23 ديسمبر، 2024 5:23 ص

المعارضة، رفض مبدئي ام حسد ؟

المعارضة، رفض مبدئي ام حسد ؟

ان يكون المرء معارضا لسلطة او فكر او عرف او دين او حتى عادات وتقاليد، يستلزم منه ان يبين سبب موقفه الخاص والنادر هذا. وعندما نقول موقف خاص نادر، لان ما جرت عليه سيرة البشر انهم يوافقون الشائع والامر السائد ولا يتعبون انفسهم بالسباحة عكس التيار. لانها مهمة شاقة وشاقة جدا تكلف المرء ربما حياته وبالتأكيد اذا كتب له النجاة من مقصلة الموت فلن ينجو من مقصلة العزلة والحرب النفسية والمادية حتى من اقرب مقربيه. لكن كل هذا لا يعني انه على حق لمجرد انه عارض او تحمل بشجاعة ثمن معارضته فالتحدي والجرأة والشجاعة في التصدي رغم انها صفات نادرة في الظهور الا ان ذلك لا يعني ان من يحملها على حق. فكثير جدا ممن قام بأشد الممارسات الرذيلة كان يتمتع بهذه الصفات فهل يمكن لمنصف ان ينكر شجاعة الخوارج الذين قاتلوا عليا خليفة المسلمين البطل الذي كانت تخشاه ابطال العرب والذي ينقل التاريخ ان احدهم الخارجي كان يتقدم الى جيش عدوه والرمح شاك في صدره وهو يصيح الرواح الرواح الى الجنة! وهل يمكن ان ننكر ان الانتحاري يقدم نفسه فداء لما يعتقد به حتى لو كان ما يعتقد وهما وخرافة وحتى لو كان سخافة. وقيل قديما ان الجود بالنفس اقصى غاية الجود. كثير من الطغاة كانت لهم مواقف شجاعة في نهاياتهم رغم انهم ارتكبوا ابشع الجرائم وهل اذكركم بنيكولاي تشاوتشيسكو وزوجته الذين واجها الموت بصلابة حديدية مع انه لا يشك احد في ظلمهما وحكمهما الفاسد. والامثلة كثيرة ولا اريد ان استفز مشاعري قبل مشاعر غيري بذكر طغاة واجهوا الموت بقوة.
اذن ان يكون المرء معارضا شجاعا وصلبا لا يعني ابدا انه على حق لشجاعته هذه او صلابته، بل لابد من معرفة سبب هذا الموقف المعارض. فما وراء موقف المعارضة تتوارى نوايا تكشفها سيرة المعارض وتتبدى للناس بجلاء ووضوح حين يحل هذا المعارض في موقع من كان يعارضه وسيقول عنه عامة الناس وقليلي التدبر في الشخوص بان السلطة وكراسي الحكم غيرتهم. اما اهل الفطنة والوعي فان لهم منظار آخر، هو انهم يحكمون على المعارض باسباب المعارضة التي يقدمها ومدى التزامه بها في سلوكه وحينها يحكمون عليه ويقيموه ويصدروا رأيهم القاطع به حتى قبل ان يتسنم اي موقع ولربما حتى كان لا يزال في اوج جذوة المعارضة.
المعارضة الحقيقية واصحابها المخلصون تحكمها واياهم مباديء لا يحيدون عنها تحت اي ظرف وما يستنكروه على عدوهم لا يمارسوه لانهم يرونه رذيلة عافتها انفسهم. بغض النظر عما اذا كانوا مصيبين فيما يرونه او ليس كذلك، انما التزامهم بما يؤمنون به من فضيلة ورذيلة أو حق وباطل بحسب نظرهم، هو دليل صدق ادعائهم في موقفهم المعارض. اما اذا مارسوا نفس الفعل الذي استنكروه على عدوهم فانما بفعلهم هذا تظهر حقيقة الزيف الذي يحملوه في انفسهم والذي جاهدوا على اخفائه تحت ستار معارضة الظلم والانحراف عن الانسانية، وانهم لا يعارضون لاختلاف المبادئ انما فقط لاختلاف المواقع. وما يعيرون به خصمهم اذا ارتكبوه هو ذروة العار والعرب قالت عن هذا والناس امنت بصدق ما قالت العرب حين قال شاعرهم ولا تنه عن خلق وتاتي مثله عار عليك اذا فعلت عظيم. فمعارضة كهذه ليست شرفا تستحق الفخر بتاريخها المعارض بل هي عار ما بعده عار، فضلا ان تكرم لاجل هذه المعارضة وتمنح اوسمة الشرف والاستحقاق.
محرقة اليهود وبشاعة اضطهادهم من قبل النازية لا يبرر ان تكون الضحية في موقع الظلم والاضطهاد لغيرها وتشرد شعبا وترتكب نفس ما وقع عليها من ظلم بحق اخرين، بل كان ينبغي ان يكون رافعي شعار الاضطهاد رسل الانسانية والسلام لاجل ان لا تتكرر هذه المأساة ثانية لا بحقهم ولا بحق غيرهم بدلا من ان يكونوا ظلاما جدد تنتظر الانسانية زوالهم كما انتظرت هلاك هتلر وجنونه النازي. هذا السلوك المنتظر من الضحية ليس طلبا خياليا ولا مثاليا، بل هو ما ينبغي ان تكون عليه الامور. ومن منا لا يذكر مانديلا الذي ارتقى بنضاله حين دعا سجانه الى حفل تنصيبه رئيسا ليس احراجا له انما ليقدم له نموذجا في المجتمع الذي يريده مجتمع الحب بين كل الناس لا مجتمع الكراهية الذي كان يدعو اليه نظام التمييز العنصري. وبالطبع في ذاكرة كل من عاش في الشرق وتعرف على تاريخ المسلمين موقف النبي محمد حين دخل مكة فلم يفعل باعدائه ما كانوا يخافون منه بل قال اليوم يوم المرحمة اليوم تحمى الحرمة، ردا على بعض من اتباعه الذي لم يفهم حقيقة المعارضة للنظام الجاهلي واراد هذا البعض ان يستبدل الظلم بظلم اخر لانه فهمها بعقليته القبلية ان هي الا دول وممالك يهلك بعضها البعض الاخر ولم يفهم انها ثورة لارساء مبادئ العدل بدلا من مبادئ الظلم.
وفي بلدنا كنا نعيب على الطاغية المقبور انه جاء بمجموعة ممن لا مهنية لهم ولا خبرة وجعلهم في قمة هرم الدولة فقط على اساس الولاء له والتحزب لشخصه ولجماعته وعصابته. وكان الناس بحق وبتوجيه من المعارضة يتندرون على عزة الدوري بانه ابو الثلج وطه الجزراوي بانه خريج صناعة الذي اصبح وزيرا للصناعة اما حسين وصدام كامل فكان مؤهلهم الوحيد انهم صهرا الرئيس لا غير. وكتب احدهم من المعارضين الذين تبادلوا المواقع، كتابا في منفاه ينتقد حكومة صدام وسماه حكومة القرية وسخر بمرارة من هذه القرية التي جلبت الخراب والدمار للبلد وتحكم افراد جهلة منها في مصير شعب ووطن. بل ان اختيار كلمة قرية وحدها كافية في الاشارة الى ان هذه الجماعة كانت لا تملك اي مؤهل حتى ولو لفرد واحد لتحكم بلدا كالعراق بتاريخه الحضاري، لوضاعة اصل هذه القرية وانها لا تحوي الا على طبقة جاهلة. الا ان ما حصل ان احدا من هذه الجماعة المعارضة لم يفسر لنا كيف ان قرية اخرى تحولت بعد وصول ابنها القوي الى السلطة كيف حولت الاصهار الجدد الى رجال حكم وممثلين للشعب وكيف تحول باعة خبز ودجاج الى مسؤولين في الدولة وكيف ان الابن اصبح كذاك الابن تخشاه اعلى قيادات الجيش.
