كان عنواناً صحفياً لافتاً في حينه، حتى عدّه البعض من أنواع الفذلكة والإثارة الصحفية آنذاك..
كيف لا والعنوان يشير إلى أن العراق أصبح في العام 2012 من بين الدول الأولى على مستوى العالم في الطلب على السيارات من ماركة (همر)، ليس هذا فحسب بل وذات اللون الأصفر الأعلى سعراً.
هذا العنوان الصحفي الذي تزيّنت به إحدى صفحات جريدة الشرق الأوسط آنذاك شكّل حالة من الصدمة وعدم التصديق كونه لا يتناسب والجو العام للحياة في داخل العراق.
غير أن هذا العنوان لن يكون مستغرباً وفق قياسات الواقع الاقتصادي في العراق اليوم.. والذي تشير مؤشرات عدة إلى ارتفاعه، إذ يكشف موقع (نيمبو) المتخصص في دراسة مستويات المعيشة في مدن العالم أن المواطن العراقي ينفق (52%) من دخله على أمور استهلاكية ثانوية.
وتشير البيانات والدراسات الإحصائية إلى أن العقار في العراق -مثلاً- وصل لمستويات يكاد يفوق فيه الدول الأغلى على مستوى العالم كالولايات المتحدة أو المملكة المتحدة وغيرها، فيما تضخّم سوق السيارات بشكل مخيف حتى باتت الوكالات العالمية تحرص على فتح فروع لها داخل العراق بعد مستويات الطلب المتصاعدة عليها.
فالعراق استورد خلال العام 2023 سيارات من الولايات المتحدة الأمريكية فقط بقيمة (229) مليون دولار بواقع (15000) سيارة، هذا بالنسبة للسوق الأمريكي فقط فما بالك بالوكالات العالمية الأخرى والتي يتجاوز عددها اليوم (30) وكالة عالمية.
وكشف صاحب إحدى شركات بيع السيارات في العراق أن معدلات الطلب على السيارات ذات العلامة التجارية العالمية تزايدت بشكل كبير في البلاد، حتى أن أحد معارضه يبيع يومياً خمس سيارات كمعدل من نوع (شوفرليه / تاهو ) والتي تصل قيمتها ﻷكثر من (120) مليون دينار.
هذه الإحصائيات على مستوى العقارات والسيارات يمكن إسقاطها على مجالات الحياة الأخرى، فالمطاعم والفنادق تزايدت بنسبة كبيرة جداً خلال العقد الأخير إذ تشير إحصائيات وزارة التخطيط إلى أن المطاعم اليوم تحتل نسبة (%65) من النشاط الاقتصادي.
وبالعودة إلى موقع (نيمبو) وإحصاءاته، حدّد الموقع كلفة المعيشة في العاصمة العراقية (بغداد) للعائلة المكوّنة من أربعة أشخاص بـ(2,588,054) عراقي –بدون كلفة إيجار السكن- فيما تبلغ تكلفة معيشة الفرد الواحد (773,806) دينار عراقي.
تكلفة المعيشة أعلاه وإن كان بعض الأكاديميين المتخصصين بالشأن الاقتصادي يشكّك في صحة بعض أسسها إلاّ أنها تبقى إحصائيات وأرقام صادرة عن مؤشر عالمي مُعتبر.
هذه الأرقام إذا ما قارناها بدول أخرى سنجد أنها متقاربة إن لم تكن تفوق مستوى المعيشة في دول لها مكانتها المعتبرة على المستوى الدولي مثل تركيا التي تصل تكلفة معيشة الأسرة المكوّنة من أربعة أشخاص حوالي (1500$) وهي قريبة مما يعيشه العراق اليوم.
لكن وبمقابل هذه المؤشرات لتحسّن مستوى المعيشة نجد ارتفاعاً مضطرداً لنسب العراقيين الذين يعيشون تحت خط الفقر، إذ تشير التقديرات الرسميّة لوزارة التخطيط العرقية لوصولهم لنسبة (25%) من سكان البلاد، أي ما يقارب الـ(15) مليون عراقي.
كما أن العراق ومنذ العام 2003 يشهد انتشاراً للعشوائيات في أغلب محافظاته، فوفقاً لآخر مسح سكاني أجرته وزارة التخطيط لعموم التجمعات السكنية العشوائية في البلاد فإن العراق يضم اليوم (4679) مجمعاً عشوائياً جلها في العاصمة بغداد.
أما سكنة تلك العشوائيات فيصل عددهم إلى (3,725,000) نسمة، وهو رقم كبير يكاد يشكّل (8-10%) من عموم سكان العراق.
هذه النسبة الكبيرة لن تقف عند حدود كونها لا تملك سكناً لائقاً بكل تأكيد، بل إن آثار نوع السكن ستنعكس بالضرورة على مستوى التعليم وانتشار الأمراض والجريمة وغيرها، فمستوى الأمية في العراق لمن هم دون الـ(10) سنوات في ارتفاع عاماً بعد آخر، فبعد أن كانت النسبة (%12) خلال العام 2021 بلغت (%13) مع نهاية العام 2022. وكذا مؤشر الجريمة المنظمة في العراق أرتفع من (7.05) درجة في العام 2021 ليصل إلى (7.13) درجة نهاية العام 2023 وفقاً لمؤشر الجريمة المنظمة العالمي.
هذه الفجوة بين الصورتين أعلاه لن تقف عند حدود الأرقام، إذ بلا شك سيكون لها انعكاسها على الاستقرار المجتمعي مستقبلاً وعلى شكل وطبيعة الدور الذي تؤديه طبقات المجتمع في ظل رؤية دولة تطمح لمستقبل يبرز فيه دور العراق ومحورية موقعه سياسياً واقتصادياً في المنطقة. وكلنا يتذكّر كيف اضطرت محافظة البصرة لتشيّيد سور يعزل المناطق العشوائية ويبعدها عن أنظار زوار المحافظة إبان تنظيم العراق لبطولة خليجي 25 بلغت تكلفته (45) مليار دينار.
عليه، فإن وضع الحلول لهذا الانقسام بات أمراً حاكماً ينبغي على الدولة العراقية أن تأخذ زمام المبادرة فيه إذ أن التأخير يعني أن الفجوة تتسّع وقد تصل الأمور في وقت ما لمرحلة لا يمكن معالجتها وسنكون أمام مجتمعين ضمن حدود واحدة أحدهما مرفّه يسكن المجمعات السكنية الحديثة بمستوى معيشة وتعليم مرتفع يقابله مجتمع آخر جاهل منعزل يعيش في سكن لا تتوفر فيه أبسط أبجديات الحياة.