1- العراق النموذج
برنارد لويس ، مستشرق أمريكي الجنسية ، بريطاني الولادة ، يهودي المعتقد وليبرالي التفكير، بل هو عميد المستشرقين ، مختص بالدراسات الاسلامية وبالشرق الاوسط وله فيها اثنان وثلاثون كتابا وعدد لا يحصى من المقالات والدراسات والمحاضرات والندوات ، ويعرف عن الاسلام اكثر مما يعرفه المسلمون انفسهم . عمره الآن مئة عام وعام ،وهو الاب الروحي للمحافظين الجدد وملهمهم في سياساتهم في الشرق الاوسط ، وهو صاحب الخارطة الشهيرة لما يسمى بالشرق الاوسط الكبير الممتد من شواطئ المغرب الاطلسية غربا الى الحافات الجنوبية الشرقية للصين في الشرق. وجوهرة هذا الشرق الاوسط الكبير هو المشرق العربي وتركيا وايران . المنطلق في مشروع برنارد لويس هو اقامة كيانات على اساس الدين والمذهب والعرق تستجيب لرغبات شعوب المنطقة كما يقول . اذا ما تحقق هذا المشروع ، فهذا يعني انّ ما كنّا نسمّيه وطنا عربيا في يوم من الأيلم لن يكون موجودا ، وما كنّا نطلق عليه الشعب العربي لن يعود قائما ، والدول العربية ستذوب وتتحول الى كيانات في الرقعة الجغرافية الاكبر في هذا الشرق الاوسط الكبير . . وخلال الفترة الممتدّة بين عقد السبيعنات وحتى الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 تداخلت أربع مقاربات مخيفة مع بعضها ، بصرف النظر عن تتابعها الزمني . قوس الازمات ، الشرق الاوسط الجديد ، صدام الحضارات و الفوضى الخلاقة . وهي مقاربات تكاملية بمعنى ان كل واحدة منها تكمّل الاخرى ، وانها مقاربات صدرت عن وعاء واحد ، وهو الوعاء الامريكي . قوس الازمات تحدث بها بريجينسكي مستشار الامن القومي الامريكي في عهد الرئيس كارتر . الشرق الاوسط الجديد تحدث به برنارد لويس . صدام الحضارات تحدث به صمويل هنتنغتون الاكاديمي والمنظّر السياسي . و الفوضى الخلآّقة تحدثت بها كوندليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة الامريكية في عهد الرئيس بوش الأبن . القاسم المشترك بين هذه المقاربات هو الاسلام . في قوس الازمات كما تصوره بريجنسكي في منتصف السبعينات ، فهي الجغرافية الممتدة من حدود الصين الجنوبية الشرقية مرورا بالحدود الجنوبية للأتحاد السوفياتي آنذاك وعبورا في دول الشرق الاوسط ولغاية القرن الافريقي. وهي بمجملها دول اسلامية ، تتميز بالضعف والتنوع العرقي والمذهبي . وكان على الولايات المتحدة ان تستفيد من الحالة تلك في صراعها مع الاتحاد السوفياتي من خلال دعم الحركات والتوجهات الاسلامية الاصولية ، وبخاصة بعد أستيلاء الشيوعيين على مقاليد الحكم في افغانستان عام 1978 ومن ثم دخول القوات السوفياتية اليها عام 1979 ، حيث تزامن ذلك ايضا مع اندلاع الثورة الاسلامية الايرانية. وفي خضّم احتدام الصراع بين الغرب والاتحاد السوفياتي ، انتقل مفهوم منطقة قوس الازمات من فكرة في ذهن بريجينسكي الى واقع على الارض . .
وفي اوائل الثمانينات حاول المستشرق برنارد لويس ، ابتكارا منه أو تأثرا بمقاربة بريجنسكي ، ان يضفي لتصورات برجنسكي بشأن قوس الازمات بعدا واقعيا ، فوضع مشروعه المعروف بخارطة الشرق الاوسط الكبير ( الجديد ) مقسّما الدول المحشورة في هذا القوس الى كيانات مذهبية وطائفية وعرقية. والحقيقة ان برنارد لويس قد وسّع رقعته الجغرافية لتشمل المنطقة الواقعة جنوب البحر الابيض المتوسط ، وهي ايضا في مجملها دول اسلامية. ومن الطبيعي ان يستهوي هذا المشروع المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الامريكية ويستلهمون افكاره ويحوّلونها الى مشاريع قابلة للتطبيق . وقد وفّر لهم العمل الارهابي الذي استهدف برجي التجارة العالمية في الحادي عشر من ايلول عام 2001 الفرصة والغطاء لشن الحرب على افغانستان والعراق.
ولتحقيق مثل هذه المشاريع ينبغي خلق الشروط الموضوعية التي تمهّد له ، ولم يكن افضل من الفوضى الخلاّقة شرطا موضوعيا لجعل مشروع برنارد لويس قابلا للتحقيق . وعلى طريقة الشيء بالشيء يذكر فانّ التنظيمات الاسلامية الجهادية لديها مفهوم مشابه للفوضى الخلاّقة من حيث المضمون وان اختلف عنها في الشكل ، تطلق عليه مرحلة التوحش . ومفهوم التوحش لدى هذه التنظيمات هو حالة الفوضى التي يجب ان تخلقها تلك التنظيمات لكي توفّر الشروط الموضوعية للوصول الى هدفها في تحقيق دولة الاسلام .
كل تلك المقاربات ستقود ، في محصلتها النهائية ، الى الصدام بين الحضارة الغربية والولايات المتحدة على راسها ، وبين الحضارة الاسلاميه . بطبيعة الحال ان صدام الحضارات لدى هنغنتون اوسع من ان يكون صداما بين الحضارة الغربية والاسلام فحسب ، فهو يشير الى تسع حضارات قابلة للتصادم فيما بينها ليس بسبب الاختلاف الايديولوجي أو بسبب الاقتصاد وانما بسبب ما تشكله كلّ حضارة من خصوصية ثقافية ودينية ، بيد انّ الصدام الابرز والأقرب سيكون بين الحضارة الغربية والحضارة الاسلامية ، وبتعبير آخر بين المسيحية والاسلام .
وفي العراق ، اذا ما اخذناه نموذجا واذا ما اعتبرناه خط الشروع لما سمّي لاحقا بالربيع العربي، فسوف نرى انه كان تجسيدا حيّا لتلك المقاربات . فهو في القلب من منطقة قوس الازمات ، وهو مقسّم وفق مبدأ المحاصصة التي ستؤدي الى ما توقعه المستشرق برنارد لويس تماما في مشروعه ، وهو يعيش حالة الفوضى التي بشّرت بها السيدة كوندليزا رايس ، وان الاسلام السياسي الحاكم الذي كان من نتاج تلك العملية اذا ما استمر وانتشر سيؤدي بالنهاية الى تحقيق نبوءة هنتنغتون .