23 ديسمبر، 2024 7:36 م

المقامة العربية والرواية البيكارية الإسبانية  

المقامة العربية والرواية البيكارية الإسبانية  

إن موضوع التأثير العربي والاسلامي، بمختلف اشكاله، على الثقافة الاوربية ليس بجديد ، وقد تطرق اليه عدد كبير من الباحثين، وما زال الموضوع في مد وجزر، فتارة يتفق النقاد والمؤرخون على اهمية الدور الذي لعبه العرب والمسلمون في ايقاد شرارة الحضارة في اوروبا عن طريق الكم والنوع الهائلين من شتى ضروب العلم والمعرفة التي نقلوها الى أوروبا سواء اثناء فترة تواجدهم في الأندلس وصقلية او عبر قنوات الاتصال التجارية والسياسية او من خلال الحروب (الحرب الصليبية مثلاً) وتاره اخرى يشكك هؤلاء بأهمية ذلك الدور . وما تأثير المقامة العربية على الرواية البيكارية الإسبانية ومن ثم على الرواية الاوروبية الا جانب من جوانب هذا الموضوع .
لقد دخل المسلمون الأندلس عام 711 ميلادية ، وطوال ثمانية قرون قدم المسلمون لسكان البلاد الاصليين صنوفا شتى من العلوم والآداب كانت جديدة عليهم . فلقد نقل المسلمون معارفهم في الفلسفة والتربية والطب والفلك وغيرها الى الاقوام اللاتينية التي كانت تقطن الأندلس وما جاورها من البلدان . وخلال فتره قصيره من الفتح العربي للأندلس وبسبب الاهتمام الكبير الذي ابداه ملوك الأندلس بالعلم والعلماء ،اصبح اللسان العربي وإتقان العربية ونظم الشعر بها امورا يتفاخر بها السكان الاصليون قبل السكان الوافدين. وانكب الاسبان ينهلون من الكتب العربية باختصاصاتها المختلفة ومن العلم العربي باتجاهاته المتعددة ووصل الامر حدا بدأ معه رجال الدين المسيحيون التعبير عن سخطهم وتخوفهم من هذه الظاهرة وقضية مطران قرطبة (الفارو) خير دليل على ما نقول .فقد روي عن (الفارو) قوله “اين نجد هذه الايام مواطنا عاديا يستطيع قراءة الشروح المكتوبة باللاتينية للكتاب المقدس؟ للأسف إن كل الشباب المسيحيين النابهين منكبون على العربية والكتب العربية. إنهم يقرأونها بحماسة شديدة ويصرفون مبالغ طائلة على تجميع الكتب العربية في مكتباتهم ويعلنون على الاشهاد ، إن الادب العربي ادب رائع. ومن جانب اخر إن تحدثت معهم عن الكتب المسيحية فسيردون بازدراء إن هذه الكتب لا تستحق منهم الاهتمام . للأسف لقد نسي المسيحيون لغتهم، ونادرا ما تجد بين العديد منهم شخصا واحدا يستطيع كتابة رسالة باللاتينية بينما تعبر الغالبية منهم عن نفسها باللغة العربية بشكل جيد وتستطيع نظم الشعر بالعربية بمهارة تتفوق فيها على بعض العرب.”
بالرغم من أن بعض الدارسين حاول التقليل من اهمية هذه الشواهد ووصفوها بالمبالغة، مع ذلك يبقى ما قاله (الفارو) وما فعله غيره دليلا ماديا مهما على المدى الذي وصل اليه التأثير العربي على سكان شبه الجزيرة الأيبيرية ، ويبقى كذلك دليلا مضافا على مقدار الحرية التي وفرها المسلمون لكل الديانات للتزود من الصنوف المختلفة للثقافة، مما مهد لمسألة التقارب الثقافي وظهور افكار جديدة زاوجت بين الفكر الوافد والبيئة الجديدة ،وبذلك ظهر ادب جديد فيه بعض من ادب المشرق وفيه بعض من الحياة الأندلسية.
لقد ظهرت المقامة في المشرق العربي في القرن العاشر الميلادي ثم انتقلت مع ما انتقل من علوم وفنون وآداب إلى المغرب العربي والأندلس. ولقد أصاب المقامة ما أصاب بقية الأشكال الادبية من تطور على مستوى المادة والاسلوب نتيجة ،كما ذكرنا للتزاوج بين الوافدين الجدد والبيئة الجديدة ، فكتبها سكان الأندلس بمختلف دياناتهم (الاسلامية والمسيحية واليهودية) بعدما شدتهم اليها جزالة اللفظ وروعة الاسلوب وحلاوة القصة ونحن نعرف أن الأندلسيين ،غير المسلمين منهم خاصة ،كانوا يبحثون عن كل ما هو رائع بين العلوم والآداب العربية لدراسته والسير على خطواته، فيتناولونه في البداية مقلدين لنصه الاصلي ، ثم يفعل الزمن فعله ويتطور الشكل بمرور الايام ويبتعد رويدا رويدا عن النص الاصلي . واعتقد أن ذلك يحدث مع كل الاشكال الادبية التي نعرفها . فالرواية اليوم تختلف كثيرا عن الرواية التي كتبها (ديفو) في القرن الثامن عشر والقصة التي كتبها (ادكار الن بو) في القرن التاسع عشر مختلفة جدا عما يكتب هذه الايام من القصص، ويصدق القول على الشعر والمسرحية. وبالرغم من كثرة الكتب التي درست المقامة ، الا أن الكثير منها يصد عن قضية اعتبارها سلفا للرواية الاوروبية .إن فترة القرون الثمانية التي امضاها المسلمون في الأندلس وما تركوه من بعدهم من ارث ثقافي ضخم كافيان لاعتبار الأندلس تربة خصبة لنمو اشكال جديده تنهل من الاشكال القديمة او تمثل تطورا طبيعيا لها . لقد ترك المسلمون تراثا شعبيا واسعا فيه المئات من القصص التي تتحدث عن اللصوص والشطار والعيارين وتركوا ايضا العديد من الكتب والمخطوطات التي تناولت حياة الصعاليك ومغامراتهم وهذا الارث الشعبي والكتب المتنوعة يمثلان مجالا وافرا للأسبان لينهلوا منه مادة لما كتبوه في فترة تواجد العرب التي انتهت عام 1492 او القرون اللاحقة . ومن ضمن ما كتبوه الرواية البيكارية. فما هي الرواية البيكارية ؟
لقد تعرض مفهوم الرواية البيكارية ، مثله مثل العديد من المصطلحات الادبية ، الى اجتهادات متنوعه ادت في نهاية الامر الى وقوع النقاد في مصيدة الغموض والاضطراب بدلا من الوصول الى تحديد واضح ومحدد للمصطلح . ونتيجة لذلك تعددت التعريفات المقدمة في هذا الخصوص واختلفت اتجاهاتها ، وتوسعت الهوة التي تفصلنا عن المصطلح مما اضطر احد المختصين الى التعليق بأنه خلال فترة عشر سنوات فقط تحول مصطلح الرواية البيكارية الى مصطلح مشوش وغير مفهوم (بعدما كان واضحا ومفهوما) بحيث إن النقاد بدأوا يستخدمونه لأغراض مختلفة وازداد كم الروايات التي تندرج تحت هذا العنوان وتنوعت الى درجة اصبح معها الحديث سهلا عن خاصية او اكثر من خصائص الرواية البيكارية في معظم الروايات المكتوبة اليوم.