كانت المعارضة تعيب بكل حق على ذاك المقبور انه تسبب بهزيمة تاريخية وأذل الجيش في خيمة صفوان وراح الالاف من الضباط والجنود في محرقة موت بسبب سياسة رعناء. وسخروا كثيرا منه لانه تباهى كثيرا بقوته العسكرية وتهديداته الفارغة وزعامته التي تشيد بها وسائل الاعلام التي ظهرت على حقيقتها الخاوية في اختبارات المواجهة. وكانت تحمله بصفة رئيسية مسؤولية كل هذه الهزائم وذلك الاذلال الذي تعرض له الجيش والشعب اللذين تركا اثارا قاسية على الحالة النفسية والاجتماعية على الشعب اكثر بكثير من كل الاثار الاقتصادية المدمرة. هذه المعارضة تُرى لماذا لا تتحلى بنفس الجرأة وكما كانت تكيل التهم وتحمل المسؤولية ولِمَ لا تحملها الان، لمن قام بنفس الفعل وطبعا لا ننسى للانصاف في الحالتين ان تبرير المؤامرة والعدو الخارجي كان هو ذريعة الاولين والاخرين. وليس بكذب ابدا ان الحصار القاسي الذي سبب موت الملايين اما جوعا او فقدانا للكرامة كان بمؤامرة خارجية وعقابا قاسيا لشعب وليس لحاكم. كما ان الهزيمة المرة في حرب الخليج الثانية كانت بفعل مؤامرة دنيئة دبرت بليل امريكي صهيوني واستدرج لها الحاكم المجنون بتمسكه بالسلطة وحب الزعامة ليقع في ذاك الفخ المرسوم بعناية. وهذا ما حصل وتكرر ايضا في الهزيمة المذلة للجيش الجديد وللنكسة التي تعرض لها الوطن والشعب بعد حزيران العار. نعم انها مؤامرة خارجية كتلك المؤامرة ولكن كما كانت الهزيمة سببا لانتقاد المسؤول وتحميله جريرة فشله في ادارة البلد فيما سبق ولم تنفعه ذريعة المؤامرة في دفع التهمة عنه، فلمَ الان تصمت هذه المعارضة ولا تحمل الحاكم ما حملته من قبل ولمَ الان تصبح الذريعة درعا لدرء مسؤولية الفشل والذريعة هي هي والمؤمرة نفسها.
هل ينتابنا العجب من محاولة حزب البعث واتباعه العودة للحكم رغم الماضي المقيت المملوء بالجرائم الوحشية، وهل يثير استغرابنا ان هذا الحزب وانصاره ما زالوا يصرون على ذلك ويجندون الاعلام ويتوسلون بكل القوى التخريبية من ارهاب وغيره لتحقيق مآربه في العودة لملكهم الذي فقدوه؟ اذا كان الجواب بنعم فعلينا ان نسأل انفسنا اولا لماذا ينتابنا العجب من هذا السلوك؟ هل على الاصرار على الحكم رغم كل الفشل ام على تناسي كل الالم الذي حصل بسبب سياستهم؟ ام على عنادهم بانهم كانوا على حق وان كل ما حصل هو مؤامرة خارجية ليس الا وانهم لم يكونوا مخطئين في ما جرى؟ الا يدرك هذا الحزب وانصاره ان قائدهم ورمزهم الغى الدولة وجعلها حزبا، ثم الغى الحزب وجعله قرية بل جعلها عائلة بل اخس من ذلك حين جعلها فردا واصبح لا يعرف البلد الا من القاب القائد وكنيته ابو حلا وصار كل شئ بتعاظم الغرور وتوالي الايام ملكا لهذا القائد وكل خير انما يأتي من هذا القائد وطالما عير شعبه بانهم كانوا حفاة وانه البسهم واطعمهم بعد جوع وعري وللسخرية انه حين غادرهم كان شعبه اشد جوعا وعريا على مر تاريخه الحديث؟ اذا كل هذا لم يدركه البعث بعد ولا يزال يخطط للعودة من خلال حزب او تشكيل سياسي جديد او من خلال افراد هنا وهناك وهم ليسوا بقليل هو مثار تعجبنا وسبب استغرابنا واستنكارنا. فالاعجب منه حين نعجب من هذا الفعل ولا نعجب من نفس الفعل ولكن تقوم به جماعة اخرى وصل بها الامر الى ان تجعل الحزب ملكا شخصيا وتلغي الاخرين فقط لان هذه الجماعة ومن التفت حوله لم تدرك ان صاحبها قد فشل وان ما عابوا غيره عليه لم يتردد صاحبهم في فعله لاهو ولا من تمحور حوله. وكما اولئك لا يزالون يحلمون بملكهم الضائع ويفعلون الافاعيل لاسترداده فهولاء يفعلون كما اولئك ويحلمون بنفس ما يحلمون.
أليس هذا هو مدعاة العجب والاستغراب الحقيقي وأليس هذا بكاف لان نقول ان المعارضة قد لا تكون اختلاف مبادي انما حسد مواقع ليس الا