سر التقدم والتطور الحضاري الهائل الذي حصل خلال القرنين المنصرمين والذي ابتعدنا عنه كليا كامة اسلامية ، هو ليس رفع يد رجال الدين عن مفاصل الحياة السياسية والادارية وتمكين العقليات العلمية والكفاءات المهنية والادارية من ادارة شؤون المجتمع ثم التطور الكبير في النظم الديمقراطية والمستوى العالي للشفافية والحوكمة وفصل السلطات التام والحقيقي واعطاء الاعلام الدور الاعلى في الرقابة والمكاشفة والنقد مع تصاعد الوعي الاجتماعي من خلال نظم تعليم محفزة للابداع في العلوم والاداب والفنون، رافق ذلك اهتمام كبير بحقوق الانسان وحفظ كرامته والمحافظة على صحته ، والمساواة بين الرجل والمرأة في كل الجوانب دون استثناء، ثم حقوق الاطفال باعتبارهم أفرادا غير قادرين على اتخاذ القرار وفي حاجة الى رعاية دائمة من العائلة والمجتمع والدولة، فكل ماسبق هو نتائج وليس اسبابا، انما السر يبقى في قفزة اجتماعية مهمة اسست لكل ذلك وهي ( ازالة التقديس ) فلم يعد في عالم الغرب ماهو مقدس اكثر من حرية وخصوصية الفرد ، لا الله ولا انبيائه ولا رسله ولا الاشخاص الذين مازالوا يسمون( رجال دين) ويبشرون بدينهم وتعاليمه، لهم درجة تقديس اعلى من الانسان ذاته، ولذلك لم تهتم قوانين العالم الحر بالمسائل الدينية، فلا يجرم من يكفر او يلحد او يعبد الشيطان او اي اله اخر، انما يجرم من يخرق القوانين الوضعية التي نسجوها اصلا لحماية الانسان وتنظيم علاقته مع المجتمع ومع مؤسساته الادارية، الى الدرجة التي تضع حقوق الفرد قبل واجباته، واصبح من البساطة والسهولة وعدم التحرج للفرد ان يقول انه لايؤمن بوجود الله، ولكن وهذا هو المهم، ان هذه الصورة لاتعني ان الشعوب الحرة لاتؤمن بالله، بل على العكس تماما فالغالبية العظمى مؤمنة بقوة وعقلانية ووعي، وهذا ما يسمى بعبادة الاحرار التي كان عليها الامام علي بن ابي طالب حين قال مناجيا ربه (إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ولا رغبةً في ثوابك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) وهي العبادة التي نفتقدها اليوم كمسلمين، وهذا يعني ان ايمان الناس في العالم الحر بالخالق مع حريتهم افضل حتى لله من ايمان الفرد الجاهل العبد، فلاتجد بينهم مثلا سارقا يدخل الكنيسة او يصلي ابتغاء لمرضات الله وغفرانه مثلما نفعل نحن حين نعتقد ان حج بيت الله يغسل الذنوب السابقة لنفكر في ذنوب جديدة نغسلها في حجة اخرى،او اننا نسرق ونزني ونرتكب المعاصي ثم نذهب في كل خميس للبكاء عند شبابيك الائممة طلبا للشفاعة والغفران، الذي يذهب للاعتراف في الكنيسة بارادته وبوعيه، فانه انما ارتكب عملا يظن انه خطأ وهو يعرف بعقله وضميره ان ما فعله خطأ، وليس حراما، فقيم الحلال والحرام انتهت في العالم المتقدم ليحل محلها قيم الصح والخطأ، والصح هو كل مايضم في معناه الصدق والامانة ومساعدة الاخرين وحفظ خصوصيتهم وحقوقهم وحريتهم واداء الواجبات بافضل صورة ممكنة.
