على الرغم من أن مفاهيم التسويق السياسي وتطبيقاته شائعة في الأوساط العلمية منذ ما يقرب من عقد ونصف، وعلى الرغم من أن صناعة التسويق قد نمت بشكل كبير في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن مفاهيمه وتطبيقاته مازالت شبه منعدمة في الدول العربية عموما.
تقديم التسويق السياسي
تمر الديمقراطية في الدول الغربية بأزمة مع أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، حيث يزداد معدل فقدان الثقة في الأحزاب السياسية، وفي السياسيين ويتجلى ذلك في عزوف أعداد كبيرة من أفراد المجتمع خاصة الشباب، عن المشاركة في الانتخابات، وفي الحياة السياسية بصفة عامة وتظهر استطلاعات الرأي العام ازدياد الاتجاهات السلبية نحو ممارسات الديمقراطية في الدول الغربية.
ويوجه اللوم إلى استخدام التسويق في العمليات السياسية باعتباره مسؤولا ولو جزئيا عن فقدان الثقة في العملية السياسية في الديمقراطيات الغربية، ﻷنه يستخدم أساليب التسويق لبيع الأحزاب والمرشحين للناخبين، من خلال خلق علاقة بين العروض السياسية للأحزاب والمرشحين السياسيين، واحتياجات ورغبات الجماهير، على اعتبار أن الجماهير المستهدفة بالحملات الانتخابية مستهلكون لمنتج سياسي، وهو ما أثر سلبا على العمليات السياسية في الديمقراطيات الغربية. فهل يتحمل التسويق السياسي مسؤوليته فقدان الثقة في الممارسات الديمقراطية في المجتمعات الغربية.
يهدف التسويق السياسي إلى تخطيط وتنفيذ طريقة بناء الدعم والتأييد الجماهيري لمؤسسة سياسية أو مرشح سياسي، والمحافظة على هذا التأييد من خلال خلق مزايا تنافسية لهذه المؤسسة السياسية أو الحزب أو المرشح، باستخدام استراتيجيات مخططة تعتمد على وسائل الاتصال الجماهيرية، وغيرها من وسائل التأثير في الجماهير المستهدفة.
ويعد التسويق السياسي ابتكارا أمريكيا في الأساس، ويعكس كثيرا من خصائص النظام السياسي الأمريكي. وأصبحت الخدمات الاستشارية الاحترافية في المجال السياسي تشكل جزءا كبيرا من صناعة التسويق السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بلغ دخلها في عام 1996 ستة مليارات دولار. وعلى الرغم من ضخامة هذه الصناعة، فإن البحوث العلمية التي تتناولها كصناعة مازالت قليلة. وقد أخذت هذه الصناعة تنتشر عالميا، خاصة في دول أوروبا الغربية، وإن كان أداؤها مازال أقل من أداء هذه الصناعة في الولايات المتحدة الأمريكية. ويرى البعض أن البيئة السياسية الأمريكية لا تخلق كاريزمات سياسية مثل أوروبا، وأن هذه البيئة مضطرة إلى الاستعانة بالأساليب التسويقية لبناء زعامات وقيادات سياسية أمام الرأي العام.
وقد بدأت الأحزاب الأوروبية في استخدام التسويق السياسي لتسويق عروضها السياسية وقياداتها منذ نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، فقد استخدم حزب المحافظين البريطاني خدمات وكالة ساتش آند ساتش البريطانية في عقد الثمانينيات، واستخدمت ماري روبنسون أساليب التسويق السياسي للفوز برئاسة وزراء ايرلندا في عقد التسعينات، واستخدمها جير هارد شرودر في ألمانيا، واستخدمها توني بلير بكفاءة للفوز في الانتخابات البريطانية مرات متتالية.
وعلى الرغم من ازدياد الاعتماد على التسويق السياسي في الحملات السياسية والانتخابية في أوروبا، فمازال استخدامه دون الاستخدام الأمريكي. ويفسر بعض الباحثين ذلك بأن التسويق السياسي هو ابتكار أمريكي يعكس خصائص النظام السياسي الأمريكي الذي يتسم بضعف أحزابه السياسية، واعتماد المرشحين على حملاتهم الانتخابية، والذي خلق بدوره مجالا سياسيا للبائعين.
ولا تمارس الأحزاب السياسية الأمريكية سوى سيطرة ضعيفة على اختيار المرشحين وإدارة الحملات الانتخابية التي يتولاها المرشح بنفسه. وتتركز القرارات الأساسية في استراتيجية الحملات على كيفية بيع المرشح لجمهور الناخبين، وبالتالي تركزت بحوث التسويق السياسي في الولايات المتحدة على استخدام التكنولوجيات الجديدة، وأساليب التسويق السياسي. أما في أوروبا، وفي بريطانيا على سبيل المثال، حيث الأحزاب السياسية القوية، تشارك الأحزاب ذاتها في اتخاذ قرارات التسويق السياسي وتحديد خطوط وملامح الحملات الانتخابية.
