المعلم : حدقة تبصر , وقلم ينير , وثورة صامتة

المعلم : حدقة تبصر , وقلم ينير , وثورة صامتة

كم اتاحت لنا الحياة ونبهت الى  ان العلل هي التي  يناط بها أي حكم شرعي من ناحية , وتؤسس لوجوده من ناحية اخرى , وهناك علل تمحي او تلغي الحكم الشرعي من الأساس بوجودها , وهذا ينطبق  على المسرح ايضا  , إذ ان علّة التأسيس لوجوده  تكمن  في بث نور الوعي الحقيقي فيه لتبصره الناس , فلا ينبغي لأحد  ان يُطفيء نوره مهما  تكالب   المزيفون عليه , نظرآ  لأنه تأسسبالأصل على مبدأ نشر الوعي بين صفوف الشعب  ,  لا للتصفيقلأفكار تلك الفئة من المزيفين فحسب ,

الذين اعتادوا على تخريب النصوص المسرحية لغايات في انفسهم أو بدفع من جهات معادية  ضد بث الوعي على المسرح الحر والملتزم , التي تذكرنا بالموقف الواضح للكاتب المسرحي النرويجي هنريك ابسن في الفصل الأول من مسرحية ” بيت الدمية ” , إذ تلتقي فيه نورا زوجة تورفالد هيلمر مع صديقتها مدام لند , ويجري بينهما الحديث الذي نستخلص منه دور الزوجة في مجمل سير الحياة الزوجية في النرويج أنذاك ,  

إذ ان الزوجة وهي تعيش في بيت الزوجية , ليست كما يراها المجتمع  النرويجي  دمية  , لاينظر اليها كشخصية مستقلة لها افكارها ومشاعرها  , بل ككائن جميل ومطيع  يلعب دور الزوجة والأم بحسب مايريده ويراه الزوج فحسب , وهذا ازعج النقاد في حينه , معتبرين ان نورا تمردت على الدور الموروث الذي يريده  المجتمع , بينما الكاتب ابسن اراد تعزيز الوعي بالمجتمع عما تفعله الزوجات من خلف ظهور ازواجهم بسبب القيود الإجتماعية  التي تريد ان تحوّل النساء الى كائنات مزخرفة كالدمى بلا حرية حقيقية , فأراد تعديل ماكانوا عنه غافلين .

في مسرحية ” بيت الدمية ” جسّد الكاتب دور المسرح في دعوته الى تعديل التقاليد والجمود في النواحي الإجتماعية الموروثة ,  ودور الكاتب كمعلم يستبشع مايراه من خضوع لتلك التقاليد التي تتحكمبحرية النساء , ويقدم للمجتمع مفهومآ آخر يقف بحزم امام البعض من التقاليد الموروثة والمسيئة له .  

وهذا ينطبق على سياسيِّ بلدان العالم أيضآ , إذ هناك من يسرق الأدوار السياسية ويزيّف الحقائق ويصنع الفوضى , مدفوعآ بدوافع المخربين للمسرح نفسها , أو بعلّة ان إثراء النفس  تبيح  , في بيئة الفساد , الى بناء الأفكار على الخوف والكذب , وكل شيء للزيف والإحتيال  , ولا يعلم هذا السياسي  انه  بذلك الفهم كان متوهمآفزرع خلايا موته بيده , فلا الزيف يبني البلاد ولا الإحتيال او الكذب , بل يسقطها بالنهاية بعللها التي صنعها للبلاد وفي جذبها للمؤامرات الخارجية فحسب .

