22 ديسمبر، 2024 9:16 ص

المظاهراتُ حقٌّ لا ينكرهُ عاقلٌ أو متشرّعٌ

المظاهراتُ حقٌّ لا ينكرهُ عاقلٌ أو متشرّعٌ

إن الدول التي ينخرها الفساد هشة لا يصعب اختراقها، أمّا إذا كان خصومها دهاة محترفين، من أمثال المغيرة بن شعبة، الذي يقال فيه: لو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها، فستكون ملعبا لأولئك الخصوم يصولون فيه ويجولون، يدخلونه متى شاءوا ويخرجون منه متى شاءوا، وللأسف أن من هذه الدول البائسة العراق، الذي قامت تجربته بعد دكتاتورية صدام الدموية على دستور متواضع، لم يفكك الألغام التي زرعها صدام وحزبه، ولا حتى تلك التي جاءت على جناح الفوضى الخلاقة مع الاحتلال الأمريكي، وعلى الرغم من ذلك كانت هناك بارقة أمل تلوح في افق حقبة عراق ما بعد صدام، خاصة أنها قد جاءت بعد حقبة مظلمة حالكة، تفنن فيها رفاق علي صالح السعدي وناظم كزار، بقيادة أجبن قائد في التاريخ العربي صدام حسين، الذي ترك عسكره تمزقه قوة الاحتلال الامريكية المجرمة، واندس في حفرة كما تندس الجرذان، ربما كان ينتظر فرصة للمساومة، ومقايضته حياته بالدولة والحزب، الذي أجبر الشعب على التغني بأمجاده والرقص على أنغام فرقه التي انتشرت في العراق الذي حوله إلى مستنقع، كما ينتشر البعوض، فهي أشبه ببقعة ضوء تظهر وسط الظلام، جميلة قياسا بالحقبة الصدامية الموغلة في ارتكاب أبشع الجرائم، وكتابة أقذر السير في التاريخ لحكم انجلت غبرته عن مئات المقابر الجماعية، ومئات الآلاف من المفقودين، الذين اختفوا خلف بوابات الأمن العام ودوائر المخابرات وقصر النهاية، الذي فاق ببشاعة الرعب الذي اعتاشت عليه مخيلة جلاده القذر ناظم كزار، قصر دراغزهولم الدنماركي بمئات المرات، بحيث ان اشباح دراغزهولم الخيالية كانت تعيش بدمها النتن ولحمها المتعفن في داخل كل جلاد من جلادي قصر النهاية، الذين يتركون ضحاياهم، الذين هم من خيرة أبناء العراق، معلقين بسقوف ذلك القصر البائس عراة حتى يموتوا وتتعفن أجسادهم.

إن صدام ببعثه الذي زرع الفساد لينخر جسد الدولة العراقية، هو نفسه اليوم يتعهد أمر هذا الفساد، عندما توجه تهمة البعثي إلى أي متظاهر يطالب بأبسط حقوق المواطنة التي رعتها كل الشرائع والقوانين، وهي تهمة بشعة من وجهة نظري ونظر أقراني من جيلي الخمسينيات والستينيات، لأننا نعرف تماما حقيقة البعث، ولكنها لا تمثل شيئا معلوما على وجه الاجمال أو التفصيل بالنسبة إلى جيل المتظاهرين الشبان الذين تراوحت أعمارهم بين العشرين والثلاثين، فاتهام هؤلاء الشبان بانهم بعثيون هو جريمة قذف من وجهة النظر القانونية والشرعية، لانهم ولدوا أو أدركوا الحياة خارج الاطار الزمني لحقبة البعث، تماما مثل معاوية بالنسبة الينا أبناء هذا الزمان نستحضره حاكما يُرغّب ويُرهّب بلا ضوابط شرعية او قانونية او أخلاقية، أمّا بالنسبة الى شهيد مرج عذراء عدي بن حاتم الطائي، فهو ذلك القاتل المجرم الذي يحس الصحابي الجليل حجر رضي الله عنه بسيفه يحز نحره.

