رحل عن عالمنا المفكر والباحث والمثقف وعالم الاجتماع العراقي الجليل، فالح عبد الجبار، اثر تعرضه لنوبة قلبية خلال استضافته من بيروت في برنامج”العراق في قرن”الذي تنتجه وتقدمه قناة”الحرة عراق”، حيث اعتذر عن عدم اكمال المقابلة، ونقل الى مستشفى الجامعة الامريكية في بيروت، وما لبث أن فارق الحياة، تاركًا خلفه ارثًا فكريًا وفلسفيًا وعلميًا وثقافيًا عميقًا وخالدا.
وبوفاة عبد الجبار يخسر العراق والوطن العربي والثقافة اليسارية والفكر العراقي والعربي، رائدًا من رواد البحث والفكر والفلسفة وعلماء الاجتماع، الذين قدموا مساهمات وانجازات فكرية واجتماعية عظيمة للفكر العربي المعرفي والتنويري، ولحركة اليسار العربية وعلم الاجتماع.
الراحل فالح عبد الجبار من مواليد بغداد العام١٩٤٦، غادر العراق وتنقل بين مطارات ومدن كثيرة واستقر به المطاف في العاصمة البريطانية لندن، وفي جامعتها حصل على شهادة الدكتوراة في العام١٩٩٩.
عمل عبد الجبار باحثًا ومحاضرًا أكاديميًا في عدد من الجامعات والمؤسسات البحثية، منها معهد دراسات السلام في نيويورك، ومدرسة السياسة وعلم الاجتماع في كلية بيركبك ومدرسة الدراسات الأفريقية والشرقية بجامعة لندن، وجامعة ميتروبو ليتان-لندن، وجامعة اكستر البريطانية.
ومنذ العام٢٠٠٤ترأس المعهد العراقي للدراسات الاستراتيجية في بيروت حتى وفاته.
اشتغل عبد الجبار في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي في الصحافة اليسارية التقدمية في العراق وسورية ولبنان، قبل انتقاله للعمل في المجال البحثي والأكاديمي، ونشر العديد من الكتابات الفكرية والسياسية وفق الرؤية الماركسية والعقلانية.
اهتم الراحل عبد الجبار بدراسة الحركات الاجتماعية الاسلامية من منظور سوسيولوجي، وركز على التشكيلات الاجتماعية وبنى ما قبل الدولة، كالعشيرة والطائفة دورها في حياة وتشكيل الأمم.
وتناول في أبحاثه ودراساته مسائل الدين ودور القانون وقضايا المجتمع المدني والطبقات الاجتماعية والصراع الديني فضلًا عن الدراسات الماركسية، وعمل على ترجمة كتاب”راس المال”لماركس، واشتهر بمؤلفه”ما بعد الماركسية والشرق الأوسط”.
أغنى فالح عبد الجبار المكتبة العراقية والعربية بمنجزات ومؤلفات فكرية واجتماعية عديدة، باللغتين العربية والانجليزية، نذكر منها:”في الأحوال والأهوالل:المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف، معالم العقلانية والخرافة في الفكر السياسي العربي، التوتاليتارية، الديمقراطية المستحيلة الديمقراطية الممكنة نموذج العراق، القبائل والسلطة، الحركة الشيعية في العراق، العمامة والأفندي”، بالاضافة الى كتابه الذي أثار جدلًا واسعًا عن تنظيم الدولة الاسلامية ودولة الخلافة المزعومة الموسوم”دولة الخلافة:التقدم الى الماضي “داعش”والمجتمع المحلي العراقي، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسيات.
ورغم أن فالح عبد الجبار كان يساريًا حتى النخاع، لكنه عرى اليسار وانتقد الشيوعيين في العراق والعلمانيين العرب لعدم قدرتهم التعبير عن تطلعات الشعب العراقي والتعايش معه، والانزواء خلف حالة من الانزواء السياسي والفكري، وكان قد قال في حوار معه:”الحركات اليسارية في العراق”منفصمة”عن الواقع وبعيدة عنه، أو متعالية عليه، ولهذا لن تحقق أي مكسب انتخابي في المستقبل المنظور، واعتبر الديمقراطية في العراق قابلة للتطور والنضوج.
فالح عبد الجبار مثقف نقدي مستنير، مسكون بحلم النهضة والتقدم، آمن بمبدأ النقد والنقد الذاتي. وسعى في حياته لاقامة الحوار الدفين بين العقل والدين والتاريخ، ومارس الكتابة الفكرية الفلسفية بوجهيها السياسي والايديولوجي، وشكل نموذجًا متفرد للمثقف العقلاني الأصيل في الفكر اليساري العراقي والثقافة اليسارية العربية، وسيبقى خالدًا مخلدًا في ذاكرة المثقفين وفي قلب تاريخ الكفاح اليساري العراقي والعربي، ووداعًا.