بهذه المقدمة , نضع  اسس مقالتنا وهي تتحدث عن علّة وجود فئةفي بيئة التعليم من المعلمين والمعلمات ومن درجات الأستاذية  في الجامعات , نَمَا  في داخلهم ,  حس الترهيب  والإستبداد , متناسين انهم  متوجهين  الى النقيض من السلوك التعليمي الهادف الى خلق الوعي الذي يحرق صفة الجبن الموروثة والمتغلغلة في نفوس الطلابمنذ مئات السنين ,

فياترى هل مهنة التعليم عند هذا الصنف من البشر الذين زادوا عليها من الصفات صفة التعالي والتعجرف  فضلآ عن الترهيب والإستبداد , هي التي صنعت بهم ذلك الحس  سواء بالمدارس أوالمعاهد او الجامعات ؟  ومن وراء تلك الصناعة ؟

الجواب : في البدء علينا نسأل : من الذي يصنع التعليم , ومن يصوغ المعلم لينقلب  من بعد  من مهنة المربي الى مستبد ؟

من يصنع التعليم  هو المعلم , لأنه الركيزة الأساسية التي تزرع القيم التي تتشكل بها العقول , ومن بعد تأتي الأسرة والمجتمع لأنها البيئة التي تدعم التعليم من الخارج , وتأتي من بعد الدولة وسياساتها وتوجيهاتها التعليمية العادلة التي تقود الطالب الى التعليم  , وأخيرآ يأتي الطالب نفسه لأنه محمور العملية التعليمية إذا توفرت لدية حرية التفاعل مع الركيزة للوصول الى تعليم مزدهر , ولايخفى فضل المسرح والفنون الاخرى التي بمجملها  تصنع الوجدان , علمآ ان البيئة الإجتماعية والمسرح معآ يشكلان مرآة ذلك الوجدان .  

ولكن عندما تترسخ في  البيئة الإجتماعية افكار الخوف والترهيب , فضلآ عن التعالي والتعجرف  ,وخاصة في حقب الأنظمة الإستبدادية والقمعية  , يكون ضحيتها الإنسان في مختلف المواقعالإجتماعية والحكومية ومنها البيئة التعلمية , إذ انه , حتمآ , يخرجمصاغآ  من تلك البيئة العامة الى البيئة الخاصة بعمله كمعلم  ,بنفسية ضعيفة  لانقول عنها معطوبة , بل مشروخة لاترى امامها  عقولآ ,

بل خصومآ ليتم التعامل معها  بتبرم  وعبوس كبيرين  لينتزع منهاالإحترام والتقدير  , ولا يعلم انه بهذه الطباع يهمّش تفاعل الطلاب معه , لأنه يرى اسئلة الطلاب ومناقشاتهم ناجمة عن فكر طلابي يؤسس الى خطر محدق به وبنظامه القمعي المستبد عندما يكون ولائه لذلك النظام .

وهذا ماحدث منذ مئات السنين بسبب فقدان علّة التقييم الإنساني والأخلاقي لتصنع المعلم في الفئة الآنفة بالذكر, وبهذا الفقدان اصبح المنهج التعليمي مجرد هراوة  , ادخلت الطلاب  الى بوابة الجبن والخوف ليتجمدوا بها  , وليس  الى بوابة التعليم  نحو آفاق العلم , علمآ ان السؤال الذي يوجهه  الطالب الى المعلم يعزز لفهم الدرس , وهو امر اعلى واقدس بكثير من الحفظ والتلقين .

لأن المعلم  قلم ينير , لا سوط  او نار تقمع  الزرع والحرث , ولو  لم  يتحوّل التعليم  بهذا النهج في بعض البلدان العربية   , لرأينا شعوبها تقرأ الأحوال جيدآ وتفكر جيدآ وتعرف استحقاقاتها جيدآ وتثور إن لزم الأمر  , ولكن بذلك النهج التعليمي  المستبد والواقع الذي يكشفه بلا كذب ,   مازالت تلك الشعوب لاتعرف الثورات لحد الآن  ,

فالطالب الذي لايتربى على السؤال ويُمنع من النقاش بحجة الأدب , ويُزرع  في فهمه ان المعلم  لا يُسائل , والقاضي والحاكم لايُسائل ولا يناقش , فما الذي نتوقع منه عندما يكبر ؟ هل يثور ؟ على من ؟ وهو لم يتعلم حتى كيف يعترض على خطأ المعلم او القاضي او الدكتور ؟