ويقدم قاموس اكسفورد تعريفا عمليا للمصطلح يقول :هو كل ما يرتبط بالمتشردين والافاقين او إنه اسلوب قصصي يتناول مغامرات المتشردين وهو ذو اصل اسباني على الاغلب. هذا التعريف يؤكد على بعض النقاط المتعلقة بالمحتوى والاسلوب والتاريخ . فالمصطلح ، كما يدلل التعريف ، يشير الى قصة مادتها حياة المتشردين وعاداتهم وهذه القصة ذات اسلوب متميز يفرقها عن بقية الأنواع القصصية المعروفة وإن لهذه القصة تاريخا يمكن تحديده زمانيا ومكانيا . والنقطة الأخيرة مهمه جدا لفرضية هذا البحث اذ ليس من المعقول أن يعيش العرب في اسبانيا مدة ثمانية قرون ويتركوا اثارا لهم في كل مفصل من مفاصل ذلك البلد ثم يغادرونه ليأتي السكان الاصليون بعد مغادرة العرب بفترة قصيرة نسبيا ليستوردوا مادة واسلوبا من الاغريق او الايطاليين ويتأثروا بهما بسرعه وينسجوا قصصهم على منوال القصص الاغريقي والايطالي، او إن الرواية البيكارية تظهر فجأة للوجود عام 1554 بلا مقدمات ولا سوابق تنذر بظهورها ثم تختفي فجأة دون أن تترك وراءها اثرا. ذلك حسبي مجرد محاولات لتجاوز التأثير العربي.
يقدم (فونكر دوهان ) عام 1895 تعريفا جديدا للرواية البيكارية يضيف من خلاله ميزتين جديدتين .
يقول (هان): إن القصة البيكارية عبارة عن سيرة حياة بيكارو وانتقاد للظروف والاشخاص الذين عاشوا معه .هاتان الميزتان هما “سيرة حياة” مكتوبة بأسلوب انتقادي ويتقدم (فرانك جاندلر) بتعريف جديد للرواية البيكارية يركز فيه على البطل البيكاري ويقدمه بطريقة مثالية . يقول التعريف تقدم الرواية البيكارية الاسبانية متشردا والمغامرات التي يقوم بها .وينحدر البطل من ابوين فقيرين وغير نزيهين لا يكترثان في الغالب في مباركة او تسجيل زواجهما ولا يبديان السعادة في إنجاب وليدهما. يترعرع الوليد معتمدا على ما يتوفر له من سبل ويدخل العالم متسلحا بحب غريزي لما يملكه الاخرون او أن يكون بريئا ويتعلم من خلال العقوبات المتكررة أن عليه الاحتراس والحذر وإلا سيكون مصيره العدم . ويكون المصير في الحالتين واحدا . فحتى يعيش عليه أن يخدم مولى، وحتى يعيش عليه أن يتشرد مغيرا مولى بآخر، وفي كل الاحوال يظهر براعة وذكاء يفوقان براعة وذكاء مخدوميه وتكون الفرصة مواتية لإنزال هجاء لاذع بالمجتمع . ويختتم البيكارو قصته بعدما يقوم بوصف لبعض تقلباته الغريبة بين يسر الحال وضيقه ويقدم ايضا من وجهة نظره تقييما للأحوال الإنسانية . وتكمن اهمية هذا التعريف، اضافة الى تقديمه رسما متكاملا للبطل البيكاري، في تفريقه الواضح بين الرواية البيكارية التي تتميز بشكلها الفني وكذلك بوجهة النظر التي يقدمها الراوي او (البيكارو) وبين ادب التشرد الذي يشتمل على قصص المجرمين والشحاذين واللصوص .
وقدم الروائي (تشيسترتن) ، في مقاله له عن الروائي (توبايس سمولت ) تعريفا قد يبدو مغاليا بعض الشيء “إن جميع الروايات من امثال رواية (الولد الجوال) وجميع الروايات حتى تاريخ ظهور رواية بيكويك كانت مكتوبه بأسلوب ساخر .. اي أن البطل لا يحمل أيا من صفات البطولة … هذه النزعة في تقديم مغامرات شخصية مخادعة وانتصاراتها بأسلوب مسل قد بدأ مع ظهور ما يسمى بالرواية البيكارية .”إن سبب تطرف هذا الرأي يعود الى أن (تشيسترتن) قد ذهب بعيدا في تقديره لتأثير الرواية البيكارية على الرواية الاوروبية في فترة ظهورها كما أنه اهمل تأثيرها على الرواية الاوروبية المتأخرة .
