23 ديسمبر، 2024 7:36 م

المعرفة العلمية بين الأحدية والتعددية المنهجية

المعرفة العلمية بين الأحدية والتعددية المنهجية

” التفكير يسبق العلم الذي لا يفعل شيئا سوى استخدام أكثر من منهج. الانسان لا يمكن أن يعيش وسط الأشياء دون أن يصنع منها أفكارا يضبط من خلالها سلوكه”1
لا يمكن بناء العلوم دون حدوث ثورة في المناهج ويستحيل تحصيل المعرفة دون الاستناد الى قواعد وأسس ومراجع واضحة ومتنوعة ويتعذر على العقل تفسير الكون وإنقاذ ظواهر الطبيعة وقراءة الواقع والتكيف مع المتغيرات اذا لم ينطلق من رؤية متكاملة للأشياء ويتسلح بالعدة الإبستيمولوجية الضرورية والمعاول النظرية الماسحة وينضج في المخابر التجريبية الكافية.
الأصل الاشتقاقي اللغوي لكلمة المنهج Méthode هو الجذر الاغريقي ميتودوس μ?θοδος والذي يفيد الاستمرارية والبحث عن طريقة بغية تحقيق شيء معين ويتكون اللفظ من جزئين: ميتا meth أي مابعد وما يتبع ويستمر ويلحق ، وأدوس odos هو الدرب والطريق والوسيلة.
اذا كان رونيه ديكارت قد ترك خطابا حول المنهج من أجل حسن قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم2 وإذا كان فرنسيس بيكون قد جعل من التجربة معيار التثبت من صدق الإفتراضات المستخلصة من الملاحظات ومرحلة منطقية بحثية تسبق صياغة النتائج وبلورة القوانين3 فإن الحقول التي يتنزل ضمنها المنهج لا تقتصر على الرياضيات والمنطق وعلوم الطبيعة والفكر الفلسفي الذي يحرص على انتاج خطابا متماسكا وانجاز أفعال متساوقة بل يشمل جميع القطاعات ويحضر في كل المهن والحرف ولذلك يتراوح المنهج في العلوم الاجتماعية بين الكم والكيف ويساعد في السياسة على تفسير التحولات واتخاذ القرارات ويمثل تقنية في التأويل بالنسبة الى الفنون والآداب ووظيفة في علاقة بموضوع وبرمجة موجهة نحو تحقيق أمرا ما في الإعلامية.
ثمة من يعتقد أن المنهج منفصلا عن الأبحاث التي يقوم بها العقل البشري ويأتي في مرحلة سابقة كمرجع نظر ومجال تأطير ومنطق للكشف والتوجيه ولكن هناك من يري محايثة المنهج المعرفي للتجربة والتصاقه بالمعالجة العلمية والفعالية التأويلية وتتغلغل في سيرة الباحث وحله وترحاله. لكن هل المنهج هو بيداغوجيا بحثية أم منطق للكشف العلمي؟ هل هو صنعة الإبستيمولوجي وعدته الاجرائية أم أحد ركائز نظرية المعرفة وحلقة أساسية من حلقات بناء الرؤية العلمية؟
يخلصنا المنهج من سلطان الفكرة الأولى ويمنعنا من الخضوع الى هيمنة النظرية ويمكننا من اعادة بناء العلاقات بين الظواهر والعودة الى الظواهر والالتزام بالوقائع وتبديد وهم المعرفة المباشرة ويساعدنا على تفنيد الشفافية مع الذات ومن الانتباه الى غير المنتظر والطارىء والمباغت والعرضي والتخلص من كل أشكال العفوية وضروب الاغتراب والمواقف اللاواعية.
كما يمنحنا المنهج القدرة على التحرر من ضغوطات المطالب اليومية وإيديولوجيا المهنة ويقدم لنا الوسائل الضرورية للضبط والترتيب الذي يؤهلنا للدخول الى مدينة العلوم والجماعة العارفة.
يسمح المنهج بإحداث قطيعة مع المواضيع الممنوحة من قبل الموقف الطبيعي ويتخطى عتبة الحس المشترك ويقوض الأساس الي يستند اليه وهم البداية المطلقة وذلك بالذهاب من المعقول الى الواقعي ومن الواقع المتعين الى الواقع الموضوعي ومن المعرفة العامية الى المعرفة العلمية ويترك الوقائع تتحدث بنفسها والظواهر تظهر والأشياء تمنح شيئيتها للملاحظ ويعمل على تفسير الطبيعي بالطبيعة والإنساني بالإنسان والتثبت من تطابق الفرضيات للتجارب والنتائج للمقدمات.
