاً ووسيطاً للهروب، بل اقتصر التعامل معه على حدث الحفر، وهذا ينطبق ايضا على المكان الواسع كالسجن او الهور او اماكن الهروب التي تحدثنا عنها سابقاً، بينما نرى ان هناك تفاعلا مع أمكنة اخرى كالغرفة السوداء وهي زنزانة سجن (تسمرت في مكاني وسط الغرفة، كنت لا ارى شيئا، كانت الغرفة كئيبة وموحشة وتفوح منها روائح ذكريات مريرة مولمة)21، فتعامل السارد معها، ومع امكنة اخرى مشابهة لها، لا يتطابق مع امكنة أخرى مثلت وعاء تاريخياً يحتوي الحدث السردي، والذي كان هو الهدف الرئيسي لعملية التوثيق او التسجيل، بينما هذه الغرفة وان كانت محطة ضمن البنية التسجيلية، الا انها ومثيلاتها اقتربن أكثر من المشاعر النفسية للشخصيات، والالام التي تعرضوا لها، وربما وبصورة وبأخرى؛ ان هذا المكان يمثل تسجيلا لتلك الالام التي احتوتها هذه الامكنة، التي دخلت هنا بنية التسجيل ايضا، وان تماهت مع تلك الامكنة وخرجت قليلا عن البنية المجردة للسرد التسجيلي.
ان اهتمام الرواية التسجيلية وتركيزها على البنية الصورية المجردة للمكان، افقد هذا المكان الكثير من صفاته، التي ستدفع به الى ان يكون اكثر حركية وتنامي، من خلال تفاعله مع باقي العناصر البنائية للرواية، وربما لاصرار رواية (ممر الى الضفة الاخرى) على تسجيليتها، وبنيتها التجريدية؛ تقترب الى ان تكون رواية غير متخيلة (Nonfiction)، وربما هذا يمثل احد الاشكاليات التي يثيرها هذا النوع الكتابي، ولاقتصار دراستنا هذه على المكان ربما لم نشر الى مواضع اشكالية اخرى تثيرها هذه الرواية.
الهوامش والاحالات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نقلا عن كتاب تحولات النص الروائي- عبد علي حسن- دار الشؤون الثقافية العامة ط1 بغداد 2013 ص140
2- يبدو لي ان أكثر الطروحات التي تخص الرواية التسجيلية في الكتابات العربية قد استندت على اطروحة منشورة على الانترنيت وهي (شعرية الرواية التسجيلية العربية) ولم استطع اعتمادها لانها تفتقر الى شروط التوثيق من اسم المؤلف والجهة التي قدمت لها الاطروحة وسنة تقديمها.
3- التخيل التاريخي- السرد والامبراطورية والتجربة الاستعمارية- د. عبدالله ابراهيم- المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1 بيروت 2011 ص5
4- ينظر: Historicism: Paul Hamilton; Routlede, London 1996, p: 7
5- بحوث في الرواية الجديدة- ميشيل بوتور-ت: فريد انطونيوس- منشورات عويدات- بيروت ط3 1986 ص8
6- Fact into Fiction, Documentary Realism in the Contemporary Novel- Lars Ole Sauerberg- Palgrave Macmillan- New York 1991: p.2
7- الرواية ص5
8- الرواية ص7
9- الرواية ص96
10- الرواية ص34
11- الرواية ص31
12- الرواية ص40
13- الرواية ص56
14- انتاج المكان- بين الرؤيا والبنية والدلالة، د.محمد الاسدي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ط1 2013 ص22
15- انتاج المكان ص33-34
16- الفضاء الروائي- جينيت وأخرين- ت: عبد الرحيم حرز- افريقيا الشرق- الدار البيضاء 2002 ص6
17- الرواية ص9
18- ينظر ص11 و ص12 من الرواية
19- الرواية ص12
20- الرواية ص13-14
21- الرواية 154