وفي عام 1967 ظهر كتابان يدرسان الرواية البيكارية الاول لـ(رونالد بولسن) ركز المؤلف في تعريفه للرواية البيكارية على اسلوبها الهجائي او الانتقادي والذي سبق وأن اشار اليه فونكر نوهان . ورسم (ستيوارد ميلر) في كتابه رواية بيكارية مثالية دون اعتبار للتغيرات التي يمكن أن تلحق بالرواية خلال مراحل تطورها في فترات واماكن مختلفة.
وابتعد النقد الحديث عن هذه التعريفات التقليدية التي حاولت تأشير مواصفات الرواية البيكارية اعتمادا على بعض عناصرها قدم بدلا عن ذلك تعريفات اتسمت بالعمومية بحيث اصبح المفهوم يشمل “جميع الروايات التي يقوم ابطالها برحلات تضعهم امام ظروف مختلفة وأنواع متعددة من البشر” .
ويرى (كلاوديو كولين) أن الرواية البيكارية عبارة عن “اعترافات كذاب” وهو يعتقد أن من الصعب العثور على رواية تنطبق عليها جميع مواصفات الرواية البيكارية . ويعتقد (باركر) أن شرط السيرة الذاتية غير اساسي بالنسبة للرواية البيكارية .واعتبر قضية الانشقاق والخروج على الاعراف الاجتماعية السائدة جوهر الرواية البيكارية. و(باركر) بذلك يعارض (كولين) الذي شدد على شرطي السيرة الذاتية ويتم البطل البيكاري واعتبرهما اساسين في كل رواية بيكارية. وركز (ايهاب حسن) و(كرستيني وايتبورن) دراستهما للرواية البيكارية على مسألة الموطن الاصلي لتلك الرواية. يعتقد (ايهاب حسن) أن الرواية البيكارية ظاهرة إنجليزية محضة. في حين أكدت (وايتبورن) أن اسبانيا هي الموطن الأصلي للرواية البيكارية وأرجعت بدايات ظهورها إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
وتستمر المحاولات وتتنوع الطرق المستخدمة في محاولة الوصول الى تعريف دقيق لهذا النوع من الرواية. فيقدم (الريج ويكس) اسلوبا جديدا يعتمد على توظيف نظرية (شولز) الخاصة بالأنواع الادبية ونظرية (كيسر) الخاصة بالتراكيب في محاولته الوصول الى تعريف للرواية البيكارية. يعتقد (ويكس) أن الموقف القصصي البيكاري المثالي يجب أن يربط النوع البيكاري مع التركيب البانورامي . ويرى(ر.و.ب.لويس) أن الرواية البيكارية تعني أن بعض الشخصيات اكتشفت أنها غير قادرة على العيش ضمن معايير اخلاقية معروفة. هذه الشخصيات خارجة على القانون وفي نفس الوقت في صراع دائم مع هذا القانون”. وتتضمن دراسته اشارات الى روائيين من اتجاهات مختلفة مثل مورافيا ، وكامو فوكنر، وكرين، ومالرو. ويجري(اوسكار سيدلن) دراسة لبعض روايات توماس مان ويربط بعض شخصياته (خاصة فيلكس كرول) مع بطل رواية (لازاريلو من تورميس). ويركز (ج.س. روسو) على اهمية المادة البيكارية (بغض النظر عن الشكل) ويرى أنها يجب أن تضم بطلا بيكاريا هو في ذات الوقت راوي هذا العمل ،وهو غير مستقر اجتماعيا وذو موقف غامض من نفسه ومن المجتمع .ويكتشف في ترحاله المستمر أن الحياه لعبة عليه أن ينسحب منها في النهاية.
هذه الاختلافات حول مفهوم الرواية البيكارية تدفعنا الى محاولة التوفيق بينها من خلال تأشير المواصفات الاساسية للروايات التي ظهرت في القرن السادس عشر (لازاريلو من تورميس، قزمان الفرج على سبيل المثال) ثم محاولة ايجاد معايير يمكن من خلالها التعامل مع الروايات التي ظهرت بعد هذا التاريخ داخل اسبانيا وخارجها (فرنسا اولا ثم المانيا وإنكلترا ثم في مناطق اخرى من العالم ). يمكننا القول إن اهم خصائص تلك الروايات :
أولا: بطل فقير يكتشف نفسه وسط عالم عوز وحرمان في سن مبكرة من عمره .يضطر الى ترك مدينته وينتقل الى مدن اخرى وفوق كل ذلك فهو يتيم ويعاني من الوحدة والعزلة (قد يكون البطل يتيم الاب او الام او كليهما) والبطل يقف في مواجهة عالم لم يستعد اصلا لمواجهته . ويتمتع البطل ببعض الذكاء الذي يعينه على كسب قوت يومه من خلال الحيلة والسرقة.
ثانيا: الرواية البيكارية رواية شبه ذاتية او إنها قريبه من السيرة الذاتية . إن وجهة النظر الذاتية التي توظف في هذه الرواية مهمة لأنها ستلون جميع مفردات الحدث باللون الذي يراه البطل وتجعلها تبدو بيكارية جميعها.
ثالثا: الرواية البيكارية عبارة عن نقد متواصل لبعض القضايا الدينية والاخلاقية .وهذا النقد موجه دائما من الاسفل الى الاعلى لأنه صادر عن البطل المتواجد دائما في القعر. هذا الموقع يمنح البطل فرصه للتأمل واحيانا تقديم وجهة نظر ذات طابع فلسفي وتأملي .
رابعا: تؤكد الرواية على الجانب المادي من الحياه : أي أنها تتطرق معظم الوقت الى امور تتعلق بالمال والجوع … وغيرهما
خامسا: يقدم البطل (بسبب حركته المستمرة بين هذه الطبقات) عرضا مختلفا للطبقات الاجتماعية والمهن والاشخاص والمدن وتلعب السخرية دورا فاعلا في ذلك الاستعراض بسبب التناقض بين ظاهر الاشياء وباطنها.
