4 نوفمبر، 2024 9:24 م
Search
Close this search box.

المعارضة موجودة حتى في السماء

المعارضة موجودة حتى في السماء

لم يعرْ السياسيون والمفكرون والمؤرخون اهتماماً جدياً لحقيقةٍ سياسيةٍ مهمةٍ ترسختْ منذُ بدءِ الوجودِ البشري في السماء قبلَ ولادتِها على كوكبِنا الارضي .فالحقائقُ القرانيةُ تشيرُ الى نشوءِ اولِ معارضةِ سياسيةٍ وفكريةٍ وعقائديةٍ في السماء حيثُ تمثلتْ في معارضةِ ابليس لمفهومِ السجودِ للانسان الذي خلقهُ اللهُ وطالبَ الكائناتِ التي شهدتْ ذلكَ الحدثَ الاعجازي بالسجودِ لهذا الكائنِ والمخلوقِ الجديد . صحيحٌ وردتْ اشاراتٌ من بعضِ هؤلاءِ الى هذا النوع الحضاري من المعارضةِ لكنّها مرتْ مرورَ الكرامِ دونَ ايِّ تمحيصٍ او قراءةٍ سياسيةٍ استيفائية .والملاحظُ ان المعارضةَ التي طُرحت ابانَ خلقِ الانسانِ في السماءِ كانتْ على نوعينِ الاولى تمثلتْ في موقفِ الملائكة الذي يمكنُ ادراجَهُ تحتِ مسمى المعارضةِ الايجابيةِ حيثُ استفهمَ الملائكةُ عن خلقِ الانسانِ انطلاقاً من تجاربهِم المريرةِ السابقةِ مع هذا الكائنِ او ربما كائناتٍ مماثلةٍ له . فمن هنا نرى كيفَ أجابَ اللهُ ملائكته ورعاياه، لم يعاقبهم ولم يأمر بحبسهم أو يُفنِهم من الوجود، وهو القادر قولاً وفعلاً، لمجرد أنهم قدّموا شيئاً من السؤال المشروع والذي لم يفهمه ربنا منهم على أنه اعتراض لمجرد المعارضة، بل هو اعتراض استفهامي يتمنى الصلاح وليس الإفساد والخراب في الأرض ومن فيها.فجاءهم الرد الالهي شفافا وهادئا دون اي امتعاض او حدية او تعالٍ حيث قال لهم البارئ (اني اعلم ما لاتعلمون) أي هو أعلم بالمصلحة في خلق هذا الصنف مقابل المفاسد التي ذكرتها الملائكة لأنه سيجعل فيهم الأنبياء، ويرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء والصالحون، وغيرهم. وبهذه الكلمات انتهت هذه المناقشة الحوارية الرائعة بين الخالق والملائكة وسجد الملائكة لعظمة الخالق وعلمه ورحمته.ويبدو ان المشهد الحواري لم يقف عند هذا الحد بل طُرحت معارضة سلبية اخرى من نوع اخر حيث جاء اعتراض ابليس ورفضه الامتثال للاوامر الالهية عندما دعا الخالق الملائكة ومن معهم للسجود الى المخلوق الجديد حيث يعتقد ابليس انه افضل من هذا الكائن البشري الجديد!..
الخالق سبحانه وتعالى لم يعاقب ابليس على فعلته تلك بعقاب صارم يصل الى قطع الاعناق او قطع الارزاق كما تفعل اية سلطة اتجاه معارضيها لمجرد عدم الامتثال للاوامر السنية رغم انه هو الخالق والقادر والبارئ . حيث تكشف لنا هذه اللقطة الحوارية الرائعة في القران الكريم الحالة الموضوعية الشمولية  لطبيعة التعاطي الازلي بين الخالق وبين الخلائق والكائنات التي اوجدها سبحانه وتعالى .فالقرآن الكريم وعبر هذه الواقعة يكشف لنا عن لوحة فنية تاريخية رائعة تمتاز بروح رياضية هادئة وذلك في واقعة مهمة من وقائع بداية خلق الانسان وطبيعة المعارضة التي سترافقه في مسيرته الاستخلافية في الارض.فالقران يعكس لنا معصية الشيطان لأوامر الله سبحانه حينما أمره بالسجود لآدم وكيف أن الله سبحانه يسمح لهذا العاصي المتكبر أن يبدي وجهة نظره ليدافع عنها ويتطور الحديث بجواره فتظهر بواطن إبليس الاستعلائية ودواخله الشيطانية الشريرة حتى يتحول إلى تهديد مبطن وتربص حاقد بالبشرية الى اخر الزمان، يقول عز وجل: ( ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الأعراف7/ الآيات 11-16.