وسواء تم اتخاذ القرارات الأساسية في التسويق السياسي على مستوى الحزب أو تولاها المرشح بنفسه، فإن التسويق السياسي ليس في مقدوره وحده أن يسوق سلعة رديئة، سواء كانت هذه السلعة مؤسسة سياسية أو حزبا سياسيا أو مرشحا سياسيا، ولا يمكن أن يكون علاجا ناجحا للأمراض السياسية في مجتمع ما. ويدعم هذا الرأي إقرار علماء السياسة البريطانيين بأن حملات التسويق السياسي وحملات العلاقات العامة لن تفيد في استعادة ثقة المواطن البريطاني بالحياة السياسية البريطانية وأحزابها وقيادتها، وأن هذه الثقة يمكن أن تستعاد فقط عندما يطرح السياسيون على المواطنين البريطانيين قيادات ووجوها أفضل، وعندما يدرك السياسيون أن مشروع الفوز في الانتخابات والحصول على السلطة هو من أجل إدارة الخدمات العامة للمواطن العادي على نحو أفضل، وتوفير قيادات أفضل للبلاد، وتحسين الأوضاع المعيشية لأؤلئك الذين يحكمونهم خاصة أؤلئك الذين يعيشون أوضاعا اجتماعية سيئة.
مفهوم التسويق السياسي – أساليب التسويق السياسي
يعتبر مفهوم التسويق السياسي كبناء معرفي حديثا نسبيا وغير ناضج إلى حد ما، ومثيل للجدل والخلاف. وتحدد أغلب تعريفات التسويق السياسي باعتبارها مرتبطة إلى حد كبير بالأنشطة الاتصالية، التي تتم بين الكيانات السياسية (المؤسسات السياسية والأحزاب، أو المرشحين السياسيين) من جانب، والناخبين من جانب آخر. ومازالت الدراسات التي تتناول تأثير حملات التسويق السياسي على السلوك للناخبين قليلة نسبيا ويغلب عليها الطابع النظري، وهو أمر طبيعي في ضوء التطور التاريخي للتسويق السياسي. ولكن إذا كان التسويق السياسي كعلم مازال في بداياته، فإنه ظهر قبل ظهور الفكرة العامة للديمقراطية مع ازدياد حركة التصنيع، واتساع حق الانتخاب في أوروبا.
تعريفات التسويق السياسي
وتركز تعريفات التسويق السياسي على تطبيق مفاهيم وأساليب التسويق السياسي من قبل الكائنات السياسية أو اللاعبين السياسيين من أجل تحقيق أهدافهم. والتعريفات الأكاديمية التقليدية ضيقة إلى حد ما، وتركز على استخدام مفاهيم وأساليب التسويق السياسي في إدارة الحملات الانتخابية.
ولا يوجد حتى الآن تعاريف متفق عليها للتسويق السياسي، ويعرفه أرون أوكاس بأنه “تحليل وتخطيط وتنفيذ والتحكم في البرامج السياسية والانتخابية التي تضمن بناء العلاقات ذات المنفعة المتبادلة بين كيان سياسي ما أو مرشح ما والناخبين، والحفاظ على هذه العلاقة من أجل تحقيق أهداف المسوق السياسي”. ويفهم من هذا التعريف أن التسويق السياسي يركز على إشباع احتياجات ورغبات المستهلك السياسي (الناخب)، والتي يجب أن تكون معروفة للمسوق السياسي. وهذا الإشباع على درجة كبيرة من اﻷهمية ويعد مطلبا أساسيا لنجاح الأحزاب والمرشحين في البيئة السياسية التنافسية. كما يحدد هذا التعريف ضمنيا مستويين من التسويق السياسي : أحدهما فلسفي وآخر إجرائي. ويشير المستوى الفلسفي إلى أن حاجة الكيان السياسي إلى زيادة عدد زبنائه أو توجهه لزيادة عددهم مبني على ثقافة الكيان السياسي ذاته. ويشير المستوى الإجرائي إلى أن هذا التوجه، لا بد أن ينعكس في الأنشطة الاتصالية والعملية للكيان السياسي.