سادسا: حركة البطل ذات اتجاهين : افقي وعمودي .فهو يتحرك افقيا من الناحية الجغرافية أي أنه يتحرك من مدينة لأخرى بحثا عن سبل عيش جديدة وهروب من سيد قديم . ويتحرك عموديا صعودا وهبوطا بين طبقات المجتمع المختلفة تبعا لانتماء الاشخاص الذين يعمل معهم .
سابعا: الرواية البيكارية قائمة في بنائها على اساس مجموعة قصص او حوادث مستقله تأخذ شكل الرحلة الى مدن مختلفة يتعرف فيها البطل الى مغامرات وحكايات مختلفة مستقله ويقوم البطل بمهمة الربط بين تلك الحوادث والقصص والرحلة مهمة لأن الرواية البيكارية توصف احيانا بأنها رواية تجري في الطريق .
ولكننا ما إن نبتعد عن القرن السادس عشر وعن اسبانيا حتى تبدأ هذه المواصفات بالتساقط الواحدة بعد الاخر لتدخل امور جديدة تعكس في جوهرها موقف الكتب وكذلك المجتمع في تفسيرهما للنص الاسباني الاصلي ولقد كان لبطل الرواية (البيكارو) حصة الاسد في هذه التغييرات. فلو اخذنا الرواية البيكارية الاسبانية فسنجد ان هذا البطل قد مر بثلاث مراحل.
في المرحلة الاولى كان هذا البطل سليلا لعائلة عديمة الجذور من اللصوص والعاهرات، وهو يضطر الى الترحال الدائم بحثا عن مصدر لكسب العيش ليجد نفسه في النهاية خادما عند احد النبلاء. ويتميز البطل بالأنانية حيث إنه يحدد خطأ وصواب الامور من زاوية مصلحته الخاصة. ويتغير البطل كثيرا في المرحلة الثانية حيث يتحول الى مغامر بعدما كان متشردا في المرحلة الاولى. ويتحول الى سليل عائلة محترمة يتورط في بعض الجرائم ويستغل المؤلف هذا التورط ليقدم عرضا مفصلا لفساد المجتمع. ويجد البطل الفرصة للندم والتوبة قبل موته. وفي المرحلة الثالثة تحول الرواية البيكارية بطلها الى مهرج يعي جيدا ما يقوم به. ويحدث تطور سريع في مفهوم الرواية البيكارية عندما تنتقل خارج حدود اسبانيا وقد لعبت الترجمة دورا كبيرا في هذا التطور لان ترجمة الروايات البيكارية الاسبانية كانت تتم بطريقة تعكس ذوق المترجمين والذوق العام اكثر من ما تعكس النص الاصلي وكاتبه، لذلك نرى ان التراجم الايطالية تلونت بأفكار عصر النهضة وفلسفته، في حين عكست التراجم الالمانية ما كان يجري في المانيا بخصوص حركة الاصلاح الديني، لذلك نرى ان ابطال هذه التراجم وقد بدوا غرباء عن ابطال النصوص الاصلية. ونظر الإنكليز نظرة ازدراء الى هذا النوع من الروايات ومع ذلك فقد قلد الروائيون الإنجليز النماذج الاسبانية والفرنسية المتوفرة. ونتيجة لذلك اصبح من العسير الحديث عن رواية بيكارية (في المواصفات التي اشرنا اليها سابقا) في القرن الثامن عشر. فعلى سبيل المثال لم يعد شرط السيرة الذاتية اساسا للرواية البيكارية وإنما لرواية المذكرات. وبناء على ذلك بدأ النقاد بلصق صفة البيكارية بالعديد من الروايات التي لا يمكن اعتبارها بيكارية نقية لأنها قلدت نصوصا غير بيكارية. وعلى سبيل المثال لا تعتبر رواية (توم جونز) رواية بيكارية لأنها قلدت رواية (دون كيشوت). وهذه الاخيرة بعيدة جدا عن مفهوم الرواية البيكارية التي انتشرت في القرن السادس عشر.
وفي القرن التاسع عشر لم يتطلع الروائيون الإنجليز صوب القارة في بحثهم عن نماذج يقلدونها وإنما ركزوا على مسألة الاستفادة من اسلافهم من امثال ديفو و(سمولت) و(فيلدنج): اشهر الاسماء الروائية في القرن الثامن عشر. فأصبح من العسير التحدث عن رواية بيكارية إنجليزية نقية حتى مع روايات (ديكنز) الذي يبدو وللوهلة الاولى قريبا من النماذج الاسبانية الاصلية، الا اننا سرعان ما نكتشف ان ابطال (ديكنز) بعيدون عن الابطال البيكاريين الاسبان الا في نقطة او نقطتين (مثلا بعض ابطال (ديكنز) مشردون ويواجهون مجتمعا ظالما كما يحدث في الروايات الاسبانية البيكارية) وما عدا ذلك فان (ديكنز) مشغول بفلسفة عمل بعيدة عن فلسفة الروائيين الاسبان. كان (ديكنز) مشغولا دائما في محاولة دفع بطله نحو اللحظة التي يحقق فيها الانتصار وإنهاء مرحلة العذاب القاسية.