وازالة التقديس عندهم انسحبت من مسالة المقدس الديني الى كل نواحي المجتمع فلم يعد هناك تمييز بين شخص واخر امام القانون وحتى في الحياة الاجتماعية واعتقد ان الجميع قد شاهد عبر مقاطع فيديو كثيرة ، رؤساء بعض أهم الدول الغربية ومسؤوليها وهم يتجولون في الشوارع والاسواق والمطاعم دون ضجة ودون تجمعات تصفق وتنحني لهم وتقبل اياديهم وتدعو لهم بطول العمر مثلما نفعل نحن المسلمون حين نرى رجل دين او مسؤول حكومي، حتى وان كان مدير ناحية من الصعب عليك ان تجدها على الخارطة، فالمغاربة مثلا مازالوا ينحنون الى الارض ويقبلون يد مليكهم في حين لاتجد ذلك في المملكة المتحدة او الدنمارك او غيرها، وكذلك يفعل السعوديون الذين في ارضهم انزل الله القرآن داعيا اياهم للعدل والمساوة، ولكنهم تركوا القرآن والسنة وسيرة الخلفاء ليتمسكوا بسيرة وأفكار المعتوه بن تيمية ومحمد عبد الوهاب وغيرهم من الموتورين وشذاذ الافاق.. بل الامرٌ من ذلك اننا كعرب وكمسلمين نسعى بكل جهودنا باتجاهات هي عكس اتجاهات الحضارة والحداثة ومابعدها، ففي الوقت الذي يسعى العالم الحديث الى تحقيق الحماية لاعلى درجة ممكنة لخصوصية الفرد واعلى مجالات حريته، يسعى رجال الدين في اوطاننا الى ترسيخ العبودية عبر اشاعة النظم العشائرية ومساندتها وتاسيس الهيئات والمجالس التي تنظمها، مع تغييب العقول ونشر الامية ومحاربة الثقافة والفنون اضافة الى التمتع بالسيادة القصوى في الحياة اليومية الاجتماعية والسياسية، والسبب طبعا هو حب الثروة والسلطة، ولو اخذ الخليجيون والسعوديون مثلا حريتهم لانتخاب قادتهم لما بقيت السلطة في هذه الدول متوارثة ومخصوصة لعائلة او عشيرة بعينها محاطة بطبقة منتفعة متماسكة قوية من رجال الدين التي تصدر الفتاوى المتشددة المتخلفة المتعاقبة الهادفة الى بسط نفوذها ونفوذ عشائر السلطة ، ولو لم تتدخل المراجع الدينية في الانتخابات في العراق لما وصل الحال ايضا الى ان يتبوأ الجهلاء والسفهاء مراكز الادارة العليا في البلاد ويحصل ما يحصل من مهازل مبكية مضحكة من الفساد ومن تردي متواصل على المستوى الاجتماعي والسياسيي والاقتصادي والامني،
اذن فان مايفعله رجال الدين المسلمون بمختلف مذاهبهم هو على العكس تماما مماورد في القرآن والحديث عن العدل والمساواة وعن ( ان الناس سواسية كاسنان المشط) و(كلكم من ادم وادم من تراب) وهم انما يشيعون منهج تقديس الافراد والعبودية والاستعباد، والبعض منهم اشاع تجارة الرقيق مثلما يحصل الان في المدن التي يسيطر عليها داعش، وبالتالي فانهم يسيرون عكس حركة الحضارة الكونية.. ففي العراق مثلا وقبل ان يتمكن رجال الدين من التسلط على عقول وقوت الشعب، كانت البلاد تسير بخطى حثيثة نحو التحضر والمدنية ولعل شواهد العمران في بغداد والبصرة والموصل في اعوام الخمسينيات والستينيات وماتلاها خير دليل على ذلك، اما الشاهد الاعظم فانهم بعد تسلطهم وحكمهم ورغم الموارد المالية الهائلة التي حصلوا عليها من بيع النفط، لم يتمكنوا من بناء مستشفى او مدرسة او اي صرح علمي او فني او ثقافي، حتى في المدن التي تخضع لسلطاتهم المباشرة، بل الامرٌ من ذلك انهم دمروا ماكان قائما وسحقوا الطبقة الوسطى وحولوها الى طبقة معدمة تماما، وكل ماقدموه لهذا الشعب هو تكريس التقاليد الدينية التي تجعل من العبد الها، وتزيد المقدس تقديسا، وجعل كل ماهو غيبي اساسا في حياتهم وشجعوا الخرافات وبثوا الاساطير وزادوا من دكاكين السحرة والمشعوذين والدجالين، فاصبح المريض يستعيض بالدجالين عن الاطباء، وبالسحر عن السعي والنشاط الانساني الطبيعي، والاتكال على الجن بدل الاتكال على العلم والمعرفة والتعليم، وبذلك سيطروا تماما على عقول البسطاء من الناس وهم الغالبية العظمى، فترى هذه الملايين الغفيرة الجائعة المهانة المسلوبة الارادة والكرامة تتحشد لزيارة مرقد من مراقد المقدسين ولا
تتحشد للاحتجاج على سوء ادارة دولتهم ونهب ثرواتهم وتجعويهم واهانتهم وسلب كرامتهم..فرجال الدين في العراق لم يطبقوا الشريعة الاسلامية التي تنص على العدل والمساواة بين الوزير والغفير كما يقال وعلى التكافل والتضامن الاجتماعي التي وضع اسسها الحديثة الفيلسوف الاسلامي الكبير محمد باقر الصدر، ولم يطبقوا ولو جزءا بسيطا من فكر وفلسفة الامام علي بن ابي طالب الذي كان يوزع المال والطعام بنفسه على الفقراء والمحتاجين، بل ودون ان يفهموا ويتوقعوا النتائج لسلوكهم المشين امام حركة المجتمع والحضارة ، وسعوا الهوة بينهم وبين بسطاء الناس، فبدأت رغم قصر المدة التي انقضت منذ عام 2003 صيحات الاحتجاج الصريحة والواضحة ضدهم، وموجة الحقد والكراهية التي تزداد يوما بعد يوم مع انتشار مظاهر البذخ والترف التي يعيشها رجال الدين مقابل البطالة والمجاعة والفاقة التي يعاني منها عامة الناس، وايضا مع انتشار فضائح الفساد ونهب الثروة التي اصبحت المائدة الغنية اليومية لكل الفضائيات ووسائل الاعلام والتي يشارك فيها او يتستر عليها رجال الدين، وبذلك عمل رجال الدين على تسليم البسطاء معول هدم قدسية العمامة اولا وهي الخطوة الاولى والاهم لهدم قدسية المقدسات الاخرى التي ستاتي لاحقا وان طال الزمن فليس من الممكن تماما لشعب حضري وحضاري كالعراق ان يعيش بعيدا عن حركة الحضارة والحداثة ومابعدها التي يعيشها العالم المتمدن اليوم.. وها نحن نسمع وعبر الفضائيات كلمات السب والشتم وتعابير الحقد والكراهية للعمامة البيضاء والسوداء على السواء، التي فقدت قيمتها للاسباب التي ذكرناها، ولم يعد المواطن البسيط المقهور يشعر بالحرج، مثلما كان سابقا، وهو يقلل من احترامه للذين يدعون انهم من نسل رسول الله وانهم خلفاء الله في الارض وحججه على الناس وانهم المدافعون عن الدين والمذهب، ويطلق شعارات قوية في تظاهراته الاخيرة في مختلف مناطق العراق ( باسم الدين باكونة الحرامية )، يرافق ذلك الحملة الشعبية السرية التي بدأت مؤخرا لازالة صور خامنئي وخميني وكل الرموز الايرانية التي هتكت ستر العراق والتي لعبت دورا مهما في تدميره من شوارع وازقة المناطق الجنوبية وفي بغداد ايضا..
صحيح تماما ان الغالبية مازالت مكبلة بالمقدس ممن (قدس سره او دام ظله)، الا ان لكل شيء بداية، ورحلة الالف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وخطوة العراقيين خاصة والمسلمين عامة نحو تهديم المقدس وازالة سطوته وتاثيره على حياتهم قد ابتدأت مع هيمنة الجوع والذل والاهانة والفشل المتواصل على حياتهم اليومية، تماما مثلما عانى منها المسيحيون سابقا.. [email protected]