19 ديسمبر، 2024 12:29 ص

المقامرة الجهنمية في أوكرانيا

المقامرة الجهنمية في أوكرانيا

قد لا يختلف عاقلان موضوعيان على أن العدوان بكل أشكاله وتلاوينهوحجومه هو جريمة نكراء لا بد من إدانتها والعمل على تصحيح مفاعيلها بكل ما أوتي هذان العاقلان من عزم وقوة. وذلك ينطبق على الحالة الأوكرانية كما ينطبق تماماً على ما أدمن المظلومون مكابدته من تغول نظم الهيمنة الكونية العارية المنمقة بخطابات جوفاء وشعارات رنانة طنانة عن تأصيل الديموقراطية، والانتصار لحقوق الإنسان كما كان الحال في حالة تهشيم العراق الجريح، وتذرية المجتمع الأفغاني، والتكالب على الشعب السوري الذبيح، وغيرها الكثير من الأمثلة التاريخية الحديثة والمعاصرة العصية على الحصر.

وقد لا يتفارق العاقلان السالفان في توصيفهما للحرب في أوكرانيا بأنها جزء من سيرة الأوروبيين البربرية في تقتيل بعضهم البعض على امتداد قرون طويلة في حروب دموية امتدت على قرون طويلة منذ القرن الحادي عشر مشخصاً بالاستعمار الوحشي للبريطانيين لجزيرة أيرلندا، مروراً بكل الحروب الدموية الفاحشة التي خاضهاالأوروبيون على امتداد القرون العشرة الأخيرة، والتي قد يكون أكثرها دموية الحروب النابليونية، والحربين العالميتين الأولى والثانية، والتيكادت الأخيرة منها أن تذهب بكوكب الأرض بأسره في ركابها في فناء نووي شامل في حال تمكن النازيين من تصنيع قنبلة نووية كانوا قاب قوسين أو أدنى من إدراكها في الأشهر القليلة الأخيرة قبل خسارتهم بسقوط عاصمتهم برلين.

وقد لا يعني أي قارئ باللغة العربية التفكر بمفاعيل مقتلة يحتز فيها «السادة البيض» رقاب بعضهم البعض، في حالة تشف انتقامي فطري من ذاك القارئ المعذب سرمدياً يدعوهم بها ليذوقوا بعضاً مما ذاقه على جلده وجلد أبنائه وآبائه في سالف وراهن الأيام. وذلك شعور يمكن تفهم أسبابه، والاختلاف المنهجي مع منطقه السلبي التعميمي الذي يتناسى أن كل الحروب تتم بدماء المفقرين المستضعفين في مجتمعاتهم، والذين لا حول لهم ولا قوة سوى بالتضحية بدمائهم ليحصد ثمنها الأقوياء والأثرياء القابعون دائماً في مواقع بعيدة عن مطحنة الحرب وآلتها الجهنمية التي لا تفرق بين الصالح والطالح في عملية فرمها الممنهج لكل ما هو حي ويقف في طريق تحقيق مآرب من يرسم سياساتها وأهدافها.

ولكن جوهر المواجهة العسكرية في أوكرانيا أصبح معقداً إلى درجة تداخل فيها كل الأفرقاء لتصبح ساحة حرب كونية على الأرض الأوكرانية تكاد تشي بأنها حنجلة قبل رقص شيطاني في إيقاع حرب عالمية ثالثة. وجوهر التعقيد أسه المقامرة الأمريكية باستخدامها حجة مقاومة الغزو الروسي الغاشم لأوكرانيا بمخالفة للشرعية الدولية، وهو غزو يستحق الإدانة بكل المقاييس، ولكن آخر من يستطيع إدانته هو الأمريكان وذيلهم من الأتباع الإنجليز الذي لا زال الشعبان العراقي والسوري المظلومين وغيرهما كثير من شعوب المعمورة تنزف حتى اللحظة الراهنة جراء ما فعل ويفعل بهم الغول الإمبريالي الأمريكيوزبانيته ومرتزقته وعملاؤه دون خجل من شرعية دولية أو ما كان على شاكلتها من ورق توت لا يستر عورة الفاسقين المجرمين.