ومع دخولنا القرن العشرين يعتمر البيكارو رداء جديدا بحيث يصبح غريبا جدا عن اقرانه الاسبان وحتى الإنجليز. لقد عمد النقد الحديث الى اسلوب الاشارة الى خاصية او اكثر من الخصائص البيكارية في هذه الرواية او تلك. وبدأ الحديث يتركز حول مواضيع جديدة بمعزل عن العمل ككل مثلا يتحدث النقاد عن ابطال بيكاريين وحوادث بيكارية واسلوب بيكاري.. وهكذا. وبسبب ذلك نجد اليوم خليطا عجيبا يندرج تحت مظلة الروايات البيكارية ولقد شجع تعريف (والتر الن) للرواية البيكارية (الذي ذكرناه سابقا) النقاد على اطالة قائمة الاعمال البيكارية واضافة اسماء جديدة الى قائمة الروائيين البيكاريين التي اصبحت تشمل (جيمس جويس) و(فرانز كافكا) و(جون شتاينبك) و(غنتر غراس) اضافة الى ما ذكرناه سابقا
وبسبب هذه الهلامية والتوكيد على مسألة الرحلة وقعت الدكتورة فاطمة موسى في خطأ اعتبار روايات (زينب) و(عود الروح) و(عصفور من الشرق) و(قنديل ام هاشم) و (الحي اللاتيني) و(موسم الهجرة الى الشمال) و(سنوات الضياع) لكل من (هيكل، والحكيم، وحقي، وادريس، والطيب صالح، وغالب حمزة ابو الفرج.. على التوالي) اعتبارها روايات بيكارية عربية. إن ما يجري في هذه الروايات بعيد جدا عن الرواية البيكارية كما عرضنا له. كما إن قيام البطل برحلة لا يعني بالضرورة رواية بيكارية والا نضطر الى ان ندرج تسعين بالمائة من الروايات المكتوبة تحت خيمة الرواية البيكارية. مع ذلك فان دراسة فاطمة موسى توضح تأثير التعريف الذي قدمه (والتر الن) على جانب مهم من النقد الحديث الذي تناول هذا النوع من الروايات.
وبسبب هذا الاضطراب الذي وصل اليه مفهوم الرواية البيكارية خلال هذا القرن عمد بعض النقاد على وضع بعض الخطوط التي تساهم في ابعاد العمومية التي طغت على عملية دراسة الرواية البيكارية وبالتالي تساهم في الوصول الى معنى اكثر وضوحا من قبل.. يميل النقد الحديث الى دراسة الرواية البيكارية من المحاور التالية:
أولا البيكارسك (كمصطلح) بوصفه جنسا ادبيا واضح المعالم يتمتع بمواصفات ثابتة ومعروفة واخرى تتغير بتغير الزمان والمكان.
ثانيا البيكارسك بوصفه مجموعة روايات تلتزم بجميع مواصفات الرواية البيكارية الاسبانية الاصلية (المذكورة سابقا) او ببعض تلك المواصفات مع التأكيد على وجود مواصفات معينة (مثلا جو التشرد والسيرة الذاتية او شبه الذاتية) باعتبارها جزءا لا يتجزأ من المفهوم.
ثالثا البيكارسك بوصفه اسطورة تتعاقبها الاجيال وتتلون وتتجسد بطرق مختلفة. ويعتمد الامر هنا على قدرة القارئ على فهم مصطلح البيكارسك، لأن الاسطورة يخلقها القراء مثلما يخلق الكتاب الجنس الادبي.
لقد مرت الاسطورة البيكارية بعدة مراحل تعرض خلالها البطل لتغيرات جمة. لقد كان بطل الرواية في القرن السادس عشر شخصا فاشلا وغريبا يضطر بعض الاحيان الى تكييف نفسه مع ظروف اجتماعية سبق له وصفها بالعقيمة. وتشابه رواية القرن السادس عشر مع الرواية الحديثة وذلك لان بطليها غير مقتنعين بظروفهما لذلك فإنهما يتأرجحان بين رفض هذه الظروف وقبولها. ويمثل هذا التأرجح محاولات البطل ـ رغم ما يتصف به من اللاأبالية ـ التقرب من المجتمع واقامة نوع من العلاقة معه. ويعمد البطل في القرن السابع عشر الى خلق نوع جديد من الترابط يتركز بين ما يقوم به من اعمال وبين ما يعتمل في داخله من ايمان. ويستمر الامر كذلك حتى بدايات القرن التاسع عشر حيث يتميز البطل بالغرابة والغموض بسبب موقف المجتمع السلبي منه. ويقدم لنا (تشارز ديكنز) امثلة عديدة لهذا الموقف من خلال متابعته لنمو ابطاله الاطفال المحرومين حتى ولوجهم مرحلة الرجولة. وتحولت الرواية الحديثة الى متنفس للغربة الإنسانية يعيش بطلها منزويا في احد اركان المجتمع وقد تملكه الهلع والخوف مما يجري حوله. هذه النقطة تفرق البيكارو الحديث عن بيكارو القرن السادس عشر الذي تميز بعدم شعوره بالغربة والخوف.
