22 نوفمبر، 2024 4:17 م
Search
Close this search box.

المقدس بين الدين والعلمانية

المقدس بين الدين والعلمانية

“المقدس هو كل ما لايمكن السخرية منه”
نيتشه
ظل المقدس ملازماً للحضارة الإنسانية منذ نعومة أظفارها، ولايبدو أن الإنسان سيفك الرباط به حتى مع تراجع دور الدين في الحياة، فالمقدس يخضع لصيرورة تأريخية عبر الزمن, يتطور خلالها في طبيعة وظيفته وصيغة تمظهره دون أن يتلاشى. هو حيوان يتوحد أفراد القبيلة البدائيه بعبادته وتقديسه، أو إله للحب أو المطر، أو هو الرب الواحد الخلاق ، كذلك هو الوطن الذي يقدسه جميع أبناء الجلدة الواحدة، أو علم الأمة الذي ينشد له كل تلاميذ المدرسة بصوت واحد وهم خاشعون.

بحكم التجارب والمعايشة الطويلة أدركت المجتمعات البدائية الطبيعة المتناقضة للإنسان بين نزوعه الفطري للتعايش مع الآخر من جهة، وحبه المفرط لذاته على حساب الآخر من جهةٍ أخرى، ولو ترك الإنسان لطبيعته لكان حال المجتمعات تماماً كما وصفها الفيلسوف البريطاني توماس هوبز بعبارته الشهيرة : حرب الجميع ضد الجميع. هنا برزت ضرورة إبتكار آلية معينة لضبط سلوك الفرد وتنظيم علاقاته بالآخر، فكانت وظيفة الطقوس والتقاليد جمع الناس ضمن مشتركات روحية موحدة، ورفع المنسوب العاطفي للتضامن بينهم. أما القوانين فقد كانت على هيئة قيم و معايير أخلاقية تشكل منظومة قيمية هي بمثابة الدستور الرسمي للمجتمع البدائي. ولتأمين طواعية الفرد للتقاليد ومنظومة القيم, كان المقدس هو الإبتكار العبقري، القادر على تفجير طاقة الإنسان الوجدانية والروحية، وتزويده بالشحنات العاطفية والحوافز النفسية لعمل الخير وتأمين النظام وخدمة الجماعة، أي صناعة الوازع الداخلي الذي تطور إلى ما نسميه اليوم بالضمير، الشرطي الوحيد الذي نبجله ونفتخر به، رغم قسوته وهو يمسك بقائمته الطويلة من الممنوعات والمستحبات، ويفرضها بما يملك من أسلحة فعالة مثل تسليط الشعور بالذنب على النفس أو مكافأة النفس بنشوة فعل الخير أو الإنجاز وغير ذلك.