وعرّف بولر وفاريل التسويق السياسي بأنه “عملية التبادل التي تتم في فترة الانتخابات عندما يسعى البائعون السياسيون من أجل زيادة أرباحهم إلى تسويق أنفسهم، من خلال تطبيق الأنشطة الترويجية المباشرة”. ويعكس هذا التعريف بوضوح استخدام التسويق السياسي في إدارة الشؤون العامة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يشير إلى إمكانية استخدامه في الجوانب الأخرى المتعلقة بالتأثير على السلوك السياسي للأفراد.
ويعرف فريق ثالث التسويق السياسي استنادا إلى تعريف التسويق التجاري بأنه “السعي إلى إنشاء وصيانة وتوسيع وتعزيز العلاقات مع الناخبين بما يحقق مصلحة أو فائدة للمجتمع والأحزاب السياسية، من خلال تبادل المنافع مع الآخرين، وتحقيق الوعود التي قطعتها الأحزاب السياسية على نفسها”. ويتضح من هذا التعريف أن التسويق السياسي يختلف عن الدعاية السياسية، وأنه ينظر إلى الناخبين باعتبارهم مستهلكين، ويؤكد وجود سياسة تسويقية مبنية على بحوث التسويق، وأنه لا توجد قيمة مستقلة في التسويق السياسي سوى ما يحدده المستهلك السياسي ذاته.
ويقدم أصحاب هذا التعريف دليلا على أهمية قيم المستهلك مما اعتاد عليه الرئيس الأمريكي السابق بل كلينتون، خلال حملته الانتخابية لفترة رئاسته الأولى حيث اعتاد أن يقول للناس ما يريدون سماعه منه، وبالطريقة التي يريدونها وباستخدام العبارات والألفاظ التي تتجاوب مع ما يقوله الناس. وظل كلينتون يتبع الأسلوب ذاته طوال فترة رئاسته. والشيء نفسه فعله الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان من قبل، حيث استمر طوال فترتي رئاسته يتبع أسلوب التسويق السياسي نفسه والاستراتيجيات ذاتها، التي استخدمها في حملته الانتخابية الأولى التي أوصلته إلى البيت الأبيض. وفي المثالين السابقين، اكتسب التسويق السياسي مصداقيته، حيث أصبحت الحكومة الأمريكية هي الهيكل التنظيمي الذي يصنع السياسة التي يجري تسويقها.
تعريف آخر للتسويق السياسي
وثمة تعريف يقترب من التعريف السابق، وإن كان أكثر اتساعا، ويرى أن التسويق السياسي هو “تطبيق مبادئ التسويق وأساليبه في الحملات السياسية التي تقوم بها الكيانات السياسية أو الأحزاب أو الأفراد، وتتضمن هذه الأساليب تحليل السوق السياسي، وتخطيط وتنفيذ الحملات السياسية”. ويقصد بالكيانات السياسية وفق هذا التعريف الحكومات والأحزاب السياسية وجماعات الضغط وجماعات المصالح والأفراد، الذين يسعون إلى قيادة الرأي العام وتوجيهه، وطرح أيديولوجياتها أثناء عملية الانتخابات أو أثناء عملية بناء السياسات العامة وإقرار التشريعات. ويفهم من هذا التعريف أن استخدام استراتيجيات وأساليب التسويق يتم استجابة لاحتياجات ورغبات مجموعة مختارة من أفراد المجتمع.
ويحرص أصحاب هذا التعريف على ربط عملية بناء السياسة بالتسويق السياسي، ويرون أننا في حاجة إلى قياس الأهمية النسبية لكل منهما وتأثيره على قدرة الدولة في بلوغ أهداف ما في إطار مفهوم الديمقراطية، فنظرا لثورة وسائل الاتصال وتدفق المعلومات، لا يمكن لحكومة ما أن تبني سياسة جيدة دون أن تسوقها، ﻷن تنفيذ هذه السياسة يعتمد أيضا على تسويقها، خاصة إذا كانت هذه السياسة خاطئة.
وقد استخدم الرئيس اﻷمريكي جورج بوش وكالات العلاقات العامة، لكي يبيع للشعب الأمريكي وشعوب العالم استراتيجية العدوان على العراق. وطبقا لهذا المفهوم لا يكفي في عالم اليوم وضع سياسات ما ثم تنفيذها، ولكن يجب بيع هذه السياسة للشعب كله، وهذا ما يتطلب تجزئة السوق السياسي في ضوء خصائص معينة، وضرورة طرح المنتج السياسي وتمييزه بالشكل الذي يتناسب مع احتياجات ورغبات المستهلكين السياسيين (الجمهور).