ويكمن أس المقامرة الأمريكية أساساً في أوكرانيا في المعادلة المهولة التالية المؤلفة من ثلاثة رؤوس جهنمية ومتناقضة في آن معاً؛ الأول منها أطروحة سياسية تخويفية مفادها بأن هناك غولاً عسكرياً روسياً يضاهي في سعاره هوس النازية الهتلرية، قام بالإفصاح عن مخططه التوسعي الكبير، والذي بدأ في أوكرانيا ولن يتوقف عندها، ولا بد أن يمتد إلى كل الدول المجاورة لروسيا، وهو ما يستدعي دخولها إلى حلف شمال الأطلسي والمظلة الحمائية الأمريكية كحل وحيد لا بديل عنه لمواجهة ذلك البعبع الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من إطباقه على القارة الأوربية بأكملها.

والثاني منها أطروحة عسكرية تناقض الأطروحة السالفة بشكل كلياني، دون أن يضير ذاك التناقض المتفوهين بها وبالسالفة لها بأي درجة كانت، ومفاد تلك الأطروحة الثانية بأن الجيش الروسي أثبت أنه جيش خلبي من ورق لم يستطع على امتداد أشهر إحكام سيطرته الكلية على أي مدينة أوكرانية رئيسية بشكل كامل، وهو ما يعني بأن هزيمته هو حاصل مؤكد لا يحتاج سوى إلى إمداد المقاتلين الأوكرانيين بأحدث العتاد العسكري من الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما الآخرين في حلف شمال الأطلسي، والاستمرار بذلك الإمداد إلى آخر قطرة دم في آخر جندي أوكراني؛ وذلك يعني في التفسير السياسي لتلك الأطروحة السالفة إغلاق كل الأبواب في وجه أي مبادرات دبلوماسية يمكن أن تفضي إلى حلحلة لمفاعيل المقتلة العدمية فيأوكرانيا، والتي قد تفضي إلى مجاعات حقيقية في العديد من دول العالم المفقر المنهوب التي تقيت شعوبها من القمح الأوكراني و زيته؛وهي الحلحلة التي لا يمكن أن تتم إلا من خلال إيجاد مخرج سياسي ما للطاغية بوتين وشركاه من المستنقع الأوكراني الذي وضعوا أنفسهم فيه، بشكل يحفظ ماء وجههم الدميم، ويتوقف عن حشرهم في الزاوية، متناسين أن الطغاة على مر التاريخ لم يتورعوا عن استخدام كل ما في جعبتهم من أسلحة حينما يشعرون بأنهم مهددون وجودياً، والحقيقة أنه لدى الطاغية بوتين الكثير من أدوات ووسائل وأسلحة التدمير الشامل النووية و غيرها التي تكفي لتدمير أوكرانيا بأكملها، ومن قد يقف في وجه ذلك، وهو ما يعني احتمال تطفر الحرب في أوكرانيا لتصبح حرباً عالمية ثالثة يحتمل أن تذهب بكوكب الأرض بأسره نووياً سواء بالتلوث الإشعاعي النووي، أو من خلال الشتاء النووي الذي لا بد أن يستتبع تبادلاً للقصف النووي بما لا يتجاوز عشرات من الرؤوس النووية فقط، والذي تمتلك دول الأقوياء عشرات الألوف منها؛ وهو الشتاء النووي الذي سوف يحدث جراء انحجاب أشعة الشمس عن أجزاء شاسعة من كوكب الأرض عقب انتشار الغبار النووي في الغلاف الجوي، وهو الذي سوف يؤدي إلى ذواء الزرع والضرع في جل أرجاء الأرضين، ويدفع البشرية إلى مجاعة كونية يحتمل أن تنهي وجود الجنس البشري، وجل الكائنات الحية الأخرى، حتى لو قرر البشر أكل بعضهم البعض للإفلات من مفاعيل تلك المجاعة حينئذٍ.