الخلاصة , لا عجب ان اخطر ما  تخشاه الأنظمة الدكتاتورية والقمعية المستبدة هو المعلم الحقيقي , لأنه لايربي جيلآ على الطاعة العمياء , بل جيلآ حيّآ بالوعي , وهذا وحده ثورة صامتة , لأن الوعي ثورة  , وما عمل تلك الفئة المستبدة من المعلمين التي تحولت اقلامها المنيرة الى مشاعل خامدة , إلا هذيان ولغو وثرثرة وقمع للوعي باد للعيان واغتيال مبكر له داخل المدرسة من ناحية ,

وسبب في تعطيل الثورات في العديد من الأنظمة العربية  التي تملّقت منذ نشأتها ابتغاء بقائها بالسلطة , قوى الإستعمار والإحتلال الصهيوني بسبب دعم وتفعيل سياسة الترويض التي تتبعها تلك الفئة من المعلمين في قاعات الدرس قبل مراكز الأمنالخاصة بها , وهي تقتل ثورة العقل من ناحية اخرى , ومن هنا فإن المعلم الحقيقي ليس من يحشو العقول , بل من يفتحها ويحرّض على التفكير , عندئذ يكون وحده الثائر بصمت .  

ولا تختلف سياسة الترويض عن استبدادية فئة من  السياسيينالذين لايصنعون التفكير الذي يحرّض على الثورة ضد الخطأ الجسيم الذي تقترفه اي فئة ضالة في المجتمع او اي نظام سياسي , ولم يتعلموا من  العلل التي اوجدت  المذاهب الإسلامية الأربعة التي استجابت  للحاجة العلمية  والمجتمعية  لفهم النصوص الشرعية , فعمدوا بالدروس الى مخاطبة العقول وتنظيم الفهم الشرعي والإجابة عما يسألون بما يتناسب مع واقع المسلمين في مختلف الأقاليم , ومازالوا يتحدثون الينا  منذ قرون  ويضعون الحقائق امامنا ,

وكانت , حقآ , ثورات عقلية صامتة , جعلت جميع الأنظمة العربية الحاكمة تحاربها  مما تسبب في تمسك المؤسسين بنهجهم التعليمي البعيد عن الإكراه والتعسف  , فضرب الإمام مالكبالسياط بسبب فتواه المخالفة للسلطة , والإمام احمد بن حنبل سُجن وجُلد وقتل بتهمة الشرك في محنة ” خلق القرآن ”  , والإمام الشافعي هرب الى الحجاز ومصر وقتلته الصراعات بين المتعصبين , وابو حنيفة رفض مناصب القضاء وتوفي في السجن ومات فيه مسمومآ , أما أئمة اهل البيت فجميعهم  قتلوا بالسم والسجونوفي مقدمتهم الإمام جعفر الصادق الذي قُتل مسمومآ على يد الخليفة المنصور , لأنه قاد ثورة العقل ضد تلك السلطة الفاسدة .

هكذا كانت تضحية العلماء الأولين الذين انتضوا العزم واناروا العقول بالقيم والأخلاق فأسسوا بها نهضة علمية شاملة وكانوا بها من احسن المؤسسين الى نظم الأمم الراقية , على الرغم من  لباس الهوان الذي البسته عليهم السلطات الغابرة ,

التي مازالت ذيولها الباقية والموروثة تعتبرهم  كالدمى اسرى بأيديهاتوجههم بما تريد من قيم ترتكز على الفحشاء والمنكر , بما لديها من الولاءات للأعداء ووسائل القمع , فتارة تقصيهم من مناصبهم , وتارة تملأ بهم السجون إذا خرجوا عن تقاليد السلطة الغابرة , وتارة تصفق الأبواب امام نشر الوعي المحرّض على التغيير , ليطيب عيشها السالف الغابر بلا تظاهرات او ثورات لحد الآن .

أحدث المقالات

أحدث المقالات