بإتساع المجتمعات وتطورها المادي، كان على الإنسان أن يطور منظومته الإدارية ليواجه تشعب وتعقيد الحياة، فنشأت الآلهة ذات التخصص الدقيق، التي يقوم كل منها بجانب من جوانب الحياة ، اله للحب وآخر للحكمة وثالث للزراعة ..ألخ . يبدو أن الإنسان انذاك لم يكن قادراً على تخيل إلهاً واحداً يستطيع القيام بكل شيء. إذن المقدس هو السند اللاعقلاني للعقل إذ يلتقيان في وحدة متناقضات تتمثل بطبيعة الإنسان الفطرية.
لقد إستمر المقدس الديني وما يتفرع منه من أساطير وغيبيات في الهيمنة على الحياة الثقافية والسياسية والإجتماعية لقرون طويلة، حتى صعود البرجوازية الأوروبية التي أخذت على عاتقها مهمة تهشيم العالم القديم بكل مفاهيمه وقيمه الإقطاعية البالية والشروع في الحداثة. و بحكم التراكم المعرفي والتطور العلمي والتكنولوجي بلغ الإنسان سن الرشد تاريخياً، إذ أدرك أن المقدس الديني قد إستنفذ قدرته على توجيه بوصلة الحياة،بل أصبح يشكل عبئاً خطيراً على كاهل المجتمع الجديد ، فلم يكن فقط أداةً فعالة بيد ألطبقات المهيمنة لإدامة هيمنتها، بل أصبح أيضاً مصدراً للتعصب والإنغلاق الفكري المنتج للحروب والإرهاب، فقد استمرت الحروب الدينية بين الدول الأوربية لعشرات السنين، وإندلعت الحروب الأهلية بين الطوائف في داخل الدولة الواحدة وأنتشر الإرهاب والقمع الديني في كل ارجاء القارة الأوربية انذاك.
يمكن ادراج تلك الحروب والمجازر ضمن مايسميه الفيلسوف الألماني هيجل ” مكر التأريخ “، فالتأريخ يظهر ما سببته من كوارث ومآسي ويخفي ما كان يعتمل داخل المجتمعات من اسئلة وإرهاصات فكرية, ستكون فيما بعد إنطلاقة فكرية هامة باتجاه الحداثة، فقد وضع
الدين لأول مرة موضع التشكيك والتساؤل، كما تعرض التراث الديني إلى المراجعة والتفكيك والنقد. لقد كانت فلسفة التنوير ثورةً فكرية
هائلة في هذا المضمار، فبعد أن فند جون لوك الشرعية السماوية للملك ، تأرجحت تحديات فكر الأنوار لهيمنة الدين بين إلحادية ديدرو
وتشكيك فولتير وأيمان روسو الرافض لإيمان الكنيسة السلطوي. لقد فتح فكر التنوير الآفاق واسعة لدخول عصر العلمانية ,فالثورة الأمريكية التي قادها كوكبه من تلامذة فكر التنوير ( جفرسن , ادامز , فرانكلين وغيرهم )قد اسست أول دولة علمانية بالتاريخ فصلت الدين عن السياسة تماما , وقد كانت الارض ممهدة لذلك للاسباب التالية : أولا لان الطوائف الدينية تحمل موروث الضحية اصلا ,فقد لجأت الى اميركا بسبب الاضطهاد الديني في دولها الأصلية, ولذا فقد رحبت بفصل الدين عن الدولة لتتجنب اضطهاد الدولة لها من جديد,ثانيا كان هناك توازن في حجم الطوائف لايسمح لأحداها بالهيمنة , ثالثا كانت كل طائفة تحاول التوسع بالتبشير بحرية دون تدخل الدولة وقيودها القانونية. تلت الثورة الأمريكية الثورة الفرنسية التي شرعت بابعاد الدين عن الدولة تدريجيا حتى اكتملت دولتها العلمانيةفي الجمهورية الثالثة عام 1905بعد الغاء معاهدة 1801 مع الفاتيكان وايقاف أي دعم لأي فصيل ديني من خزينة الدولة.
لقد تراجع احتكار الدين للمقدس , فقد اكتسب المقدس في المجتمعات الحديثة بعدا علمانيا, و تغيرت دلالاته الرمزية ووظائفه ومرجعياته, فالحركة القومية الألمانية مثلا , استنبطت مقدساتها من التاريخ الالماني وفرادةالشخصية الالمانية ونقاء عرقها فهي “السليل الحقيقي” للشخصية الاغريقية(خطاب فيخته الشهير للأمة الألمانية) ,كما فعلت الشيء نفسه الحركة القومية الايطالية على اعتبار ان الايطالي هو رائد النهضه الأوروبيه ,وفي الولايات المتحدة يحمل الدستور والاباء المؤسسون قدسية تشبه قدسية الانجيل والصديقين, والجاحد هنا لايتهم بالكفر أو الزندقة كمن يكفر بالسماء وانما, يوصم بإنعدام الوطنية , وبعد احداث11/9 وتفجير مركز التجارة العالمي اصبح المكان مزارا مقدسا يرتاده المواطنون لاحياء ذكرى الضحايا بقدسية وخشوع .لو امعنا النظر حولنا سنجد ان للمقدسات حضورا مهما في حياتنا الفكرية والاجتماعية ,فمن منا لم يركع لتراب الوطن فيقبله وكأنه يصلي لاله مقدس ,وكيف تفسر ذلك التوحد الصوفي وانت تنشد للعلم وهو يرتفع خفاقا, وحين تقف في حضرة تمثال لشخصية عظيمة ألا يغمرك شعور يشبه شعور المؤمن امام قبر قديس أو نبي. خلاصة القول ان الانسان لا فكاك له من المقدس سلبيا كان أو ايجابيا طالما يشترك في الادراك المعرفي عالماه العقلاني واللاعقلاني, وهما بصراعهما يكملان بعضهما في وحدة تناقض خلاقة .

أحدث المقالات