23 نوفمبر، 2024 1:20 ص
Search
Close this search box.

المعصـــــوم… والحضـــارة

المعصـــــوم… والحضـــارة

ما أن وطئت أقدام رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم أرض يثرب وتشرف ثراها بقدومه حتى بزغ نور الحضارة الإنسانية الأول ، فتبدل أسم يثرب الى ( المدينة المنورة ) لتكون مركز إشعاع للنور الألهي ، فكانت أول لبنة في أساس المدنية وضعها معلم الخلق الأول وقائده ورائد حضارته ومن هناك نشرمبادئها فكان أولها السلام والمساواة والعدل والموآخاة بين الناس فغدوا بنعمة الله إخوانا ، ومن هناك خط القلم أول حروف العلم من صحف الوحي المقدس فكان المسجد مصدر النور والخير والمدنية والحضارة فأصبح الناس أمة واحدة ، ومن هناك رفع شعار الحرية والدفاع عنها معلنا الحرب على العبودية ورموزها وأصنامها وأوثانها لتحريرالعقول من القيود والأغلال التي قعدت بها فعاد بها الى فطرة الله التي فطر الناس عليها ومنها ينطلق الإنسان وبكل طاقاته في الآفاق الرحبة سعيا لتحقيق الهدف الأسمى الذي خُـلق من أجله وهو ( الخلافة الألهية ) التي تمثل أرقى مرتبة في مراتب الحضارة الإنسانية ، ولهذا لم نجد على الأرض رجلا رفع شعار الحرية ودافع عنها وقاتل من أجلها مثل رسول الله محمد صلى الله عليه وآله لأنه علم يقينا أن الحرية هي أساس التقدم والرقي عند كل الأمم.

واذا كان العلم عماد الحضارة فأن المعصوم معدن العلم ومصدر إشعاعه والحريص على نشره ، ولابد من الإلتفات الى أن المعصوم هو الراعي لهذا الوجود سواء كان في السلطة العليا ومركز القيادة أم خارجها لأن مهمته الأساسية هي رعاية شؤون الكون كله بما فيه من مخلوقات وصولا بالإنسان ليكون خليفة الله في أرضه ، وهذه مهمة إلهية محضة وتكليف إلهي شرعي منذ خلق الله السماوات والأرض وجعل فيها خليفة .. فالخلافة تفويض إلهي بعلم وتجلي للعلم الإلهي بشخص المعصوم سواء كان هذا المعصوم نبيا رسولا أم إماما ظاهرا أوغائبا فهو المهيمن على ذلك كله…! وليس كما يفهمه البعض إن الإمامة أو الخلافة مهمة سلطوية دنيوية أو إختصاص بشري منحصر في إدارة شؤون مدينة أو دولة.

ومع خذلان الأمة وتقاعسها عن نصرة المعصوم واغتصاب حقه وزحزحته عن مقامه الذي جعله الله فيه ، إلا أنه لم يدع سانحة إلا واستثمرها لنشر العلم وبطرق عديدة ومحكمة وحسب ما تقتضيه الظروف ، و يتجلى هذا الأمر واضحا من خلال متابعة حركة الأئمة عليهم السلام وفي مراحل مختلفة وإن كان الإمام ليس في المركز الأول لإدارة شؤون الأمة ، وكلما أتيحت للإمام حرية أكثر جاد بعلمه على الأمة وحضارتها ومن هنا نلاحظ أن العلاقة مضطردة بين حرية الأمام وإرتقاء الأمة حضاريا والعكس صحيح.

ويبدو هذا من خلال ملاحظة صعود الخط البياني للحضارة الأسلامية الى الذروة منذ اليوم الأول لهجرة الرسول الأعظم والى أول يوم من بداية الغيبة الكبرى للإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه ومن هذا التاريخ تحديدا بدأ انحدار الحضارة الإسلامية وتمزق الأمة وضياعها.! ولو تم حساب فترة الحضارة الإسلامية منذ بداية هجرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله الى غاية سقوط بغداد على أيدي المغول عام 656 هجرية لوجدنا أن نصف هذه الفترة تماما هي بداية الأنحدار والسقوط والتي تتزامن مع تاريخ الغيبة الكبرى عام 329 هجرية… وهذا معناه أن غياب هذا الوجود المقدس الراعي لهذا الكيان الحضاري يشكل سببا رئيسا لهذا التقهقر العجيب والسريع الذي أصاب الأمة…! ومع ذلك استمرت عنايته المقدسة بالمؤمنين والمخلصين من العلماء الربانين والرسالين والتي نلمس آثارها في حفظ الشريعة المقدسة ودفع البلاءات والكوارث عن الأمة….! مما دفع اتباع المعصوم وانطلاقا من فهمهم

لدور العلم في الحضارة الى إقامة حواضرهم العملية أينما حلوا وارتحلوا ومنها حاضرة الأزهر الشريف والقيروان والنجف الأشرف وقم المقدسة وسامراء وجبل عامل والإحساء والبحرين وغيرها…!

ومرورا بشكل سريع على مواقف المعصوم في بعض مراحل تاريخ الأمة بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله ، نجد أن الأئمة جميعا إبتداء من أمير المؤمنين علي بن ابي طالب سلام الله عليه ومقولته الشهيرة في رحبة مسجد الكوفة ( إسألوني قبل أن تفقدوني ) والى آخرهم الأمام المهدي بن الحسن عليهم صلوات الله وسلامه كانوا محور الحضارة وجذوتها التي لا تنطفأ على الرغم من ممارسات التضيق والحصار والتعذيب والقتل بحقهم ، ومع أن الذي وصل للأمة من العلم كان نزرا قليلا إلا أن الإنسانية استفادت ولاشك منه لبناء حضارتها القائمة اليوم.

فإذا كانت الحضارة الإنسانية قد وصلت الى ما هوعليه اليوم بقليل من العلم فكيف سيكون الحال اذا كان المعصوم رائدها وقائدها؟ وهو الذي ( يمسح على رؤوس الخلق فيجمع عقولهم..) كما ورد في الروايات عن أهل بيت العصمة عليهم السلام. هذه الدولة الحضارية العزيزة الكريمة المنتظرة حتمية الوقوع والحدوث بلا شك ولاريب ، ولم يأتي هذا الإيمان بحتمية وقوعها من خلال التسليم للروايات والتصديق بها فحسب وإنما جاء انسجاما مع الفطرة الإنسانية السليمة والفهم الواعي والعميق للهدف الإلهي من الخلق.

*[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات