عبر التاريخ كانت الحروب بين فريقين من البشر يتقاتلان على الأرض. وقد استخدم المتقاتلون دوماً وسائل الحرب المتوفرة في كل مرحلة. فمن أسلحة الحَجَر الأولى، إلى الأسلحة الأحدث التي وفرها اختراع البارود. وقد سادت الحروب بوسائلها الأولى البدائية فالمتقدمة نسبياً مرحلة طويلة من التاريخ حتى وقعت الحرب العالمية الثانية. ففي نهاية تلك الحرب الأشد التي عرفها الإنسان عبر تاريخه تم اختراع القنبلة (الذرية) فشكلت بداية الحرب الممنوعة، لأن وقوعها كان، ولا يزال، يعني نهاية الجميع: الأقوى والأقل قوة.. وتساوي في الخوف من هولها مالكوها الكبار ومحروموها الصغار.
غير أن الحرب بقواها الحية ظلت ضرورة للحياة وبقاء الأفضل. فالتطور البشري كان، عبر التاريخ، مديناً للحروب التي سرعته أكثر منه للسلام الذي شكل مراحل تصفية: تصفية لمن يبقى ومن يذهب، من يتقدم ومن يتخلف، من يَستّعمر ومن يُستّعمر. هكذا أنشأت القوة الضارات وأزالتها.
بسبب الخوف من القنبلة النووية ومشتقاتها المازالت بعبع الكل، فقد استطاعت الصناعة العسكرية المُغذاة بالحاجة إلى الحرب والخوف، تطوير وسائلها الجديدة مبقية على الحروب الصغرى أو ما يطلقون عليه تسمية حرائق الغابات، وهي الحروب الممكن تفجيرها والسيطرة عليها في وقت معاً.
هكذا تم تطوير ثلاث وسائل جديدة للحرب هي: الطيران الحديث، والصواريخ بعيدة المدى، ونظام الرصد الفضائي القادر على تحديد الأهداف بدقة لم تكن ممكنة من قبل. يضاف إلى هذه الوسائل نظام إلكتروني عجيب القدرة على التوجيه والتصويب والتحكم.
بالطيران والصواريخ والأقمار الصناعية والحاسوب- الكمبيوتر دخلت الحروب مرحلة جديدة تماماً ومختلفة. لم تعد حروب محاربين مدربين، بل حروب تكنلوجيا متطورة وقدرات تدميرية لا حدود لها ولا دور فيها لشجاعة المحارب أو قدراته القتالية. انتهت عصور الشجاعة الفردية وحل محلها عصر التحكم بأدوات الدمار عن بعد من دون الحاجة إلى أولئك المقاتلين على الأرض الذين يقتحمون الموت ليحققوا لشعوبهم النصر.
صارت الحرب تدميراً للحضارة وبناها الرئيسية وعودة بالدولة والإنسان إلى مرحلة البدائية، وربما قضت على التراث والتاريخ. هكذا حصل في العراق بالأمس وهو مستمر، وهكذا يحصل اليوم في سورية المدمرة، وهكذا سيحصل غداً في المواقع الأُخرى التي يختارها حلف الأقوياء والأغنياء: الأطلسي.. أي حلف الاستعمار العالمي الجديد المندفع كما الطائرة “الشبح” لترتيب عالم ما بعد السقوط والنصر. فحروب الأطلسي تكتفي بالطيران الصواريخ لتدمير كل ما تحتاجه، وتستمر حتى خضوع الدولة المُسْتَهْدَفة وتحقيق الانتصار العسكري عليها.. الانتصار بالحرب من دون محاربين، وبنصر من دون مقاتلين.
على أن أغرب ما في هذه الحروب الكارثية المدمرة هو أن قادتها يتجنبون الوصول بها إلى مرحلة القتال البري مخافة الخسائر التي قد تمنى بها قواتهم العسكرية فتحمل مجتمعاتهم على إعادة النظر في تأييدها للحرب وقادتها. إنها حرب مطلوبة بلا خسائر غير مخزون الصواريخ التي ما تلبث المصانع أن تعيد إنتاجها وتطويرها، ويدفع المهزومون ثمنها من مواردهم.. ومستقبل بقائهم لو يعلمون.
هل عرفنا الآن لماذا ابتكرت الشعوب سلاحها الآخر الذي هو (المقاومة الوطنية) بكل أشكالها وتنظيماتها وقوانين لعبتها.. وربما جنونها..؟
الجواب: لأنها الممكن الوحيد المتبقي في مواجهة تلك الحرب الأكثر جنوناً وهمجية التي تهبط من الفضاء أو تندفع من البحر. إنها، ونعني المقاومة الوطنية، عودة بالحروب إلى قواعدها الأولى: حروب الرجال والإرادات والبشر.. لا حروب الأزرار والأقمار وجنون الآلة. ودائماً كان للقوة موطن وحيد هو الغاب.. ودائماً كان ينبت لعيون المقهورين أظافر وأنياب.