والحق أن المنهج يتغير بتغير الموضوع الذي يقوم بمعالجته، فهو يتصف بالموسوعية ويشتغل بطريقة دورية دون الوقوع في التكرار وينطبق على مجلات عديدة ويستعمل الكثير من المعاني. وقد بيّن أدغار موران أن المنهج الملائم لدراسة الطبيعة هو المنظور الفيزيائي وان المفاهيم المركزية هي النظام واللاّنظام والنسق والمعلومة، في حين أن الحياة هي مدار البيولوجيا ويتم التطرق بالخصوص الى الكائن الحي من جهة أصله ووظيفته وطرق اشتغاله وتكيفه مع الكون. بيد أن المجال البيولوجي وكل ما يتعلق بالشأن الانساني فتتناوله الابستيمولوجيا المتعقدة من وجهة نظر متعددة ومتشابكة وتدرس نظرية المعرفة الفلسفة والعقل والحقيقة والمعرفة والمنطق والعلم بالإحالة الى مبادىء كلية وضمن اطار نشاط عرفاني يلم بالتفاصيل ويدرك الجزئيات. هكذا تتشكل المعرفة العلمية سواء في الطبيعيات أو الانسانيات أو المنطقيات من التأليف بين المهارة والنشاط العرفاني والإدراك والكفاءة وتبدو كظاهرة متعددة الأبعاد تجمع بين الفيزيائي والبسيكولوجي والسوسيولوجي والبيولوجي وتنتجها مسارات طاقوية وكيميائية وإلكترونية وكيميائية وفيزيولوجية وعصبية وألسنية ومنطقية وثقافية ووجودية وفردية وجماعية وشخصية. غاية المراد أن المنهج يحرص على تفادي المعرفة المريضة والأفكار المشوهة ويسعى نحو بلوغ الحياة الصحية للأفكار وذلك من خلال تنظيمها وفهم لغتها وأشكال نمذجتها وينابيعها ويعالج جدلية الانية والغيرية والهوية والعالمية بحثا عن انسانية الانسانية ضمن اتيقا الفهم والتفاهم4 .
لعل غاستون باشلار في عقلانيته المفتوحة قد حاول تجسيد التظافر بين الاختصاصات وتعدد المقاربات وتحالف المنهجيات وذلك حينما أرسى حوارا جدليا بين المثالية والاصطلاحية والصورانية والوضعية والتجريبية والواقعية والمادية التقنية في اطار العقلانية التطبيقية5 . هل يمكن الوصول الى الحقيقة دون اتباع منهج؟ أليس المنهجية تكلف زائد عن اللزوم يسقط العقل في نوع من الصرامة الشكلانية والانضباط الصارم الذي يمنعه من التفكير الحر والنقد الجذري؟
بيد أن المنهج في الرؤية الفلسفية المعاصرة ليس الدرب المؤدي الى الحقيقة دائما والحقيقة ليست بالضرورة ثمرة عمل منهجي دقيق. هذا ما بيّنه جورج هانس غادامير في كتابه الشهير الحقيقة والمنهج6 والذي لم يضع الحقيقة في مواجهة المنهج ولا هو قد تعدى الى التخلي عن المنهج في البحث العلمي وإنما كشف عن أن مصطلح المنهج ان كان يشتغل بطريقة محكمة في العلوم الطبيعية والصحيحة فإنه لا يتناسب مع العلوم التي تعتني بالشأن الانساني وخاصة في مجالات اللغة والاقتصاد والتاريخ والمجتمع والنفس وغير متطابق مع مطلب الشرعية التي تبحث عنها العلوم الانسانية. عندئذ دعا الى اعتماد عدة مناهج توافق الظاهرات المدروسة وحرص على توسيع مجال بحث منهج التأويل. هنا تبدو العلاقة مع الموضوع المدروس حاسمة وجوهرية وهذه العلاقة لا تطرح التمايز والجدة المنهجية وإنما المشاركة في التراث والتقاليد واعتماد الأحكام المسبقة والحس السليم كشرط للفهم. من هذا المنطق يتخذ غادامير قرار خطيرا بضرورة إلقاء على عرض الحائط مصطلح المنهج كما استخدمه المحدثون وذلك لوقوعه في التجريد السيء قبل نفاذه الى الشيء ولفت النظر الى أهمية مراجعة التصور الاغريقي عند أرسطو الذي ينطلق من تجربة الانسان كما هو كائن في العالم والرجوع الى الموضوع المدروس ذاتها بغية أن يحدد بنفسه المنجية الملائمة للنفاذ اليه. في هذا السياق نجد غادامير يتساءل:” فيما يتعلق بالنزعة المنهاجية المعرفية المهيمنة يتعين أن نطرح السؤال التالي: هل فصل فعلا نشوة الوعي التاريخي دراستنا العلمية للماضي عن علاقتنا الطبيعية به؟ وهل أن الفهم الذي تتضمنه العلوم الانسانية يفهم نفسه بشكل صحيحعندما ينزل تاريخيته كلها الى مرتبة أحكام مسبقة يتعين علينا أن نتحرر منها؟ أو هل تشترك الدراسة العلمية غير الخاضعة للأحكام المسبقة، أكثر مما تدري، مع ذلك الانفتاح والتأمل البسيطين اللذين يحيا فيهما التراث ويحضر فيهما الماضي؟”7
