معايير الصحافة ومتناقضات مفهوم ديمقراطية الاعلام في الجمهورية الثالثة
المعرفة هي القوة: لينين
بوصفها “المتوسط” كوسيط هام لكشف القيم الدلالية، تلعب وسائل الإعلام كمصدر مباشر للتنمية المعلوماتية بهدف الوصول لمعرفة الحقيقة ونشرها، دورا مؤثرا في حياة المجتمع ويقظته الفكرية والثقافية والوطنية. أيضا “عامل” هام للرأي العام، الذي يشاركها صناعة الحدث بنشاط في مجالات مختلفة، خاصة الاحداث السياسية والثقافية والمجتمعية والمتعلقة بالمصالح الاقتصادية العامة. يتم ذلك ليس فقط من خلال التقارير والتعليقات في الصحف أو بث الأخبار على شاشة التلفزيون. أيضا، من مشاهدة الوثائق التسجيلية التلفزيونية والأفلام التي تحمل رسائل سياسية تقوم بدور هام في تشكيل أو تغيير الرأي العام حتى في مناقشة قضايا المحرمات الاجتماعية.
في أغلب الدول المتحضرة ينص القانون الأساسي على ما يلي: “حرية الصحافة وحرية النشر في وسائل الإعلام المقروء والمرئي والسموع مكفولة، ويحضر تشديد الرقابة عليها”.. ويعمل على هذا المبدأ آلاف الصحفيين دون رقابة لإحاطة السكان بما يجري في الحياة العامة للدولة والمجتمع، بما في ذلك الامور البالغة الخطورة، كالسياسية والامنية، الا في العراق، فالامر مختلف تماما.
لا أحد يستطيع أن ينكر بأن معظم وسائل الإعلام في بلدنا تتأثر بسلوك ومواقف اصحاب السلطة وقراراتها السياسية المثيرة للجدل. فلا عجب اذن أن مصطلح “ديمقراطية وسائل الإعلام” الذي روج له أصحاب السلطة في مرحلة لا وجود فيها لآليات موضوعية رقابية ومجتمعية ومادية تكفل تحقيقه قانونيا لحد الساعة. فبقي كما تؤكد الوقائع والمواقف السلوكية، شعارا ساذجا، لا قيمة له في ألاوساط العامة وفي المؤسسات الاعلامية والمنظمات الاجتماعية.
السؤال الذي يطرح نفسه على ضوء المتغيرات الناتجة بشكل مستمر عن طبيعة السلطة السياسية وهيكلها الطائفي الذي يتناقض بالاساس مع مفهوم الديمقراطية: إذا كانت “ديمقراطية وسائل الإعلام” يمكن أن تكون ديمقراطية على الإطلاق، ألا ينبغي أن نتحدث بشكل واضح عن تسلط الاحزاب على وسائل الإعلام؟ والسؤال الثاني: “من هي أصلا وسائل الإعلام الديمقراطية هذه؟
المشهد الإعلامي العراقي في منهجه واسلوبه في السنوات الأخيرة لما بعد الاحتلال، لم يعد كما كان معروفا في الخمسينيات والستينيات، إعلاما وطنيا ملتزما نوعما. ولسوء الحظ، أصبح العديد من وسائل الاعلام يخضع إلى حد كبير لمؤسسات حزبية فاسدة “كارتيلات” احتكارية مافيوية تابعة لمتنفذين في أجهزة الدولة واحزاب السلطة وشركائهم، ولم يعد هناك الا قليل من دور الصحافة والنشر والاعلام المستقلة. ومع مرور الوقت وبسبب الضغط التنافسي المتزايد، أصبح، على النقيض من جوليان اسنج “Julian Paul Assang مؤسس موقع “وكيليكس” الذي ضحى بحريته ومستقبله من اجل كشف الحقيقة وشرف المهنة. مئات الصحفيين العراقيين العاملين في وسائل الاعلام المختلفة أبواق لتلك المؤسسات وأصحابها على حساب الحقيقة وشرف المهنة وأخلاقياتها. وتم شراء الضمائر وملء المحفظات من أموال الفاسدين بشكل ملحوظ على حساب المبادئ والقيم الوطنية والمجتمعية، وايضا على حساب معاناة الصحافيين والاعلاميين الشرفاء الذين يمثلون الرأي العام الآخر في المؤسسات الاعلامية النزيهة على قلتها.
لكن أي نوع من الناس، هم، هؤلاء الذين يسيطرون على مراكز وشبكات الاعلام العراقية التي تشكل مصدرا هاما للرأي؟.. فهل يمكن لصاحب الامتياز الاحتكاري “المليونير” وضع نفسه في مخاوف واحتياجات المواطن العادي؟ وهل يمكنه أن يحكم على الاوضاع بشكل موضوعي، ويكون الصالح العام أكثر أهمية له من نجاحه المالي؟. والسؤال البديهي ايضا: هل هناك شخص واحد من المخيرين للعمل على نمط التوظيف لا على اساس مفردات المهنة وسلوكياتها الاخلاقية، مستعد لان يتنازل عن جزء مما يكسبه من رواتب وامتيازات أو يتحمل جزء من المسؤولية القيمية لأجل كلمة حق واحدة تتعلق بمعاناة المسحوقين والصعاليك الذين يتسكعون بين اماكن القمامة دون مأوى؟.. اذن ما يهم هؤلاء جميعا، ليس مسألة الرأي والمصلحة العامة. انما هيكل الملكية للمؤسسة ورئيس إدارتها الذي لا يسمح لموظفيه بتمثيل أية رأي مخالف حتى بشكل مستقل نسبيًا”.