من هذه اللوحة القرانية الرائعة نكتشف ان القرآن الكريم يعتبر أساليب الحوار مع المعارضة في أطرها الفكرية – الثقافية، والحركية – السياسية إنما هي صادرة عن طبيعة المخلوقات والكائنات وتموجاتها وتنوع حالاتها المزاجية وتأثيراتها البيئية المتعددة إضافة إلى عوامل الوراثة والوضع النفسي والكينونية الخلقية . كل ذلك يدفع هذه الكائنات إلى الانسجام النسبي مع الوضع القائم، والاختلاف النسبي أيضاً. وكما هو معلوم، فإن الإنسان بطبيعته هو مخلوق مزدوج الطاقات، متعدد القدرات، مركب الإمكانيات (نفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها)الشمس 91/8..والانسان خاضع الى مؤثرات عديدة واطر فكرية وثقافية مختلفة قد تتجه به نحو التصاعد الكمالي او قد تنخفض به نحو الانحدار التسافلي .فالمشكلة هي في واقعها لدى الانسان وما معارضة ذلك المخلوق الشيطاني تلك الا تجسيد لواقع الكائنات المخلوقة بارادة الاختيار لا بارادة الجبرية ولو أراد الله سبحانه أن يجعل الإنسان في خطى الإيمان والاستقامة لسلبه حرية الاختيار كالملائكة مثلاً، بينما خلق الله الإنسان ليكون حراً مختاراً بذاته يقول عز وجل: (َلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يونس 10/99. فهو حر في اختيار عقيدته ومبادئه وسلوكه وطريقة تفكيره وهنا تكمن ميزة الإنسان عن سائر المخلوقات ليستعين بطاقاته العقلية التي منحها الله سبحانه إليه، ويستفيد قدر استيعابه من التجارب الإنسانية الميدانية  والتدبر الروحي والعقلي بهذا الكون واسراره ليقتبس شيئا من هذه الانوار او ليحتجب وراء تلكم الظلمات .(لقد ارتبط وجود المعارضة بوجود الانسان كونها تزامنت في نشأتها مع اللحظات الاولى التي قرر الله سبحانه وتعالى ان يجعل له خليفة على الارض حيث تجسدت في ذلك الرد الاعتراضي المؤدب والحريص على الافضل الذي صدر عن الملائكة على اثر الحوار الذي تعمده الخالق عز وجل معهم عندما أوشك ان يخلق بشراً من طين وينفخ فيه الروح ليكون هو خليفته على الارض.وقد اراد الله سبحانه وتعالى من خلال ذلك الحوار تعليم الانسان قواعد ومبادئ آداب المعارضة البناءة التي تمثلت تحديداً في غاية الملائكة من الاعتراض وهو ان يكون اختيار الخليفة مبنياً على الافضل لكي لايفسدوا في الارض ويسفكوا الدماء دون وجه حق كما حدث مع المستخلفين من قبلهم والذين لايعلمهم الا الله الكامل المطلق، وتلك الغاية هي نفسها التي منعتهم من الاستمرار في الاعتراض وتسليمهم بأفضلية خلق الانسان بعد ان شاهدوا البرهان القاطع على تلك الافضلية بما أوحى الله به الى آدم عليه السلام من علم المسميات التي عجزت الملائكة عن تسميتها. وبالمقابل كانت المعارضة الهدامة قد تجسدت في خروج أبليس عن اجماع الملائكة واستمراره بالاعتراض وعدم تسليمه بأفضلية خلق الانسان على الرغم من ظهور الحقيقة ، ولكي تتحقق الحكمة الالهية من خلق الانسان واستخلافه على الارض كان لابد من وجود كل المتناقضات كالخير والشر..الحق والباطل.. الحياة والموت.. الهدى والضلال.. الايمان والكفر.. النور والظلام.. العلم والجهل.. العدل والظلم.. التقدم والتخلف.. الحرب والسلام.. الاحتلال والمقاومة.. الديمقراطية والديكتاتورية.. السلطة والمعارضة.) .والشيطان في مفهومه الرمزي يبقى عنوانا على الجانب الاخر من الانسان وهو ياتي متضادا مع الخير .