تعريف أكثر عمومية للتسويق السياسي
وثمة تعريف للتسويق السياسي يتسم بشيء من العمومية إلى حد ما، ويرى أن التسويق السياسي هو “العملية المجتمعية للتبادل السياسي”. ويعرف إدارة التسويق السياسي بأنها “فن وعلم الإدارة الناجحة لعملية التبادل السياسي”. ويرى أصحاب هذا التعريف أننا عندما نبحث في ظاهرة التسويق السياسي نحتاج إلى أن نميز بين مستويين مختلفين، أولهما مستوى النظرية : نظرية إدارة التسويق السياسي التي تشمل الاهتمام العلمي بكيفية التعامل مع الأمور الإجرائية والعملية للتبادل السياسي، وأن ذلك يحتاج إلى تحليل السلوك الإداري ذاته للجهات المسوقة. فلا بد من الحصول على إجابات عن أسئلة مثل : ما الذي يفعله اللاعبون السياسيون لإدارة عملية التبادل السياسي ؟ ما المفاهيم التي يعتنقونها ؟ وما الأدوات التي يستخدمونها ؟ ويشير هذا الاهتمام العلمي إلى بعض الجوانب التي لم تغطيها نظرية إدارة التسويق السياسي مثل، تفسير التأثير الذي يمكن أن تحدثه أساليب التسويق السياسي على الديمقراطية وعلى النظم الحزبية المختلفة ؟ والمستوى الثاني : هو المستوى الإجرائي أو التنفيذي، والذي يتناول كيفية تطبيق استراتيجيات وأساليب التسويق السياسي.
ولا تساعد التعريفات السابقة على عرض مفهوم التسويق السياسي بشكل شامل وواضح. ولتوضيحه يمكن القول بأن العديد من أساتذة التسويق يرون أن كثيرا من مفاهيم واستراتيجيات وأساليب التسويق يمكن تطبيقها في المجالات السياسية، وإن عمليات تسويق السلع والخدمات تشبه إلى حد كبير عمليات تسويق الكيانات السياسية والأحزاب والمرشحين السياسيين. وبناء على هذا، يرون أن على السياسيين أن يستخدموا استراتيجيات التسويق وأساليبه للحصول على حصة من السوق السياسي، وهو ما يحدث فعلا في عدد من الدول الغربية حيث أصبحت الحملات السياسية تدار بطريقة إدارة الحملات التسويقية.
ويتضمن التسويق السياسي التعرف بشكل علمي على احتياجات ورغبات المستهلكين المستهدفين (جمهور الناخبين) وتخطيط وتنفيذ الحملات السياسية والانتخابية التي تشبع هذه الاحتياجات، وتستجيب لهذه الرغبات. وعلى هذا، فالكيانات السياسية التي يتمحور اهتمامها بذاتها لن تستطيع ممارسة التسويق السياسي، ﻷن التسويق السياسي محوره الجمهور المستهدف. وتبنى بعض الكيانات السياسية أو الأحزاب أو المرشحين لبعض أو كل أساليب التسويق السياسي دون تبني مفاهيم التسويق ذاتها لا يعد تسويقا سياسيا. وعلى العكس، فإن تبني مفاهيم التسويق السياسي لا يستتبعه بالضرورة تطبيق كل وظائفه وأساليبه، ولكن يستتبعه تطبيق وظائف وأساليب تناسب الموقف السائد. وعلى هذا فإن ثمة تنوعا كبيرا في المواقف التي يطبق فيها التسويق السياسي.
ولما كانت الكيانات السياسية والأحزاب السياسية والمرشحون السياسيون ينتجون المعلومات ويوزعونها للتأثير على اتجاهات وسلوكيات الناخبين، والاحتفاظ بمساندتهم، فإن ذلك يتطلب فهما كافيا للقيم التي يبني عليها الناخبون اختياراتهم السياسية، وأن يتعاملوا معها بإيجابية.
مفهوم المنفعة المتبادلة في التسويق السياسي
وعلى هذا النحو يثير مفهوم المنفعة المتبادلة في التسويق السياسي جدلا (سوف نبينه في لاحق التدوينة). ويتم التبادل الفعلي عندما يعطي الناخب صوته للحزب أو المرشح السياسي. وبمعنى آخر، يدخل الناخبون في صفقة وتبادل منفعي عندما يعطون أصواتهم للخدمات التي عرضها أو وعد بها الحزب أو المرشح السياسي في برنامجه الانتخابي، ويمكن تحقيقها إذا فاز في الانتخابات. وعلى هذا، فالتسويق السياسي قابل للتطبيق في العمليات السياسية مادام أن ثمة صفقات تتم. ويهتم التسويق السياسي أساسا بالكيفية التي تتم بها هذه الصفقات، وكيف توجه وتستحدث وكيف يجري تقييمها.
الطبيعة الوصفية والتوجيهية للتسويق السياسي
ويتضح مما سبق أن التسويق السياسي يؤدي وظيفة ذات طبيعة وصفية وتوجيهية. وصفية ﻷنه يزودنا ببناء معرفي مشتق من المشروعات الاقتصادية والتجارية، ويشرح ويحدد خطوط التبادل الذي يتم في السوق السياسي وفي الحملات السياسية والانتخابية، ويطرح علينا إمكانية إيجاد تفسيرات بديلة للعملية الانتخابية. ولكن توجيهي أيضا، ﻷن كثيرا من الأكاديميين الذين يتبنون مفهوم التسويق السياسي يقولون صراحة، أو ضمنا، أن ثمة أشياء مهمة يتعين على الكيانات السياسية والأحزاب والمرشحين القيام بها إذا أرادوا الفوز في الانتخابات والاستعانة باستراتيجيات وأساليب التسويق السياسي، فقد يكون عليهم أن يعدلوا برامجهم السياسية أو هيكلهم الحزبي، أو تقديم قيادات ووجوه جديدة للناخبين، أو قد يضطرون إلى إعادة صياغة مبادئهم وأهدافهم.
حالة توني بلير وحزب العمال مع التسويق السياسي
وتعطي حالة توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، الذي قاد حزب العمال إلى الفوز في الانتخابات ثلاث مرات متتالية مثالا على الأشياء المهمة الواجب اتخاذها من قبل حزب سياسي إذا أراد الاستفادة من أساليب التسويق السياسي. فكثيرا ما كان توني بلير ينتقد بسبب افتقاره إلى المبادئ السياسية، وأن نجاح حزب العمال في الانتخابات في المرة الأولى هو المسؤول عن تخلي حزب العمال عن أيديولوجيته التقليدية. وقد أظهرت إحدى الدراسات العلمية أن عملية التحديث، التي قام بها توني بلير في حزب العمال تضمنت التعامل مع تحديدات كثيرة ومتنوعة، وأنها تضمنت في الوقت ذاته تسويق القيم التقليدية لحزب العمال. وقد تبنى جزب العمال توجها تسويقيا، سمح له أن يظهر بشكل يتماشى مع إدراك الشعب البريطاني للقيم التقليدية للحزب. وقد تم ذلك من خلال بناء علاقة بين سياسات الحزب الجديدة وأهدافه، وإدراك احتياجات الجمهور.
وعلى الرغم من أن ذلك أدى إلى إحداث تغيرات في سياسات حزب العمال، فإن هذه السياسات ظلت مرتبطة بالتقاليد التاريخية للحزب. ولم تتح هذه العملية لحزب العمال النجاح فقط في الانتخابات، ولكن أتاحت له الادعاء بأنه يعبر عن الإرادة العامة للشعب البريطاني، وأنه يعكس روح الأمة باعتباره يعكس اتجاهات الناخبين.
وعلى الرغم من حزب العمال يتحدث عن إنجازاته الكبيرة، فإنه ربط ذلك بالمجتمع والأوضاع التي ورثها من فترات حكم حزب المحافظين، وهو ما قبله الشعب البريطاني. ولكن على الرغم من ذلك، ظل ثمة توتر بين خلق شيء جديد، وطرحه على الشعب على أنه يشبه أو يماثل ما هو قديم. وقد أعطى هذا التوتر الانطباع بأن حزب العمال يفتقر إلى التغيير، وعدم القدرة على العمل.
والحقيقة أن حزب العمال لا يسعى إلى التغيير، ولكنه يسعى إلى التأقلم والتكيف، فالقيم التقليدية والمحافظة التي أنكرها توني بلير، يجب أن تتأقلم وتتكيف بالتوازي مع قيم قوى السوق العالمية والمحلية، ومع العناصر المرجعية في المجتمع والحكومة البريطانية.
تطور التسويق السياسي
تدل المعالجة السابقة على أن التسويق السياسي كبناء معرفي لم يتضح تماما حتى الآن، وأنه مازال في مرحلة التطور، وهو فرع معرفي جديد تعود بداياته الأولى إلى عام 1990 عندما نشر نيكولاس أوشوفننسي دراسته المعنونة “ظاهرة التسويق السياسي”، على الرغم من أن هذه الدراسة تنتمي إلى دراسات التواصل السياسي وعلم السياسة، أكثر من كونها تنتمي إلى علوم التسويق والإدارة. وطفق من بعده الباحثون يدرسون إمكانية تطبيق مفاهيم واستراتيجيات التسويق في السياسة، وركزت أغلب الدراسات على العمليات الاتصالية المتضمنة في الحملات السياسية والانتخابية، ولكنها لم تهتم بالقدر نفسه بإدارة الضغوط على العملية التشريعية كجزء من العملية التسويقية. ومع هذا فإن كل الدراسات المتاحة حتى الآن تمثل نقطة الانطلاق لتطوير مفاهيم جديدة، تلتقي فيها السياسة مع التسويق.
