تشهد منطقتنا صراعا محتدما بالأحداث منذ الربع الأول من القرن العشرين, وأستمر هذا الصراع منذ بدايات العصر الكولونيالي (الإستعماري) الجديد على الوطن العربي وإلى هذه اللحظة, وإلتهبت هذه المنطقة بنيران أحداث كثيرة ، قادتها دول كبيرة من أجل الثروات الطبيعية بالدرجة الأولى..وفي مقدمتها النفط!
الحدث العالمي الكبير المتمثل بإنهيار المعسكر الشرقي (الإتحاد السوفيتي سابقا), وتسيد الولايات المتحدة الأمريكية قطبا أوحدا, دفعها الى محاولة إحكام قبضتها على هذه المنطقة أكثر فأكثر, ومع العلم أن المعسكر الشرقي كان يمثل في حقيقته العدو الوهمي الذي كانت تستخدمه الولايات المتحدة لتوحيد صفوف شعبها, وحصولها بعد ذلك على التأييد الشعبي المعنوي في حربها الباردة مع (العدو!) السوفييتي..
هذا الإنهيار وضع الولايات المتحدة في موقف صعب جدا أمام شعبها, حيث أنها خسرت قوة التوحيد الشعبية الوحيدة, فكان لابد من صناعة عدو وهمي تقنع شعبها بضرورة محاربته, لتوحد الصفوف مرة أخرى!
العدو البديل الذي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية تصديره الى شعبها وشعوب العالم المتحضر هو: الإسلام الراديكالي المتطرف..لذا فإن ماكنة الإعلام الضخمة التي تملكها أمريكا بالدرجة الأولى, عملت وبجهد على خلق جو نفسي وفكري عام معاد للإسلام..فكانت أحداث تهديم البرجين القشة الكاسرة لظهر البعير، وكانت المسوغ (الشرعي!) أمريكيا, لشن حملة على ما أسموه (محور الشر).
تطور الأحداث في السنوات العشر الأخيرة, وخاصة بعد إحتلال العراق, وإسقاط أول حجر من أحجار الحائط الدكتاتوري السلطوي الذي يحكم العرب, تبعها تغلغل الفكر السلفي المتطرف في كل مفاصل الحياة المدنية للشعوب العربية..وبقية المحور الغربي المتمثل بأمريكا وبريطانيا, وبدرجة أقل فرنسا, مع دفع واضح من قبل الدولة العبرية, يسعون جهدهم لكي يكون الإسلام السياسي هو الخراب, بل صوِّرَ انه الطاعون الزاحف على الحريات المدنية التي بدأت الشعوب العربية (بإستنشاقها!), كل ذلك أدى الى تعاظم دور التنظيمات السلفية السنية المسلحة, والتي تبنت في مقدسات أفكارها نمطية القتل والتصفية الجسدية..
الحرب الأخيرة التي أرادت الولايات المتحدة الأمريكية فيها أن تحسم صراعها مع إيران ومن خلفها روسيا, بالقضاء على العضد الإيراني (سوريا), كشفت وبشكل عن تقارب واضح ومكشوف بين الولايات المتحدة, وتنظيم القاعدة الإرهابي, وأرادت أمريكا هذه المرة أن تستخدم تكتيكا جديدا في حربها ضد إيران (محور الشر), وذلك من خلال الإعتماد على القاعدة, كمقاتل بالنيابة عن المشروع الأمريكي, إضافة الى أن القاعدة لها أجندة طائفية وعقائدية واضحة جدا, مع العرض أن القاعدة مسيرة من قبل أجهزة المخابرات السعودية، أكثر من كونها تابعة أو مسيرة للجانب الأمريكي أو الإسرائيلي, والشواهد والأدلة من الكثرة بحيث أننا لسنا بحاجة الى عرضها هنا.