فالبشرية ومنذ بداية الخليقة ولحد الان تنحو الى الاساطير التي تصور الصراع الكوني على ان انه صراع بين قوى الخير وقوى الشر. ومن هنا يرجح الفلاسفة ان التضاد الموجود في الكون وحتى في الحياة انما هو امر طبيعي حيث ان تضاد الشيطان مع الانسان يعتبر في المفهوم القيمي عنصر ضروري. وعليه فان المعارضة هي عنصر ضروري لاكتشاف جودة العطاء وجودة الإنتاج فلو لم يكن هناك موت لما كان هناك معنى للحياة ,فالحياة أنما يكون لها جمال عندما يكون إزاها موت بمعناه الفيزياوي , وكذلك فصول السنة حيث هناك تنوع وتضاد بل وهناك تنوع في توزيع الادوار في كل شؤون الحياة ومراحلها الدنيوية والاخروية . إذا بالنتيجة : ان وجود الأضداد امر ضروري لاكتشاف الاصلح والاجود والافضل يقول تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}من هنا يأتي الجواب عن السؤال لماذا خلق الله إبليس في هذا الكون انما خلقه كعامل مضاد والكائن البشري ونتيجة هذا الصراع يختار العمل الاصلح والانسب والاحسن وصولا الى الكمالات التي يبحث عنها والتي يفتقدها في ذاكرته الفطرية وصولا الى الخلود الذي تمليه عليه حقيقته الروحية الخالدة . ولانه اعطي عقلا وادراكا وجوديا – كونيا يمكن من خلاله ضبط إبليس  وضبط تزيناته ووساوسه . وهكذا يتضح لنا بصورة جلية ان الانسان والمعارضة الايجابية او البناءة بينهما علاقة طردية ازلية ولايمكن للحياة على الارض ان تستقيم بأحدهما دون الآخر .وبذلك يكون القران الكريم قدّم لنا انموذجا واقعيا من حقيقة النشاة الاولى لمفهوم المعارضة عبر تلك الصورة الحوارية الرائعة بين الخالق والمكونات الخلائقية الاخرى .  فالملائكة بحكم علقيتهم الراقية عبروا عن معارضة بناءة وايجابية فيما عبر ابليس بحكم تحجره الفكري المادي عن معارضة سلبية هدامة فيما انعكست هذه الحادثة بكل تناقضاتها على واقع الانسان ومكوناته النفسية والسيكولوجية. وومن هنا يمكن القول ان المعارضة البناءة منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام وحتى يرث الارض ومن عليها، سيظل منهجها ووسائلها وغايتها هي ذاتها في كل زمان ومكان لا تتغير او تتبدل مهما تغيرت المسميات.. فالمنهج الذي يجب تتبعه أية معارضة بناءة هو الحوار ويكون غايتها من ذلك الحوار هو الوصول الى الحقيقة بغية تحقيق الافضل والانسب للمجتمع الذي تندمج فيه، وأما وسائلها فتتمثل في الكلمة الهادفة المعبرة عن تطلعات المجتمع واماله اضافة الى  الوعي والعلم والمعرفة. ولن تتحقق المعارضة الايجابية في أي مجتمع الا اذا بدأ افراد ذلك المجتمع ممارستها مع أنفسهم قبل ان يمارسوها مع غيرهم للتخلص من عبادة الذات وحب الأنا (لايغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم) ولن يتم ذلك الا عندما تتخلص المعارضة من كل ماهو ذاتي وشخصي وتطبق على واقعها وممارساتها كل ماهو موضوعي وتغلب مصلحة الجماعة على المصالح الانية والذاتية والمكاسب الشخصية .اما الجانب الحاكم فانه يجب ان يتوائم مع حقيقة المعارضة وان يميز بين الصالح والطالح والحقيقي من المزيف والوطني من اللاوطني وان لايستخدم سياسة استعراض العضلات والمحاسبة على الكلمة وانشاء جيوش من رجال الامن والتغييب في السجون والقتل على الهوية لان الخالق سبحانه وتعالى اعطى ابليس عمرا مرتبطا بوجود هذا الكون بدلا من اللجوء الى معاقبته والاقتصاص منه لمجرد الخروج على طاعاته وعصيان اوامره. من هنا يمكن التاسيس لواقع المعارضة الحقيقية البناءة والهادفة كما هو التاسيس لواقعية الحكومة العادلة التوجيهية والتغييرية نحو سبل الخير وبناء المجتمع الانساني الرصين .وليكن الهدف من الاختلاف والمعارضة في أجواء ما أراد الله لنا في هذه الحياة لا كما يريد من يطمع لاحتكار الحياة له وحده فقط دون الآخرين من بني جنسه ووطنه. بل يجب البناء الناضج لحياة تقوم على حاكمية الاكفأ والاعدل والافضل وان تكون المعارضة توجيهية تصحيحية تستكمل التصويب وملأ نقاط الضعف وسد الفراغات وتصويب حركة الواقع وتحقيق مبادئ التكافل الاجتماعي وترشيد بوصلة الحياة نحو الافضل …

أحدث المقالات