مفهوم ” التسويق السياسي الشامل “
ومن بين هذه المفاهيم الجديدة، مفهوم التسويق السياسي الشامل، الذي طرحه انجرام ويلز مارشمنت، والذي يرى أن التسويق السياسي الشامل أكثر شمولا من الاتصال السياسي، وأنه يمكن أن يطبق على السلوك الكلي للكيانات السياسية والأحزاب والمرشحين، وليس على الحملات السياسية والانتخابية فقط، وأنه يبنى على مفاهيم التسويق، وليس على استخدام استراتيجيات وأساليب التسويق فقط.
وقد بنى الباحثون على هذا المفهوم، مفهوم “الحزب ذو التوجه التسويقي”، والذي يرى أن الحزب السياسي لا يستخدم التسويق لمجرد بيع منتجه السياسي (برامجه وخططه ومرشحيه)، ولكن يستخدمه في تصميم هذا المنتج ذاته، أي أن مفاهيم التسويق يجب أن تتضمن في أي مجال من مجالات سلوك الكيانات والأحزاب السياسية، وفي سياساته وقياداته، على أساس أنها كلها تؤثر في النهاية على الناخبين المستهدفين.
القضايا الجدلية في التسويق السياسي
مازال التطور العلمي للتسويق السياسي في بداياته كما سبق القول، ومازالت أطروحاته تثير كثيرا من الجدل بين أساتذة السياسة والتسويق، وهذا الجدل ينبغي النظر إليه على أنه مفيد وبناء لتطوير مجال معرفي خاص بالتسويق السياسي، فالتسويق الاجتماعي تطور كبناء معرفي ثري داخل علم التسويق، من خلال النقاش والجدل.
وعلى الرغم من وفرة الدراسات التي تظهر اعتماد السياسيين على التسويق السياسي الذي أضحى صناعة رئيسة متنامية، فإننا لم نصل حتى الآن إلى بناء علمي قوي يتضمن نماذج يمكن قبولها علميا وأخلاقيا على المستوى العالمي، والنماذج الأمريكية الناجحة لا يمكن تطبيقها في نظم سياسية وحزبية أخرى.
ويزيد من حساسية الأمر أن الأفراد الذين يعملون في مجالات عديدة مثل تخطيط الحملات الانتخابية وتنفيذها، وفي مجال الدعاية والإعلان السياسي ينسبون أنفسهم إلى مجال التسويق السياسي، بحيث أصبح اصطلاح التسويق السياسي يثير لدى البعض إحساسا بأنه مجموعة متنوعة ومتفرقة من الأنشطة الاتصالية، مما يضفي على مفهوم التسويق السياسي بعض اللبس والغموض.
وإذا كان التراث العلمي للتسويق السياسي يمتد عمره إلى ما يقرب من عقدين فإن التسويق السياسي كعلم مازال في وضع صعب، يتعين عليه فيه أن يبرر وجوده، ويدافع عن ذاته في مواجهة الانتقادات التي توجه إليه. ولكي يتطور التسويق السياسي كبناء معرفي، فإنه يجب تطوير أطره الخاصة، التي يستقيها من جوهر تراث علم التسويق، ويجب بعد ذلك بناء وتطوير نماذج وصفية وتنبؤية خاصة به.
وفيما يلي عرض ﻷبرز القضايا الجدلية في مجال التسويق السياسي.
1- هل يمكن تطبيق مفاهيم التسويق واستراتيجياته في السياسة ؟
يدافع بعض كبار أساتذة التسويق من أمثال كوتلر عن مفهوم التسويق السياسي، لاعتقادهم بوجود تشابه كبير بين كل من الأنشطة السياسية والأنشطة التجارية. وهذا التشابه صحيح إلى حد ما، فالتسويق في كل منهما يتضمن طرح وعود بشيء ما، والسياسيون في الحملات الانتخابية والسياسية يطرحون وعودا على الناخبين المستهدفين، وقد تكون هذه الوعود متعارضة في بعض الأحيان، ويصعب على الناخبين تذكرها بعد فترة من الزمن. والتسويق هنا يشبه إلى حد كبير تسويق الخدمات، ﻷن الاحزاب السياسية هي منظمات خدمية، كما سبق أن ذكرنا، والوعود التي يقدمها حزب للناخبين تتمحور حول قدرته على الحكم وإدارة الخدمات العامة إذا فاز في الانتخابات.
