قرأت الكثير من الكتب والمقالات وشاهدت واستمعت لكثير من البرامج التلفزيونية والاذاعية التي تتحدث عن المعضلة الاقتصادية المتجذرة في العراق منذ احتلال العراق في سنة 2003م من قبل التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الامريكية، وساعدته ومهدت له اغلب دول المنطقة العربية والمسلمة. وطبعا فان الخوض في هذه المقالة القصيرة في ظواهر ومعطيات هذه المعضلة يعد ضربا من الاسهاب والاطناب لمعضلة يعرفها القاصي والداني، العراقي والعربي والاجنبي، المتعلم والجاهل، السائل والمسؤول. لذلك سأركز على ما هو اهم من ظواهر هذه المعضلة الاقتصادية المعروفة للجميع، وهو الجواب على السؤال الآتي: هل من الممكن حل هذه المعضلة أساسا؟ وهنا انا لا اقصد محاولة إيجاد الحلول لأنه قد اسهب فيها شرحا عدد غير قليل من الباحثين الاقتصاديين المتخصصين، وآخرين متطفلين على الاقتصاد ولكنهم لم يبحروا بعيدا عن الواقع لمشاعية الأفكار الاقتصادية العامة. فلا يستطيع أي اقتصادي ان يرفض رأيا لمجهول او متطفل يتحدث عن أهمية الزراعة والصناعة والسياحة في إنعاش الحياة الاقتصادية في العراق، ولا عن أهمية النهرين العظيمين او الموارد النفطية وغيرها من الموارد المهمة في إنجاح أي خطة اقتصادية تنموية طموحة. والسؤال مرة أخرى، هل من الممكن تطبيق حلول ناجعة تخرج العراق من عنق الزجاجة حيث المعضلة الاقتصادية الخانقة؟ وأقول في هذا اختصارا الآتي:
لمواجهة اية ازمات او مشاكل اقتصادية بحجم ما يحصل في العراق اليوم ينبغي ان تمر الدولة بمراحل مهمة واساسية من دونها لا يمكن الحديث عن إمكانية وضع الحلول، تبدأ من تهيئة البيئة السياسية والقانونية والاقتصادية من اجل إنجاح مهمة وضع الخطة ومن ثم تنفيذها. هذه الخطة التي يضعها مختصون في الاقتصاد على أسس علمية تحكمها الإحصاءات الدقيقة الصادرة من جهات تتمتع بمصداقية مقبولة. ومن ثم تنفيذها من أجهزة الدولة ومؤسساتها كافة، فضلا عن شركات ومؤسسات القطاع الخاص، جنبا الى جنب مع مؤسسات المجتمع المدني والنقابات والجمعيات المتخصصة، والتي يكون للمواطن أيضا دور أساسي في تبنيها والدفاع عنها.
وهنا لا بد من التذكير اننا في العراق لدينا حواجز سياسية وقانونية واقتصادية كونكريتية أولها البرلمان، وكذلك العلاقة بين البرلمان والحكومة، ونظام المحاصصة ووجود الدستور المليء بالألغام، ومن أهمها ايضا العلاقة غير الواضحة بين المركز والاقاليم، وهذه كلها أدت الى ما هو اخطر منها جميعا، نتاجها، ميليشيات وعصابات مسلحة تقف خلفها امبراطوريات مالية ضخمة جدا مرتبطة فيما بينها بوشائج الوجود على ارض الواقع حتى لو اختلفت سياسيا أحيانا او دائما لكنها متفقة اقتصاديا دائما. هذه الميليشيات والعصابات المقننة وغير المقننة مرتبطة خارجيا أيضا مع الدول ذات النفوذ في داخل العراق. ولأن حجم المال العراقي المسروق غير مسبوق في التاريخ الحديث ولا يوازيه حتى المحاولات الاستعمارية المعروفة للفرنسيين والإنجليز والاسبان والبرتغاليين لبلدان كثيرة في العالم والتي ترافقت معها عمليات نهب منظمة لموارد وثروات البلدان التي وقعت تحت سيطرة الامبراطوريات المستعمرة، فان هذه الدايناصورات المالية التي تكونت في العراق أصبحت لديها وبحكم النفوذ المالي علاقات كبيرة ومهمة ووطيدة مع الكثير من مثيلاتها المقننة التي تحرك السياسة في بلدان كثيرة من العالم. مما يجعل فك ارتباطاتها الداخلية والخارجية مرهون بقرارات تتجاوز عقلية وقابلية المشرع القانوني او المخطط الاستراتيجي الاقتصادي والسياسي.
ولذلك فان التصدي للحواجز المذكورة آنفا تتطلب قدرات وامكانيات تتجاوز قدرة الاقتصاديين في التخلص من البرلمان او تغيير الدستور وانهاء النظام السياسي الحاكم واغلاق الدكاكين السياسية والميليشياوية وقطع اليد الخارجية المسيطرة على هذه الدكاكين. وإيقاف نزيف الثروة الى الخارج عبر الوكلاء السياسيين وممثلي شبكات التجارة بالإسلام السياسي وغيرها من حواجز خطيرة تمنع المختص او كما يحلوا للبعض تسميته بالتكنوقراط من أداء واجباته الموكلة اليه والتخطيط لحلول ناجعة ومن ثم تنفيذ خطته. ان أي حديث اليوم عن إمكانية تنفيذ الحلول المقترحة من قبل المختصين بوجود دايناصورات الفساد السياسي والميليشياوي ووجود المرجعيات الدينية المشاركة بالفساد والمصالح الأجنبية غير المنضبطة في العراق يعد ضربا من الخيال. ولم يعد ممكنا الاستمرار في الضحك على العراقيين بتعيين اختصاصيين (تكنوقراط) في المسؤولية وفي الكابينات الوزارية المولودة في ذات رحم العملية السياسية الفاسدة، لاسيما بعد انكشاف كل المعطيات السابقة.
المطلوب اليوم منا سواء كنا اقتصاديين او سياسيين او قانونيين او باي تخصص آخر ان نركز على هدف واحد وهو إيجاد سبل تغيير هذا النظام السياسي الفاسد في كل شيء المرتبط بالخارج وفق مصالح واجندات لا ترتبط من قريب او بعيد بمصالح الشعب العراقي. فالشارع العراق المتمثل بثورة الشباب قد سبق المثقفين او النخب العراقية وسبق أصحاب الخبرة وسبق المختصين (التكنوقراط) في التصدي الحقيقي لكل المعطيات السابقة والتي تمثل نتاجات العملية السياسية من بعد عام 2003 الى اليوم. وعلى هذا فان دور كل هؤلاء ينبغي ان ينصب اليوم في دعم الشباب في احداث التغيير المأمول او بمعنى ادق اكمال متطلبات الثورة من اجل اجتثاث الفساد وردع الفاسدين، ومن اجل اجتثاث الجريمة ومحاكمة المجرمين، ومن اجل اجتثاث العمالة ومحاسبة العملاء والخونة المارقين، بعدها فقط يكون للمختصين أدوار في وضع الحلول الاقتصادية للمعضلة الاقتصادية في العراق والتي ستتحول بعد تحريره من النظام الفاسد الى مشكلة اقتصادية طبيعية لها حلولها المعروفة على وفق مدارس ونظريات اقتصادية مختلفة.