وآخر الرؤوس الجهنمية المتناقضة السالفة الذكر يكمن في الأطروحةالثالثة التهافتية التالية؛ والتي جوهرها هو أنه على الرغم من أن فلاديمير بوتين وشركاه من الطغاة والنهابين معتوهون وممسوسون بأوهام الهيمنة العسكرية على الطريقة النازية الهتلرية، ويحلمون بإعادة أمجاد روسيا القيصرية، فإنهم سوف لن يجرؤوا على استخدام أي من أسلحة التدمير الشامل وخاصة النووية منها في ترسانتهم العملاقة، حتى لو تم حشرهم الخانق في الزاوية، وشعروا بتهديد وجودي لهم أحد أمثلته انتقال الحرب الأوكرانية لتصبح على الأرض الروسية نفسها، وذلك لأنهم يخشون أن يصبحوا الدولة الثانية التي تستخدم الأسلحة النووية بعد الولايات المتحدة التي استخدمتها من قبل لتركيع اليابان في خواتيم الحرب العالمية الثانية في العام 1945.

وإن ناظراً متفحصاً في الرؤوس الجهنمية لمعادلة المقامرة الأمريكية والغربية في أوكرانيا لا بد أن يرى ليس فقط عوارها وخواءها المنطقي والعقلاني وحتى السياسي، وإنما رعبها وهولها الذي أصبح يحمل في طياته احتمال المسغبة لمئات الملايين من البشر الذين يقتاتون بالقمح الأوكراني، بالإضافة إلى الاحتمال المريع بتحول تلك الحرب إلى حرب كونية نووية في حال استمرار المقامرة الأمريكية بها على نهجها القائم على القتال حتى آخر قطرة دم لآخر جندي أوكراني وبالدم الأوكراني حصرياً لإضعاف روسيا وهزيمتها وتقزيمها كدولة عظمى، أو إرغام الطغمة الحاكمة في روسيا على الانقلاب على الطاغية بوتين والتضحية به كبش فداء، كثمن لاستمراء الهزيمة النكراء، و الخروج من المستنقع الأوكراني، وهو احتمال قد يصعب على أي عاقل استكناه احتمال تحققه، خاصة وأن بوتين رئيس سابق لجهاز الاستخبارات الروسية، ويدير نظاماً شمولياً أمنياً بامتياز قد يصعب فيه صناعة حبكة للانقلاب عليه، بالتوازي مع الحقيقة بأن كل حاشية نظام الدولة الأمنية في روسيا المعاصرة منغمسون في فسادهم وإفسادهم إلى درجة قد يعني بها رحيل بوتين قسرياً رحيلهم معه سواء كان ذلك بفقدان موقعهم الوظيفي في بنيان الدولة الشموليةالروسية و مداخل هيمنتها على مقدرات روسيا الهائلة، أو من خلال انكشاف الحماية الأمنية عنهم والتي من خلالها تمكنوا من جمع ثروات هائلة عبر انخراطهم في شبكة فساد وإفساد الطغمة المافيوية الحاكمة في روسيا المعاصرة.

والحقيقة أن رأس الحكمة في مقام الحروب جميعها، و الحرب في أوكرانيا خصوصاً، والتي تتم بدماء وأرواح المستضعفين المسحوقينفي سياق صراع الأقوياء والأثرياء على حصتهم من كعكة الهيمنة الكونية، لا بد أن يكمن دائماً في الجنوح إلى خيار الدبلوماسية والتفاوض لحلحلة الأزمة الأوكرانية بشكل ما يتيح للطغاة في موسكو حفظ ماء وجههم القبيح، وإلا فإن السعي في مسارب مقامرة الأمريكان وزبانيتهم من الدول الذيلية يحتمل أن يقود البشرية وكوكب الأرض بأسره إلى درب اللاعودة والتهلكة الساحقة الماحقة، و يجلب في طريق جلجلته عذابات لا حصر لها للمظلومين المستضعفين الذين يتقاتل الأقوياء الأثرياء بدمائهم، و مسغبة مريرة لمئات الملايين من المفقرين المدنفين في غير موضع من أرجاء الأرضين، والكثير منهم واحسرتاه من الناطقين بلسان الضاد المتقرح المكلوم.