المعارك التي حصلت في سوريا, والتي اشتركت فيها أطراف رئيسية وثانوية, إنتهت بتنازل مهين وغريب نوعا ما من الولايات المتحدة ومحورها الذي تركها وحيدة, بِدءاً ببريطانيا, فكانت صفعة إيرانية واضحة, جعلت أمريكا تجثو على ركبتيها, غير مصدقة من هول هذه الصفعة, هذه الصفعة التي كان لروسيا والصين وقرار الفيتو الذي حسم الموقف لصالح سوريا, دورا مهما في إيقاف التطورات الحاصلة في هذا السيناريو, بل كانت تمثل العامل الأهم في إرسال رسالة الى القطب ألأوحد: انكَ لم تعد أوحدا بل هنا شركا..
هل انتهت المعركة عند هذا الحد؟ لا أظن ذلك..هل ستتوقف إسرائيل فاسحة المجال للبعبع النووي الإيراني أن يلتهم مجرة درب التبانة؟! كذلك لا أظن ذلك.. وهل سيتقبل الكبرياء الأمريكي المتغطرس هذه الصفعة التي جعلته يجثو ذليلا متصاغرا؟كذلك لا أعتقد ذلك.
قبل اسبوع قرأت مقالا بعنوان: ” قائد الظل- قاسم سليماني، رجل إيران الأقوى في الشرق الأوسط ” للكاتب ديكستر فيلكينز على موقع (نون بوست)، حاول الكاتب في هذا المقال مدفوعا بتفكير إستراتيجي ممنهج الى تصدير عدد من الأفكار, هذه الأفكار أثارت إنتباهي, فقد جاءت ممنهجة لحَدَثيّة مستقبلية, أي أنها كانت عبارة عن قراءة يقينية لما سيحدث في المنطقة..الإشارات ما بين السطور في هذا المقال, بينت وبشكل جلي أن هناك عدوا وهميا جديدا سوف يظهر على الساحة الدولية, وهو الذي ستحاول قوى الغرب وأولها أمريكا, أن تصدره في المستقبل القريب, وسيكون العدو هذه المرة هو العدو الإسلامي ( الشيعي) تحديدا, أي أن هناك تغييرا في إستراتيجيات التعاطي مع الإسلام السياسي من قبل الغرب, فبعد أن كان الإسلام بوجهه المتشدد, وبشكل عام, هو العدو, سيصبح الإسلام السياسي الشيعي الآن هو العدو الحقيقي, ومصداق ذلك هو الإتحاد الغريب الذي كان خفيا, والآن أصبح علنيا ما بين التنظيمات السنية المتشددة وعلى رأسها تنظيم القاعدة, وما بين قوى الغرب بمعية الكيان المدلل إسرائيل.
في المقال المذكور, حاول الخطاب الأمريكي أن يعطي إشارة خفية الى تنظيم القاعدة: أن الذي أفشل مشروعنا المشترك بالقضاء على النظام السوري هي مجموعة الأربع الشيعية ( إيران, لينان حزب الله , سوريا, والعراق)..في محاولة من الجانب الأمريكي لإعطاء ضوء أخضر لتنظيم القاعدة لشن هجمات إنتقامية في كل من العراق ولبنان (الجنوب), وأعتقد في المستقبل القريب ستكون الضربات الإرهابية موجهة نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية, كعملية ثأرية ظاهرها القاعدة وباطنها الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن جانب آخر, التحرك الإسرائيلي المحموم في المنطقة هذه الأيام, وبالأخص مدير جهاز الموساد, بزيارته الأخيرة لتركيا ولقائه لمدير مخابراتها, لتكوين تنسيق جديد, ناهيك عن الدعوة المباشرة التي وجهت من قبل الحكومة الإسرائيلية الى عدد من الشخصيات الحكومية والسياسية رفيعة المستوى في المملكة العربية السعودية, لزيارة تل أبيب وعقد إجتماعات ثنائية بين الطرفين..
إذا من قال أن الحرب إنتهت فهو واهم..وقد يسأل البعض: هل لمظاهر الوداعة والطيبة التي ظهرت في سلوك الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني تجاه الولايات المتحدة, هي بداية التصالح الواقعي وطي صفحة الماضي؟
أجيبه: أستبعد ذلك!..