23 ديسمبر، 2024 2:00 م

المقدس في رسولية الصحافة

المقدس في رسولية الصحافة

 الصحـافة ، عالم زاخر بالانفعالات والاحداث ، عالم متدفق يسابق الزمن ، لعل وعسى يصل لما يريد . والصحفي أحد تروس هذا العالم المجنون ، عليه ان يتحرك بآلية ويقظة ، وان يعطي ما يشبع مساحات الورق النهم الأكول .
 الصحـافة ، قوة لا يستهان بها ، سواء كانت صحافة حرة لا تفرض عليها أية قيود او صحافة مكبلة تتحرك في اضيق الحدود .
و الصحـافة ، تستطيع ان ارادت .. ان تقيم الدنيا وتقعدها ، وفي قدرتها ان تحول أصغر حادث الى قضية عالمية او تحيل مشكلة دولية الى هامش الاحداث . هذه القوة تحمل الصحـافة أكبر مسؤولية واثقل عبء في اي مكان وفي كل وقت . كما انها في الوقت نفسه تكشف عورة صحافة السخف والتفاهة والمواقف المأجورة ، صحافة الاستهتار بالقارىء وذكائه ووعيه .
 الصحـافة ، هي ان تعيش الحدث ، وان تنسق نبضات عقل الصحفي المهني على خفقاته ، وان ترضي القارىء بما يرتاح اليه ويصيب هوى في نفسه ، من دون ان يكون ذلك على حساب الحقيقة والاخلاقية ، ذلك ان الصحافة مهما تعاظم فيها وجه التكسب فهو لا يجوز ان يطغى على وجهها الرسولي المتجرد الرفيع .
و الصحـافة ، كلها طموح ومشقة ، بل انها لهاث مستمر في سبيل واقع احسن ، وتخطيط ذكي لادراك الواقـع دون ان نكون مسبوقين في سعينا اليـــه . اي ان الصحافة تطالبنا ـ مهنيون وقراء ـ بألتزامات كثيرة ، ادناه .. ان نكون كرماء واسخياء ، وان لا نقتر ، لان التقتير مرفوض في عالم الصحافــة . فليس في الصحافة الا منطق واحد هو منطق حتمية التطوير الذي هو ضرورة من ضرورات المهنة .
 وفـي الصحافة ، مبدأ صارخ وفاعل ـ لا رجعة الى الوراء ـ بل ان هذا المبدأ له كلمات ملزمة ونافذة وشائكة ربما ، الا انها تحتم على ممتهنيها نذوراً ومقدسات ، اقلها ان يكونوا صادقين ، وان يلتزموا بمضامينها .
 ومبـدأ الصحافة الاوقع ، هو ـ ان تكبر أو تموت ـ فالصحافة التي لا تكبر هي في طريقها الى موت محتوم وأكيد ، نعيذ من تباشيره ، ثم من شروره …….
 والصحـافة بلا حرية ، تموت وتصبح صحافة منشورات وشعارات ومقالات رمادية .. لا تتقدم بالطبع تؤخر وتقتل الفكر وتخمد التطلعات المستقبلية ولا تجد من يقرأها خارج دائرة الملتزمين والمنتفعين.
 هـذا التوجه لا يتبناه الصحافيون لحماية اقلامهم وللدفاع عن شرف مهنتهم فحسب بل لخدمة قرائهم وللقيام بواجباتهم وتحمل مسؤولياتهم ، من اجل اعطاء القارىء صورة صحيحة لما يدور حوله ويؤثر على مقدراته ومستقبله ، حيث تصبح صحافة تحقيق وتدقيق وكشف عن كل ما يؤذي الفرد ويسىء الى المجتمـع ، مما تشعر قارئها ان صحافته تحس بمشاكله وتعبر عنها وتتفاعل معها وتحاسب المسؤول عنها . ويدرك القارىء ان صحافته ملكاً له ولم تعد تملكها المؤسسة الرسمية ، فيقبل على شرائها وعلى قراءتها .
قسط من الحرية يحقق هذا ، وقسط اكبر يحقق اكثر ، فعندما تتنفس الصحافة يتنفس معها المجتمع وينتعش .
والصحـافة ، التي تركب الموجات ليست الصحافة المرتجاة ، لانها تغير بيرقاً مع كل هبة ريح لتزيد بيعها على حساب اتخاذ مواقف مؤيدة لظاهرة قامت أو لمد ولد ، وكأنه النشوء الفطري .
فالصحـافة ملتزمة بأخلاقية ، وبقارىء ، وبوطن .. تلك هي الثوابت والمقدسات . اما التطبيل لكل من تهب رياحه ولو خلافاً لقناعاتها ، فـذلك المسلك الجانح والجانب الرخو فـي مهنة خلقت لتكون الهداية والترشيد وقولة الحق . وعندما يعود الحق الى نصابه وتذوب الرغوة بعدما تنفجر فقاقيعها ، يتضح لمن ركب الموجة مدى خطئه وعمق توغله فـي المصانعة والنفاق ، خصوصاً ان لا ذاك ولا تلك ، هما من عناصر مهنة الصحافة وتحديدها .
 إهـم ما في الصحافة ، استشفاف رغبات الناس وفضولهم واستجابة الحاحاتها ونهمها ونواهيهـا . اما ان يكتب الصحفي ما يريده هو من دون ان يرجع الى قرائه ومن دون ان يجري دراسة لواقع القراء ، ورصداً لاصدائهم ووشوشاتهم الخافتة ، التي يمكن ان تنتقل من الهمسة الى الغمغمة ، الى الجهارة الى نقد المسكوت عنه .. يمكن ان يؤدي في النهاية الى الاعراض عن المطبوعة واهمالها ، فهذا منتهى الخطأ بل الغرور الذي ينشىء هوة بين القارىء ومطبوعته ، وربما يؤدي الى القطيعة .
ان الصحـافة ،من أبرز قواعدها وثوابتها وحجارة الزاوية في بنائها ، ان تفهم مايريـده القارىء ، وان تتحسب ، وان تكون مستقبلية … وعلى الصحفي ان يسلك خطاً يؤمن بصوابه ، بعقلانية وواقعية ، سواء كان هذا مجلبة للانتشار او لم يكن . فمن غير المسموح به ان يكسب قراء على حساب الضلال والتضليل والترويج لما يغري بريقه ولو بصورة مرحلية ، فأن لقرائه عليه حق في ان يؤدي لهم حساباً عن كل كلمة وكل حرف يكتبهما . وصحافة ركوب الموجات ظاهرة تغزو العالم وتلقى رواجاً في لحظتها ، لتعود فتخسر كل ما حققت من رصيد ، ويكون عليها ان تبني من جديد لنفسها كياناً وحضوراً .
 والصحـافة ، بالطبع هي ليست طريقاً للابداع ، فالصحفي عندما يتحول الى آلة ، يفقد عنصر المزاجية وعنصر السرعة المطلوبة في انجاز العمل الصحفي ، مما تتحتم عليه حالة من التوتر ، وان تعزف كلماته على اوتار ينبعث منها اللحن الجيد والنشاز .
 ان مهنـة الصحافة لا يجوز ان تسند الى مغامرين انفعاليين يأخذهم المد ويجىء بهم الجزر . من هنا ضرورة الثبات في مواقفها وفي دراسة اي خطوة قبل الاقدام عليها . فالالتزام كل يوم بخط يفقد المطبوعة رصيدها وثقة الناس بها .
 مـن هنا حكمة التروي قبل الاقدام ورسم المخطط الذي تسير عليه الوسيلة الاعلامية ليظل لها مستواها وفعلها في قناعات القراء وخصوصاً القادة والمسؤولين ، فهم اكثر من سواهم معنيون بالعملية الاعلامية التي تتوخى مباركة منهم لأنهم غرضها وغايتها في البدء .
 ان عـدم ركوب الموجات يجنب الصحافة الغرق والسقوط والشطط ، فالصحافيون عليهم الالتزام بنواحي المهنة في سبيل اعلام متزن ومعتدل ومسؤول بعيد عن أثارة الغرائز واذكاء الاحقاد . وعلى اصحاب المهنة ان يدفعوا الثمن ولو باهظاً . تلك سنة البقاء في عالم التنافس الحاد والدقيق الذي يعززه العصر الذي نحياه .
 اننـي كثيراً ما أرثي لحال زملاء ، على الرغم من ان القلة منهم اثبتوا جدارة وبطولات رائعة في مناطحة الكلمة والتحكم بجودة القلم غير متأثرين بكل الاجواء المتقلبة المحيطة بهم سواء كانت عائلية أو معيشية أو مهنية ، والتي تكون غالباً أحد الاسباب الرئيسية في تعرية الكاتب واشهار افلاسه بعد عمليات الاستنزاف اليومية المتكررة .
 والصحفـي الجيد ، عليه ان يستريح استراحة المحارب عندما يشعر بإن عرش الكلمة يهتز تحت قدميه ، والانسحاب من القمة أفضل من العطاء المستمر حتى لو تحرك الى عطاء مجوف .
  ان العمـل الصحفي مأزق كبير يتهافت الكثيرون للوصول اليه ، ويحلمون به وهم يتناسون انه يحتاج الى صحفي يجيد صنعة الكلمة ، قوي الملاحظة ، سريع البديهية ، ضليع بأمور المجتمع والسياسة والفكر . ان اعلان افلاس الحال ارحم مليون مرة من اعلان افلاس القلم .
الصحافة العراقية الآن ، لديها القوة التي تتيح لها تحمل مسؤولياتها والقيام بإعبائها . الا ان هذه القوة يمكن ان تنقلب الى سلاح فاسد ان لم يدعمها الوعي والنزاهة والادراك الصحيح لمصلحـة الشعــب والوطن .
[email protected]