وفي الاتجاه نفسه، يرى بعض الباحثين أن التسويق السياسي يشبه إلى حد كبير تسويق السلع الاستهلاكية، ﻷن الأحزاب السياسية تعمل في سوق يشبه إلى حد كبير سوق احتكار القلة، حيث يحتكر عدد قليل من المنتجين السياسيين (الأحزاب) السوق السياسي. ولكن إذا كان ذلك صحيحا إلى حد ما، فإن علينا أن نسلم بأنه ثمة اختلافات في مضمون تسويق كل منهما.
فالعمليات السياسية تركز على ترسيخ قيم ما، وبالتالي لا ينبغي النظر إليها على أنها مجرد طرح شيء ما للبيع، ﻷنها تطرح رموزا قيمة نابضة بالحياة، ومرتبطة بإحساس الفرد بذاته، حيث تعتبر قرارات الفرد وآرائه السياسية جزءا من بنائه القيمي وتكوينه الاجتماعي.
وتصويت الفرد لحزب ما يمكن أن يكون مصدرا لهويته الاجتماعية، وهذا ما يفسر استخدام الاستمالات العاطفية المرتبطة بالقيم الكامنة في المنتج السياسي. ولكن لا يمكن إثبات أو نفي الافتراض القائل بأن القيم الكامنة في المنتج السياسي أكثر أهمية من القيم الكامنة في المنتج الصناعي، فشراء المنتجات الاستهلاكية لا يرتبط بقيم محايدة هو الآخر، ﻷنه يرتبط بمعان رمزية وبأسلوب الحياة التي يحياها الفرد.
ويتمحور الجدل الدائر الآن حول موضوع القيم حول دورها في التسويق السياسي. ويرى المدافعون عن التسويق السياسي أن أي فكرة أو قضية أو برنامج سياسي، وأي حزب سياسي أو مرشح سياسي له رمز قيمي. وكثيرا ما تتصارع الرموز القيمية بالنسبة للقضايا والأحزاب والمرشحين السياسيين، فيما يسميه البعض “حرب القيم المدنية”.
وتكتسب القضايا والأفكار السياسية المطروحة قوتها الذاتية من رمزية قيمها. وقبول قيم معينة أو رفضها يتم من خلال ما يسميه البعض روح الشعب المعنوية، التي لا توجد في التسويق. وفي ضوء ذلك، يرى البعض، كما سبق أن ذكرنا، أن استخدام اصطلاح التسويق السياسي يعبر عن عدد كبير من الأنشطة غير المرتبطة ببعضها البعض.
وبناء على ما سبق يرفض أساتذة السياسة القول بأن العمليات السياسية تشبه إلى حد كبير المشروعات الاقتصادية والتجارية. ويرون أن التراث العلمي للتسويق السياسي هو عملية تبرير النجاح والفشل، الذي حدث فعلا، وأنه لا يطرح رؤى علمية جديدة. ويوجه هؤلاء الأساتذة انتقادهم إلى النماذج المثالية التي يطرحها أساتذة التسويق السياسي بالنسبة للسلوك السياسي للفرد في المجتمع الديقمراطي، والتي تفترض أن قرار التصويت الذي يتخذه الفرد مبني على معلومات موضوعية، وأنه اتخذ بتوري وتبصر، ﻷن الناخبين في الواقع لا يفعلون ذلك بسبب تعقد عملية اتخاذ القرار، التي تدفعهم إلى استخدام مفاتيح إدراكية أو معرفية، لكي يسهلوا على أنفسهم عملية اتخاذ القرار.
وعلى الرغم من هذه الانتقادات والجدل، فإنه ثمة اهتمام من قبل أساتذة السياسة بالتسويق السياسي، وهو ما يتضح من خلال ظهور العشرات من المؤلفات والبحوث التي تتناول التسويق السياسي. ومع ذلك فيوجد اختلاف مهم بينهم بالنسبة لعملية بناء المفاهيم والمداخل العلمية لكل من علمي السياسة والتسويق، ويبدو أن السياسيين قد قبلوا بأن التسويق نشاط يمكن للسياسيين أن يضمنوه في خياراتهم، وأنه مفيد في الحملات السياسية. ويبدو أن لدى بعض علماء السياسة تقديرا ضعيفا لنظرية التسويق، خاصة على المستوى الاستراتيجي (مستوى بناء السياسات الاستراتيجية) وهذا ما يبرر الدعوة إلى ضرورة أن يكون للتسويق السياسي أساس علمي مشتق من علمي السياسة والتسويق، وليس من التسويق وحده.