بالطبع، يعرف كل محرر الموقف السياسي الأساسي لرئيسه – وهذا بدوره اي “المحرر” تم تعيينه أيضا وفق معايير اختيار معينة. في نهاية المطاف، هناك دوامة من التبعيات الناتجة عن مفهوم الذات والامن النفسي، عن الاحوال السيكولوجية وليس المعايير الاخلاقية للبشر. فلا يوجد محرر يريد ان يكون غبيا، أو لا يريد أن يمثل شيئا ما قد يكون لصالحه. هذه الاشكاليات ومتناقضاتها، أدت الى تنافس كبير وخوف من الوجود بين الصحفيين العراقيين ـ كما انتج اعلاميين أنانيين لا يفكرون إلا في مستقبلهم ورفاهية أسرهم دون مبالاة للواقع العام. اذن لا تأثير “للديمقراطية الاعلامية” الوهمية على هذا السلوك، بقدر تأثير رأس المال السياسي “كارتل الرأي متعدد المليونيرات” الذي بدا طاغيا كشأن المنظومة السياسية للدولة العميقة وتفسيرها لمفهوم الديمقراطية؟. إذ كلاهما يستعمل السلاح ضد معارضيه بطريقته. وكلاهما بإسم الديمقراطية الزائفة قام بملاحقة واعتقال وقتل اصحاب الرأي الآخر من الصحفيين واغلاق مكاتب العديد من المؤسسات الاعلامية “المرئية والمقروءة” النزيهة وتحطيم معداتها.
بالتأكيد، للمجموعات الديمقراطية الإعلامية؟ ذات المصالح الاحادية الجانب في العراق، تأثير كبير على السياسة. ولا يمكن للسياسة أن تنفصل عن الرأي الذي تسيطر عليه هذه الوسائل الاعلامية وتحدد مساراته في الاتجاه الذي تريد. لكن اذا كانت الأحزاب المتسلطة مثلا ترغب في الحصول على نتائج انتخابات قياسية مضمونة، فبالكاد سيدافع الإعلام التابع لها عن الإجراءات الاصلاحية، الادارية والمجتمعية، التي يرفضها “رأس المال” تأمينا لمصالحه ووجوده بشدة. وقدمت حملات الانتخابات الاعلامية منذ كانون الثاني 2005، من بعد “مجلس الحكم” الذي أسسه الحاكم “بريمر” في تموز 2003، انتهاءً بمرحلة أياد علاوي لرئاسة مجلس الوزراء من 1 حزيران 2004 لغاية نيسان 2005 انتهاء بانتخابات عام 2018 مثالاً صارخا لدور إعلام الاحزاب في ذلك.
اذن، اجراءات الإصلاح، التي كلفت مئات القتلى وآلاف الجرحى منذ 2003 ولغاية اليوم، لم يكن مقبولاً بالأساس لدى معظم احزاب السلطة ووسائل اعلامها، لانها تدرك، أن تحقيق ذلك سيعيق تمويل تكلفة الأجور الإضافية لنظمها المؤسساتية ـ السياسية والميليشياوية والبشرية، كما سيضعف قدرات احتكاراتها إلى حد كبير. لذلك، يتم تسويف مطالب الشعب بحجج زائفة لا صلة لها بمزاعم وادعاءات صاحب السلطة وماكنته الاعلامية. النتائج معروفة جيدا: فنظام الحكم غرق حتى النخاع بالتناقضات السياسية والدستورية والقانونية، وليس باستطاعته الخروج منها بسهولة مع او دون ماكنته الاعلامية.
ان استمرار مواجهة السلطة لوسائل الاعلام النزيه والحد من عمل الصحفيين الشرفاء نقل الحقيقة، لا يدع مجالا للشك بأن “الديمقراطية الإعلامية” لا وجود لها بالمطلق. ولا اساس أصلا لوجود حركة إعلامية قوية مستقلة، تجعل من الصعب على وسائل الإعلام التلاعب بالرأي العام. بيد أن ديمقراطيتنا الإعلامية لم تواجه اختبار كهذا، ولم تتوقف عن تحريف أو إخفاء الحقائق عن الرأي العام. وفي النهاية، في الوقت الذي بامكان المحرر البقاء بعيدا عن محاولة نسف الوقائع الحقيقية، تقديم نفسه، حين يحسن اختيار كل موضوع حساس بمهارة. ولا يقع تحت تأثير “كارتيل” الدعاية المعبأة بشكل احترافي من قبل مؤسسة الاحزاب الاعلامية المتنفذة، التي توفر الحماية للحزب بدل المشروع الوطني وأهميته بالنسبة لابناء المجتمع.
ويبدو مع هبوط المعايير المهنية والاخلاقية وآفاق حرية التعبير الحقيقية وتحويل مسارها المهني بالتوازي مع الدفاع عن مفهوم “الديمقراطية الإعلامية”، أو وهم “النيوليبرالية الإعلامية” زوراً. فأن ديمقراطيتنا الإعلامية لا بديلا لديها غير التعبير عن رأي الطبقة السياسية ونظام المحاصصة الطائفي الذي اغرق البلد باسباب المشكلات وتنوعها بالضد من استكمال بناء الدولة على اسس صحيحة.