23 ديسمبر، 2024 12:49 ص

المظاهرات و المشهد السياسي

المظاهرات و المشهد السياسي

قد تعجز فئة من الشعب عن الحصول على مطالبها الشرعية السياسية أو الاقتصادية أم الاجتماعية , عندها تلجأ إلى وسائل الضغط المدنية الموجهة نحو الحكومة أو البرلمان لتحقيق مطالبها , و أهم تلك الوسائل هي المظاهرات.
إن ممارسة التظاهر المدني و لكي يحافظ على طابعه السلمي يحتاج إلى مقدار من الوعي الجماهيري بأهميتها و آلية استخدامها و كيفية وضع أهدافها المراد تحقيقيها,هذا من جهة و من جهة أخرى تحتاج إلى قادة لديهم حنكة سياسية أو خبرة و قدرة تستطيع السيطرة على مجرياتها, وأعادتها إلى مسارها عند انحرافها عنه. و إن فقدان هذين العنصرين أو احدهما يعرضها إلى أن تكون مظاهرة غير شرعية و تنفصل شعاراتها و مطالبها عن الواقع الحقيقي لها. و السؤال المطروح هو مدى انطباق هذه المعايير على ما يحصل من مظاهرات في المناطق الغربية في العراق, و ما نتائجها ؟
إن تضخم المطالب التي أعلنت و أكثرها إثارة للجدل إنشاء إقليم خاص بالانبار تشير إلى إمكانية التحكم بمشاعر الجماهير و توجيهها إلى أهداف تخرج المسار الحقيقي الذي قامت لأجله, و انه لايستبع وجود من يتحكم بها على هذا النحو و توجهها بما لا يخدم مشروع يوحد العراقيين , رفع الشعارات الطائفية وعلم النظام السابق و الجيش السوري الحر و صور اوردغان  يشير إلى ذلك . كما أن بروز شخصيات عقلانية مثل عبد الملك السعدي الذي تحدث بخطاب وطني لاغبار عليه و رفض اللهجة التي تتحدث طائفيا عندما أعلن أننا “جميعنا شيعة أهل البيت” وضع المظاهرات بمسار مقبول من قبل الطرف الأخر, و كذلك فتواه بتحريم المطالبة بإقليم خاص بالمحافظات الانبار و الموصل و صلاح الدين تدل على رجحان كفة الاعتدال, و هذا ما لم يستمر عندما بدأ بتحجيم عبد الملك السعدي جانبا و صعود التشدد مرة أخرى, و لتبرز الخطابات تعلن دون تحفظ من أن أفعى تمتد من إيران ثم العراق و سوريا و لبنان عند حزب الله و أنها فرخت في البحرين و الحسا و القطيف , و رفع شعار “قادمون بغداد” , و الإصرار على رفع علم النظام السابق. و لاستبعد أن يقصى القادة المتشددين بخطاباتهم ليحل محلهم أكثر اعتدالا, كما حصل اول الأمر و جيء بعبد الملك السعدي.
إذا ما جرت انتخابات المحافظات و مشاعر المتظاهرين على هذا الحال فانه ستظهر خارطة سياسية جديدة تمثل المناطق السنية لن تكون الشخصيات السياسية البارزة الحالية من ضمنها, و ستكون ابرز ملامحها صعود قوى إسلامية ذات إيديولوجية إسلامية تفتقر إلى التنظيم السياسي و مشبعة بالتنظيم المنبعث من المساجد و الجوامع, بصورة تحاكي بلدان الربيع العربي وما مر بها من تصدر القوى الإسلامية المشهد السياسي,و هذا ما ينذر إلى تحول الصراع من طائفي سياسي  إلى طائفي طائفي دون سياسة. ففي الوقت الحالي و على الرغم من التعامل الطائفي داخل الأروقة السياسية مع بعضها بطريقة ما, إلا انه يمكن أن نجد اللغة السياسية فيها و التحدث بتطبيق القانون و الدستور. صعود الإسلام الإيديولوجي سيفقد هذه اللغة لتحل محلها اللغة طائفية متشددة صرفة. و ستكون التأثيرات الإقليمية أكثر وقعا على مثل هذه القوى التي ستشعر بانتماء لها و اقترابها فكريا منها, أي أن التدخلات الإقليمية ستنتقل داخل الحكومات المحلية . إن خطورة الأمر أن تكون المناطق السنية امتدادا لسياسة دول الجوار لاسيما إنها محافظات لها انبساط ارضي معها .
و كذلك الحال عند إجراء انتخابات البرلمانية ستظهر ذات النتيجة إذا ماكانت معطيات الحال على ذاتها, الاان خطورة الأمر ستكون أكثر وقعا عند صعود الخطاب المتشدد و وصوله داخل أروقة مجلس النواب, وبكلمة أخرى سيتحول البرلمان العراقي إلى ساحة لصراع بين قوى, احد أطرافها ينظر لجلسات البرلمان عبارة عن صراع يهدف لإلغاء الطائفة الأخرى , و ليس صراعا سياسيا.
من جهة أخرى فان شعارات المظاهرات و خطابها سيحرك مناطق الوسط و الجنوب على التمسك برئيس الوزراء الحالي الذي سيزداد أللالتفاف عليه من قبل المناطق المنتخبة له, ليس بوصفه شيعيا فحسب بل لأنه يمثل قوة بواسطة ترأسه للحكومة يمكنها أن تحمي الطائفة أو على الأقل أن تقف أمام القوى المعادية للطائفة, و سيتجاهل الناخب الشيعي في هذه المرحلة جميع المطالب المتعلقة بالقضاء على فساد الحكومة و إصلاح مؤسسات الدولة و رفع المستوى المعيشي للمواطن . ففي آذار عام 1935 قد وفدا من محافظات الشمال إلى بغداد لزيارة رئيس الوزراء الجديد ياسين الهاشمي, يمثلون شيوخ ألوية الموصل و كركوك و ديالى و اربيل و السليمانية, “ليعرضوا ثقة أبناء الشمال “برئاسة الوزراء معلنون عن استعدادهم لقمع أية حركة تجزئ البلاد. و قد كانت هذه الوفود ردة فعل عن الاضطرابات التي حصلت في بعض مناطق الجنوب معترضة على رئاسة ياسين الهاشمي للوزارة الذي كان المستفيد الأول من ذلك. بالتالي ستكون إحدى نتائج المظاهرات تثبيت الوجوه السياسية الحالية لمناطق الوسط و الجنوب لاسيما رئيس الوزراء , على عكس المناطق السنية .
إن مجريات الأمور داخليا و إقليميا لن تؤدي إلى توحيد الخطاب العراقي من حيث الأهداف على المدى القريب اقل تقدير. إلا انه في نهاية الأمر سيخدم فئتين, الأولى الطبقة السياسية الشيعية الحالية التي ستحافظ على مكانتها السياسية, و الثانية قوى صاعدة متشددة طائفيا داخل المناطق السنية ستكون وجوه السياسة الجدد لها. أما المواطن العراقي سنيا و شيعيا لن يتغير واقعه الاقتصادي و الاجتماعي و الخدمي شيئا , سوى مزيدا من الفساد الحكومي و الدماء.