مقتضى القول أن المنهج الحقيقي هو الذي يسمح للشيء بأن يعرض منطقه الخاص به وأن الفهم التأويلي هو المنهج الذي يحقق هذا الغرض لبيانه التجربة الكونية التي يشيدها الكائن في العالم. فهل الأمر يقتضي منهجية بلا منهج أم منهج بلا منهجية؟ ألا تقتضي المعالجة العلمية الارتقاء من الوحدة الى الكثرة والتحول الإبستيمولوجي من المنهج المطلق الى المناهج المتقاطعة؟
الهوامش:
 [1] Durkheim Emile, les règles de la méthode sociologique, in le métier de sociologue, préalables épistémologiques, Moution éditeur, Paris, Lahaye, deuxième édition, 1973. p.126.
 [2] R. Descartes, Discours de la méthode, in Œuvres et lettres, textes présentés par André Bridoux, Bibliothèque de la Pléiade, NRF, Gallimard, 1953.
 [3] Francis Bacon, Nouvum Organun (1620), Introduction, traduction et notes par M. Malherbe et J.-M. Pousseur, Paris, PUF (Epiméthée), 1986.
 [4] Edgar Morin, la Nature de la Nature, Edition du Seuil, Paris, 1977.
 Edgar Morin , la Vie de la Vie, Edition du Seuil, Paris, 1980
 Edgar Morin, L’humanité de l’humanité, L’identité humaine, Edition du Seuil, Paris, 2001
 Edgar Morin, introduction à la pensée complexe , ESF éditeur Paris, 1990.
 Edgar Morin , Les Idées , Le Seuil, Nouvelle édition, coll. Points, 1995.
 Edgar Morin ,Éthique , Le Seuil, Nouvelle édition, coll. Points, 2006.
 [5] G. Bachelard, Le rationalisme appliqué, édition PUF, Paris, 1966.
 [6] Gadamer H. G, vérité et méthode, Edition du Seuil, Paris, 1996.
 [7] هانس جورج غادامير، الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة د حسن ناظم وعلي حاكم صالح ، دار أويا للنشر والتوزيع والتنمية الثقافية، طرابلس، ليبيا ، الطبعة الأولى، 2007. ص.389.
المصادر والمراجع:
Edgar Morin, la Nature de la Nature, Edition du Seuil, Paris, 1977.
 Edgar Morin , la Vie de la Vie, Edition du Seuil, Paris, 1980
 Edgar Morin, L’humanité de l’humanité, L’identité humaine, Edition du Seuil, Paris, 2001
 Edgar Morin, introduction à la pensée complexe , ESF éditeur Paris, 1990.
 Edgar Morin , Les Idées , Le Seuil, Nouvelle édition, coll. Points, 1995.
 Edgar Morin , Éthique , Le Seuil, Nouvelle édition, coll. Points, 2006.
 Francis Bacon, Nouvum Organun (1620), Introduction, traduction et notes par M. Malherbe et J.-M. Pousseur, Paris, PUF (Epiméthée), 1986.
 G. Bachelard, Le rationalisme appliqué, édition PUF, Paris, 1966.
 Gadamer H. G, vérité et méthode, Edition du Seuil, Paris, 1996.
 P. Bourdiieu. J.-C. Chamboredon. J.-C. Passeron, le métier de sociologue, préalables épistémologiques, Moution éditeur ,Paris, Lahaye, deuxième édition, 1973.
هانس جورج غادامير، الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة د حسن ناظم وعلي حاكم صالح ، دار أويا للنشر والتوزيع والتنمية الثقافية ، طرابلس، ليبيا ، الطبعة الأولى، 2007. ص.389.

كاتب فلسفي