وقد تبنى عدد قليل من علماء السياسة مفهوم التسويق السياسي، بدعوى أن التحليلات التي يقدمها توفر مصادر قوة مميزة ومفتقدة في المعالجات التقليدية لعلم السياسة. ويرى بعض هؤلاء أن إسهامات التسويق السياسي تكمن في نظريات الطلب التي يطرحها، وفي مفهوم تجزئة السوق، وفي تحليل عمليات اتخاذ قرار التصويت في ضوء نماذج السلوك الاستهلاكي، وفي أهمية الصور الذهنية التي يبنيها الناخبون عن كفاءة الأحزاب السياسية وجدارتها بالثقة. ويرى بعضهم أن الإسهامات الأكبر للتسويق السياسي، تكمن في تحويل الاهتمام من أساليب الترويج السياسي إلى اهتمام بالأهداف الاستراتيجية الكلية للكيانات السياسية والأحزاب والمرشحين.
2- هل أفرغ التسويق السياسي السياسة من مضمونها ؟
يعتقد بعض نقاد التسويق السياسي أن التسويق السياسي قد أفرغ السياسة من مضمونها، وأبعدها عن أية علاقة مباشرة مع القضايا السياسية، فهم يرون أن إدارة التسويق السياسي تقطع القضايا السياسية إلى أجزاء صغيرة، تعرض كل جزء منفصلا عن الكل من خلال الإعلانات السياسية أو الأخبار السياسية التي تفتقر إلى المضمون والمغزى السياسي، وأنها غالبا ما تركز على بناء صور ذهنية عن الأحزاب والمرشحين السياسيين. وينتقد هؤلاء بشدة دعوة بعض رجال التسويق السياسي للسياسيين، بأن يكونوا مثل مدراء العلاقات التجارية الذين يتولون مسؤولية الترويج لعلاقات تجارية معينة، وأن يدير رؤساء الحكومات أمور الدولة باعتبارها علاقة تجارية.
وهذا الانتقاد صحيح نسبيا، وقد سبقت الإشارة إلى أن إدارة العملية السياسية تشبه، إلى حد كبير، إدارة الخدمات من حيث أن كلا منهما يطرح وعودا للناخبين أو الجمهور المستهدف. ولكن من الأفضل النظر إلى هؤلاء الناخبين باعتبارهم عملاء، وليس باعتبارهم مستهلكين. والوعود التي يطرحها السياسيون تثير توقعات، وإذا لم تتحقق هذه التوقعات، ويتم إنجاز الوعود من خلال قرارات سياسية (خفض الضرائب، أو زيادة الأجور، أو خفض معدلات البطالة، أو تحسين الأحوال المعيشة للطبقات الفقيرة)، فسوف ينجم عن ذلك حالة من عدم الإشباع، وتحقيق التوقعات. وإذا تم تجاهل هذه الوعود بشكل دائم، وأدرك الناخبون أن أغلب الوعود التي قدمت لهم أثناء الحملات الانتخابية تم تجاهلها، فسوف يغيرون اتجاهاتهم وسلوكهم مستقبلا، أي يحتمل أن يتحول الناخبون إلى أحزاب ومرشحين آخرين.
والحجة الشائعة التي تقول إن الناخبين ينسون الوعود الكاذبة التي قيلت لهم أثناء الانتخابات، هي في الواقع حجة واهية، ﻷن الناخبين سوف يحولون ولاءهم إلى الآخرين. وعلى هذا، فالمضمون السياسي وليس الشكل الذي قدم به هو الأهم. والقول بأن التسويق السياسي قد أفرغ السياسة من مضمونها يفترض أن الناس ينسون بسهولة، وأن من السهل تضليلهم باستخدام أساليب التسويق السياسي.
3- هل أدى التسويق السياسي إلى تركيز السياسيين على الجمهور أكثر من تركيزهم على القيادة السياسية ؟
يرى نقاد التسويق السياسي أن السياسيين أصبحوا يجرون وراء الآراء السياسية التي يطرحها قادة الرأي، وقادة الجماعات المؤثرة في المجتمع المدني، ووراء نتائج استطلاعات الرأي العام والتكيف مع نتائجها، وأنهم يستخدمون بحوث التسويق لمعرفة احتياجات ورغبات الناخبين المستهدفين والاستجابة لها بطرح الوعود التي تشبع هذه الاحتياجات والرغبات. وأن هذه البحوث هي التي تحدد بالتالي السياسات التي سوف تتبعها الأحزاب السياسية، إذا فازت في الانتخابات، وبمعنى آخر، فإن الناخبين، وليس السياسيين، هم الذين يحددون السياسات التي سوف تتبع بعد الانتخابات.