والان هل توجد رواية بيكارية عربية؟ لن اجيب على هذا السؤال لآنه خارج نطاق هذا البحث وكذلك لآني اعتقد ان القارئ الكريم قد شكل صورة وافية عن مفهوم الرواية البيكارية، وعليه يستطيع ان يحدد الروايات والقصص التي تقع ضمن الرواية البيكارية كليا ام جزئيا لكني سأسأل هل هذا الشكل جديد على القصة العربية؟ بعبارة اخرى إن وجدنا مثل هذا النوع من الروايات كتبها العرب هنالك مصادر اخرى يمكن ان يستقي الكاتب العربي نماذج يقلدها بدل النموذج الغربي؟
سأتكلم هنا عن جانب واحد من القضية (الا وهو الى أي مدى يمكن اعتبار المقامة العربية شكلا من اشكال القصة البيكارية، عندها لن يحتاج العربي الى مؤثرات خارجية يقع تحتها) واترك الجوانب الاخرى لمناسبات اخرى وباحثين اخرين. لست المتحدث الاول في هذا الصدد ولن اكون الاخير. فقد خاض العديد من الباحثين غمار هذا الموضوع الشائك ووصل كل واحد منهم الى اجابة اكدت هذا السؤال او نفته. لكنني اعتقد ان البحوث العربية والاجنبية التي استطعت الوصول اليها (ما عدا ما كتبه جيمس مونورو) لم تعط الموضوع ما يستحقه من اهتمام وطغت العجلة والعمومية على طبيعة تلك الدراسات فبقى الامر معلقا. يعتقد (بالانسيا) ان التشابه بين المقامة والرواية البيكارية مثير للدهشة. وفي حديثه عن تأثيرات الآداب الاسلامية على الآداب الاوروبية يؤكد البروفيسور (جيب) على وجود تشابه بين المقامة والرواية البيكارية خاصة فيما يتعلق في البناء. ويرى (بيلايو) ان حياة ابي زيد السروجي نموذج حقيقي لقصص الصعاليك الاسبانية وسابقة طليعية لشخصية قزمان الفرج. ويؤكد (فلشتسكي) ان بطل الحريري يذكرنا بأبطال الرواية البيكارية الاسبانية. ويتناول البروفيسور (خوان فارنيت) ابو زيد السروجي من زاوية بيكارية ويدرسه بوصفة بطلا بيكاريا. ويرى (جيمس مونورو) ان موضوع تأثير المقامة على الرواية البيكارية لم يدرس بصورة جيدة من قبل النقاد وان الاحكام التي شكلها النقاد على الموضوع هي احكام متسرعة ويعتقد (مونورو) ان العرب والمسلمين قد اثروا في الثقافة الغربية من ناحية المحتوى فقط، أي ان الغربيين اقتبسوا من المسلمين مادة لكتاباتهم واستنبطوا اشكالهم الخاصة بهم، لذلك تعتبر المقامة (كجنس ادبي) بعيدة عن الروايات البيكارية. ويثير (كونزاليس) قضية مختلفة بعض الشيء. فهو يرى ان (كتاب الحب الطيب) لمؤلفه خوان رويز ما هو الا مجموعة من القوالب المقامية العربية وقد حشيت بمحتوى مسيحي. وترى (ماريا روزاليدا) ان المقامة العربية ربما وصلت الى الكتاب المسيحيين من خلال مقامات الحريري (تحكموني) ومقامات يوسف بن ميرزبارا (كتاب المتعة). ويدرس (كرانيا) واقعة من كتاب المحاسن والمساوئ للبيحاقي ويربطها مع الرواية البيكارية الاولى (لازاريلو من تورميس). يؤكد (أرلي) تأثير المقامة الأندلسية على الرواية البيكارية. ويعتقد د. محمد رجب النجار ان الرواية البيكارية الاسبانية قد تأثرت بالقصص المشابهة من الادب العربي، لكنه يرى إن ادب الشطار العرب اكثر تأثيرا في الرواية البيكارية الاسبانية من تأثير المقامة العربية بسبب تأكيد الاخيرة على الجانب اللغوي. يؤكد د. محمد غنيمي هلال على ان المقامات العربية قد اثرت في الادب الاوروبي تأثيرا واسعا متنوع الدلالة. وغيرت قصص الشطار الاسبان بنواحيها الفنية وعناصرها ذات الطابع الواقعي ثم انتقل التأثير من الادب الاسباني الى سواه من الآداب الاوروبية فساعد على موت قصص الرعاة وعلى تقريب القصة من واقع الحياة. ويشير د. علي الراعي الى تأثير المقامة العربية على القصص الاسبانية وترى د. سهير القلماوي ومحمود علي زكي ان البهلوانيات اللفظية هي التي حرمت المقامة العربية من القيمة الادبية الحقيقية التي كان ينتظر ان تحولها الى لون قصصي جديد. ومع ذلك فهما لا ينفيان قصة التأثير على الرواية البيكارية الاسبانية. اما د. شوقي ضيف فهو يرى إن للمقامة تأثيرا محدودا (مقارنة بألف ليلة وليلة) لان القصة ليست عمادها إنما عمادها الاسلوب ومع ذلك يمكن ان نرى تأثيرها في القصص الاسبانية التي تصف لنا حياة المشردين والشحاذين. ويستمر قائلا إن بطل هذه القصة يشبه بطل الحمداني والحريري. ويرى عبدالرحمن ياغي إن القصة موجودة ومهمة في المقامات لكنه يعتبر عناصر المسرحية اقوى من عناصر القصة. ويؤكد الرأي ذاته فكتور الكك بعدما يجري مقارنة بين القصة والمقامة لكنه لا يلغي وجود القصة في المقامة ويقدم امثلة مستقاة من مقامات الحريري ويرى فيها العقدة وتسلسل السرد. ويرفض جرير ابو حيدر قضية اعتبار المقامة بيكارية الجوهر لكنه (كما اعتقد) اساء فهم معنى الرواية البيكارية كما فعلت فاطمة موسى من قبل لانهما اعتمدا تعريف (والتر الن) للرواية البيكارية اساسا لتناول المقامة. ولابد من الاشارة الى اراء د. عبد الواحد لؤلؤة التي جاءت في مقالته عن تأثير الشعر العربي على شعر التروبادور، وتأكيده على ما يمكن للسياسة ان تلعبه في هذا المجال. كما رأينا انقسم المختصون بين مؤيد لفكرة تأثير المقامة العربية على الرواية البيكارية وبين معارض لها. اعتقد أنه من الافضل الرجوع إلى المميزات التي وضعها بعض النقاد للرواية البيكارية ثم نحاول دراسة المقامة العربية من خلال تلك الخصائص. لكن قبل أن نبدأ بذلك يجب أن نتذكر أن المقامة ظهرت في مجتمع يختلف تماما عن المجتمع الذي ظهرت به تلك الرواية البيكارية وأن الفترة الفاصلة بين ظهور المقامة والرواية البيكارية قد فعلت فعلها في احداث تغييرات كبيرة على المقامة بحيث إن ما وصل الى الأندلس وما بقي بعد مغادرة المسلمين يختلف كثيرا عما بدأه الهمداني، وهي حالة تشبه ما وصلت اليه الرواية البيكارية اليوم من اختلاف كبير عن النصوص الإسبانية الاولى. مع ذلك عندما نتفحص الفترة التاريخية التي ظهرت فيها المقامة نراها تتشابه الى حد بعيد مع الفترة التاريخية التي قادت الى كتابة الرواية البيكارية . فالدولة الاسلامية اتسع نطاقها الى درجة تحولت معها الى شبه دويلات متناثرة ضعف فيها الحكم المركزي وبدأت الازمات تنهش جسد هذه الدويلات مما خلق جيشا جرارا من الفقراء والمعوزين وجعل الكثير منهم يفكر بطرق ملتوية للعيش واعتمدوا الحيلة والمكر والسرقة وسائل مفضلة للعيش . وقد ساعدهم في ذلك تفشي مختلف الامراض الى مفاصل مختلفة من المجتمع: السياسي والاقتصادي والثقافي. تشابه هذه الظروف ما كان يجري في إسبانيا في القرن السادس عشر. فالحروب المتواصلة مزقت الاقتصاد الإسباني و تسببت في تشرد العديد من الناس وعدم استطاعة عدد كبير منهم توفير لقمة عيش فظهرت نتيجة لذلك المهن التي تحترف التحاليل والاعتداء. هذا السبب دفع النقاد الى النظر الى الرواية البيكارية باعتبارها تمثل رواية احتجاج من خلال خلق الصدمة عند القارئ وبالتالي بدء المطالبة بالإصلاح.
