في اواخر الثمانينيات والتسعينيات وعندما كنت اعمل في وزارة التخطيط ، كنت اتفرغ من العمل يوماً في الاسبوع لالقاء المحاضرات على طلبة الدراسات العليا في الجامعة .
وكنت معتاداً على القراءة في الليلة التي تسبق موعد المحاضرة للتحضير للمحاضرة وتطويرها حتى لو تكرر موضوع المحاضرة لمجموعتين مختلفتين من الطلبة وذلك من باب الاحترام للطلبة.
ولهذا الغرض كنت اتفحص الكتب في رفوف مكتبتي المنزلية ذات ليلة فعثرت على كتاب باللغة الانكليزية عن الاقتصاد الكلي سبق وان اشتريته في احدى سفراتي خارج العراق.
أخذت اتفحص جدول محتويات الكتاب للبحث عن النقطة التي تتعلق بموضوع المحاضرة ووقع بصري على الفصل الحادي عشر والذي كان بعنوان : الأنجيل !!The Bible
شعرت للوهلة الأولى بأن هناك خطأ من نوع ما ، لانه لاعلاقة بين الانجيل والاقتصاد الكلي ….
تركت موضوع المحاضرة وانهمكت في قراءة هذا الفصل … لقد كان يحتوي على مقاربة غريبة وجديدة (بالنسبة لي على الأقل)..
خلاصة ماجاء فيه :
علم الاقتصاد هو العلم الذي يسعى للمواءمة بين حاجات الانسان غير المحدودة وبين الموارد المحدودة ، حيث ان الانسان يسعى ويرغب في الحصول على قائمة قد لاتنتهي من السلع والخدمات لاشباع حاجاته ورغباته .
لكن تلك الرغبات تصطدم بمحدودية الموارد المتاحة والتي يحتاجها الانسان لاشباع تلك الحاجات ، ولذلك نشأ علم الاقتصاد والذي يعرف ايضاً بكونه : علم الندرة.
انه سلسلة حسابات ومفاضلات تفرض نفسها على الفرد والمجتمع والدولة للعثور على افضل تخصيص لتلك الموارد النادرة بين الحاجات المتنافسة على تلك الموارد بحيث يتحقق اكبر اشباع ممكن من وراء ذلك التخصيص.
هذا باختصار مايدرسه طلاب الاقتصاد كمدخل لعلم الاقتصاد , اما مؤلف الكتاب موضوع حديثنا فيذهب الى تفسير غيبي لنشوء هذا التناقض بين الحاجات غير المحدودة والموارد المحدودة.
يقول , وبأختصار, ان أُمُّنا حوّاء وأبانا آدم عندما كانا في الفردوس لم يتعرضا الى محنة التوفيق بين الموارد والحاجات بسبب ان الوفرة المطلقة في الفردوس تجعل كل الحاجات قابلة للاشباع وبالتالي لاداعي للحساب الاقتصادي اصلاً .
ولكن عندما قررت حواء ان تشبع حاجاتها الآنية ( تناول التفاحة رغم التحذير والتهديد والوعيد) فأنها فضلت الاشباع الآني حتى لو كان ثمنه معاناة أزلية لابنائها من بعدها .
جاءت المعاناة نتيجة إنزال البشر من الفردوس الى الأرض مع حاجاتهم غير المحدودة ولكن في بيئة محدودة الموارد.
تلك الاشكالية هي التي جعلت حياة الناس تقترن بالشقاء على الارض وهذه هي العقوبة الألهية الموعودة .. شقاء ناجم عن القلق على العيش وعلى المستقبل وشقاء الصراع والقتال والحروب من اجل الحصول على الموارد ابتداءً من القتال على الماء ومناطق الرعي وصولاً الى الصراع على المعادن والطاقة والاسواق في عصرنا الحالي.
الكاتب يرى ان هذه هي العقوبة الكبرى لمخالفة تعليمات الرب ..
وأن أمنا حواء تصرفت بشكل غير مسؤول واناني لانها لم تفكر بمستقبل اطفالها بل بمتعتها الآنية فقط بغض النظر عن الثمن !!
انه يشبّه حواء بالمرأة التي تأخذ مصروف العائلة الشهري من زوجها وتذهب لانفاقه في صالة القمار لتحصل على متعة لمدة ساعات ولكن ستكون كلفتها حرمان العائلة من حاجاتهم المعيشية لشهر كامل ..
وصفها بأنها بائسة في حساباتها لتعظيم منافع العائلة (poor utility maximizer).
الطريف أني عثرت على موقف مشابه ورد في كتاب ( مثالب الولادة ) للفيلسوف والكاتب الكبير أميل سيوران.
في الصفحة (٢١٤) يقول سيوران :
“أعرف اكثر من أيٍّ كان ، الخطر الناشيء عن كوني ولدتُ وبي عَطَشٌ الى كلّ شيء .هدية مسمومة . انتقام العناية الألهية. ماكان لي ان أصل الى شيء، على الصعيد الروحي طبعاً، الصعيد الوحيد المهم وأنا مُثقَلٌ بذلك الشيء”.
ويقول في الصفحة (٢١٥) :
“بدأ البشر بداية خاطئة ، كانت نتيجتها الأولى مغامرته المؤسفة في الفردوس، ولم يكن للبقية الا ان تتبعها”.
واضح من النصّين اعلاه ، ان الكاتب يعتبر ان هذا العطش او الحاجات غير المحدودة للانسان والتي هي جزء من ماهيته عند الخلق ، انتقام العناية الألهية وانه يَحول دون وصول الانسان الى شيء على الصعيد الروحي، الذي يعتبره الأهم، بسبب الاستغراق في ارواء عطشه للأشياء.
سيوران ليس متديناً ولكنه يعزو حقيقة امتلاك الانسان للحاجات غير المحدودة للبشر، الى عيب تكويني يعتبر بمثابة عقاب ألهي على ماحصل في الفردوس والذي يطلق عليه : المغامرة المؤسفة في الفردوس..
علم الاقتصاد يتطور بناء على حقيقة قائمة وهي التناقض بين الحاجات غير المحدودة والموارد المحدودة .. بغض النظر عن تفسير مصدر وسبب نشوء هذه الحقيقة ..
يتطور علم الاقتصاد استجابة لتطور الحياة الاقتصادية وظروفها والتحديات التي تواجه اقتصاديات العالم والعلاقات الاقتصادية الدولية..