ينقسم بناء المقامة الى ثمانية اقسام ، يعتبر القسم الثالث اكثرها اهمية لأنه يعتبر متن المقامة وفيه يستعرض بطل المقامة قدراته ومهاراته المختلفة، ويمكن القول إنه القسم الوحيد (اذا استثنينا مسألة وصول الراوي في القسم الاول الى مدينة جديدة في كل مقامة) المتغير دائما لأنه يعتمد في كل مقامة حادثة جديدة يتعرض لها البطل . وبسبب هذه الطبيعة التي تميز بناء المقامة يركز القارئ على المتن (القسم الثالث) ويلاحق افعال البطل ومغامراته ، في حين تبقى الاقسام الاخرى مجرد قوالب تتكرر متشابهة الى حد بعيد في كل مقامة قد يضطر معها القارئ الى تجاوزها ويذهب مباشرة إلى المتن حيث يتولى البطل قيادة دفة الحوادث (كانت الدفة قبل ظهور البطل بيد الراوي) ثم يعود من جديد ليسلمها الى الراوي بعدما ينهي دوره .لذلك فإن وجهة النظر ذاتية تتلون فيها الحوادث بوجهة نظر البطل أي أننا نستعمل نفس عيون البطل في النظر لتلك الاشياء لأن تلك العيون هي التي سطرت ما نقرأه امامنا . ويشابه هذا البطل بطل الرواية البيكارية في كونه “لا منتمي” الي المكان الذي يتواجد فيه لكنه مع ذلك لا يستطيع الانفصال والعيش بدون الناس والمجتمع ، أي أنه نصف غريب (باستعمال مفردات الناقد كولين) فمن جهة يشعر البطل بالانتماء الى المجتمع ،ومن جهة اخرى لا يستطيع العيش بدونه.
والمقامة، كما هي الرواية البيكارية ،انتقادية تحمل في طياتها مواعظ ودروسا اخلاقية سواء على مستوى الفرد او الجماعة ويعمد المؤلف وقبيل نهاية كل مقامة الى تقديم النموذج الصحيح وهو نقيض لما قام به بطل المقامة (الأنموذج الخاطئ).والمقامة على ذلك ذات مستويين :الباطن والظاهر او الداخلي و الخارجي ،وصاحب الكتاب بعمد إلى ربط الخارجي الذي يمثل الظاهر من الاشياء مع الداخلي الذي يمثل جوهر تلك الاشياء لذلك تكون المقامة تعليمية في مادتها بحيث إن الناقد (ريجيه بلاشيه) قال إن نقد السلوك وهو نادر في الادب العربي تطور كثيرا في المقامة من خلال اسلوب السخرية والحدة. والمقامة بأجزائها المختلفة تقدم لنا دليلا على فشل بطل المقامة الدائم في الوصول الى المعنى الباطن للأشياء ، فنراه عند الهمداني يعيش حياة متواصلة من الزيف والخداع ، اما عند الحريري فلسنا متأكدين من أن البطل قد عاد تماما الى جادة الصواب على الرغم من أن السروجي يظهر في المقامة الاخيرة وقد أنهى حياة الخديعة وابتدأ حياة جديدة. إن هدف المقامة في الاساس ، هو من خلال ما يقدمه البطل من خداع وزيف ، هو تسليط على فساد المجتمع واجتثاث ذلك الفساد .
إن حركة البطل المستمرة من مدينة الى اخرى ومن مكان الى آخر تعرضه للالتقاء بأنواع مختلفة من البشر ينتمون الى طبقات مختلفة من المجتمع: الفقيرة منها والغنية. وبسبب ذلك تتحول المقامة ، كما هي الحال في الرواية البيكارية ،الى بانوراما اجتماعية عريضة ، فنحن نتحرك مع البطل صعودا وهبوطا بين طبقات المجتمع المختلفة بدءا باللصوص وقطاع الطرق والمتسولين وانتهاء بأعلى المناصب والشخصيات . والبطل في حركته هذه يرصد مختلف الظواهر ويعرضها للهجاء والنقد. وبسبب مستويات فهم المقامة (الظاهر والباطن) تتغلف المقامة بجو من السخرية، حيث إن الفارق بين المستويين يثير فينا الضحك والاستهجان. فالبطل يعرف الحقيقة جيدا الا أنه يصد عنها متعمدا ليقدم لنا في النهاية مثالين احدهما خاطئ والاخر صائب ، وهذا ديدن مهم في المقامة .
ويتحرك البطل جيئة وذهابا أي أنه يتحرك أفقيا بين المدن والأمصار. إنه في ترحال وهروب دائمين من مواجهة المعنى الحقيقي للحياة فنراه مرة في بغداد ومرة في البصرة ومرة في الشرق واخرى في الغرب. وفي كل مدينة يلتقي بأناس من شرائح اجتماعية مختلفة منها الفقير ومنها الميسر. إن بطل المقامة مثله مثل بطل الرواية البيكارية .دائم الحركة شأنه شأن الراصد الذي يراقب ما يجري بعين ناقدة جارحة تسجل كل ما تراه من عيوب في المجتمع بلغة ساخر وماكرة تفكر اول ما تفكر بنفسها.
وتتشابه المقامة والرواية في بنائها ، فهما عبارة عن سلسلة من القصص المستقلة تجري حوادث كل واحدة منها فوق ارض مختلفة ، ويتعرض البطل في كل واقعة منها الى مغامرة جديدة والى حكايات لم يعرف لها سابقة ويقول البطل (في المقامة البطل والرواية) بربط هذه الحوادث والقصص ويمنحها صفة الكيان الواحد .إن وجود الراوي في المقامة (وهو وجود فرضه تأثر المقامة ببناء الحديث الشريف) وعدم وجوده في الرواية البيكارية وكذلك افتقار المقامات الهمدانية الى ترتيب زماني ومكاني واضح لا يلغي حقيقة تشابه البناء في المقامة والرواية البيكارية .
وبعد فقد تنوعت الآراء وتقاطعت حول قضية تأثير المقامة العربية في نشوء الرواية الاوروبية ، فوقف البعض مؤيدا ومدافعا عن احقية العرب والمسلمين في التمهيد لظهور الرواية الحديثة، وتنكر البعض لهذا الحق وكان لكل فريق تبريراته الخاصة في القبول او الرفض. فالفريق الاول اعتقد أن ثمانية قرون كانت كافية لتعمل عملها على تفكير وذوق سكان الأندلس الاصليين بحيث إنهم ، ولفتره طويله من مغادره العرب لتلك الاصقاع، بقوا تحت ظل ذلك التأثير وكانوا بحاجة الى فتره اطول لاستنباط واختراع سبل ووسائل خاصة بهم وبعيدة، في الوقت ذاته ، عن التأثير الاسلامي او الوقوع تحت طائلة تأثير اخر ، فنقلوا عن العرب والمسلمين وسائل تعبير وحوروها بعض الشيء لتتناسب مع البيئة الجديدة والاذواق الجديدة . اما الفريق الثاني فيرى أن العملية لا تتعدى كونها صدفة غير مقصودة وإن العرب غير مؤهلين فنيا لإحداث ذلك التأثير ، ولهذا نرى أنهم يفضلون مبدأ الطرف الثالث(عبري ؟ أو يوناني او ايطالي)الذي طور فنيا ما عند العرب من آداب ثم سلمت الى الاسبان وبذلك يحجمون من التأثير العربي ويحولونه إلى مؤثر ضعيف جدا او مؤثر محتمل فقط . وهكذا نعتقد أن هذا الموضوع لم يمنح ما يستحق من دراسة وتمحيص وخاصة من الباحثين العرب الذين كثيرا ما رددوا ما قاله بعض المستشرقين او أنهم اكتفوا بالقول بأن للمقامة تأثيرا او ليس لها تأثير دون أن يندفعوا لخطوات ابعد في عملية الدراسة والبحث في حين كان الطرف المضاد اكثر اجتهاد في تأثير النقاط التي تقلل او تضعف من شأن تأثير المقامة العربية على الرواية الأوروبية عموما والرواية البيكارية على وجه الخصوص ، وهم في كل مرة يقدمون تبريرا جديدا في هذا الاتجاه فمرة يقولون لا توجد وثائق تؤكد قضية التأثر ، ومره يحولون الفضل في ذلك الى اليهود – الذين حسب رأيهم – أنضجوا المقامة ومنحوها ثقلا فنيا ، ومرة يطبقون الدراسة النقدية الحديثة للموضوع ،فيبحث عن تأثير جنسي ادبي او عن تأثير وراثي .. وهكذا .
إن تصنيف بعض الروايات الحديثة وكما راينا ،بوصفها روايات بيكارية قد ابعد مفهوم الرواية البيكارية كثيرا جدا عن النصوص الاصلية وجعله عرضة للاجتهادات وبالتالي تدفق سيل من الروايات لا يربطها مع النصوص الإسبانية الاولى سوى خيط واه يتعلق بحالة البطل فبطل رواية (اميركا) لكافكا او (عوليس) لجويس يعيش حالة من الضياع او لا انتماء تختلف في طبيعتها ومسبباتها عن طبيعة ومسببات حالة التشرد التي عاشها (لازاريلو). وحالة السروجي ،على سبيل المثال اقرب الى الاخير من بطل كافكا او بطل جويس وغيره من ابطال الرواية الحديثة وهذا يجعل المقامة العربية اقرب كثيرا من الرواية البيكارية ، اضافة الى ما ذكرناه سابقا ،و بالتالي امضى تأثيرا .ارى أن تهتم المؤسسات الثقافية (الجامعية خاصة) بموضوع الادب المقارن واخاله ضمن مقررات وخطط الدراسات العليا (او فتح اقسام خاصة به) وتوفير المستلزمات الاساسية لذلك وخاصة القيام بحملة واسعة لترجمة كل ما له علاقة بمثل هذه المواضيع ومن مختلف اللغات واصدار مسارد خاصة بالمصادر التي تتناول تلك المواضيع لتكون عونا للباحثين ،ويجب الا تكون الترجمة انتقائية بحيث نترجم ما نريد ونسقط ما لا نريد . يجب أن نمنح تراثنا جهدا ووقتا ومالا اكثر مما يفعل الاخرون لنقدم للآخرين صورة كاملة وأمينة لهذا التراث.
[email protected]
كلية البيان /مسقط