ليس البعث وحده بل أن حلفاءه من الصهاينة راحوا يتعهدون أمر هذا الفساد، الذي يوشك ان يضع حدا لدولة اسمها العراق، طالما واجه شعبها جرائمهم في فلسطين، فراحت مجموعات صهيونية تغرد لدعم المتظاهرين وتبدي تعاطفا معهم، فإن هذا الصهيوني النجس الذي يطلق النار على امرأة فلسطينية، ويمنع المسعفين من الاقتراب منها حتى تموت، يخلع جلد الجزار، ويبكي – بدموع التماسيح طبعا – على متظاهر عراقي، يتشحط بدمه بفعل رصاصة قناص مجرم مجهول، من غير المستبعد أنه الصهيوني نفسة المتباكي على آلام العراقين الذين يرفضونه، ويرفضون نظامه العنصري المجرم ودولته اللقيطة، ويرفضون كل متعامل معه من أمثال غيث الذي لا أقول التميمي، فقبيلة تمتم العربية العريقة والاصيلة لا تقبل انتساب هذا المتصهين إليها.

إن الكلام عن وجود مندسين بين صفوف المتظاهرين كلام لا يمكن بناء أي موقف من المظاهرات عليه، فالمندسون جاهزون للتواجد في كل مكان وزمان، فمن الممكن اندساس بعثيين بين المتظاهرين، ولكن لدوافع غير شريفة وليس بدافع المتظاهر الشريف، ومن الممكن وجود أيدي صهيونية وإقليمية سعودية وامارتية وربما إيرانية وتركية، ولكن كل واحد من هؤلاء المندسين يغني على ليلاه، المتظاهر العراقي وحده صاحب المطالب المحقة هو الذي لا اغنية له إلا العراق، بل ربما هناك مندسون من الطبقة السياسية الحاكمة، فالسياسي الذي يأمل في حصة أكبر، أو يطمع بمنصب أعلى عندما يضطرب الوضع وتختلط الأوراق، لا يترفع عن ركوب موجة المظاهرات، وقد اثبت الواقع أن هذه النزعات متأصلة في الطبقة السياسية، سواء فيما بين الكتل والحركات والأحزاب أو فيما بين أعضاء الحزب الواحد.

إنه لمن المستهجن ارتفاع الأصوات التي تتهم المتظاهرين العراقيين الذي خرجوا مطالبن باجتثاث الفساد وتقديم الساسة المفسدين الى المحاكم لاعادة ما نهبوه، خرجوا مطالبين بإنصافهم في دولة يقال انها غنية، بإيجاد فرص عمل تحفظ كرامتهم وكرامة أسرهم، وتجنبهم الانزلاق إلى أي حيز غير قانوني أو غير أخلاقي، خاصة وان الساحة العراقية باتت ساحة تصفيات حسابات إقليمية بين دول تتصارع من أجل النفوذ تحت شعارات دينية وطائفية.

ومن المستهجن المؤكد أيضا ما درج عليه بعض الساسة أو الكتاب من تذكير المطالبين بالإصلاح بالحال أيام صدام، وبؤس الحصار والفقر وما إلى ذلك من كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، فهو تذكير لا قيمة له، لأن سرقة عدوك مليار دينار لا تضفي الشرعة على سرقتك مائة دينار، كما أن قتل عدوك لعشرة أشخاص لا يعفيك من المساءلة اذا قتلت شخصا واحدا، ثم أن حقبة صدام تقع خارج زمن الدين والانسان والقانون، ما يعني أن هذا التذكير الذي يبدي بعضهم بهيئة الواعظين، هو تنكير وليس تذكير، ولو أن الحياة تسير بهذا المنطق المريض لما استحق أي مقصر لوما، لأن هناك من هو أشد تقصير منه، واذكرهم أن هذا الأسلوب صدامي بامتياز، فصدام كان يذكر بعض الذين ينقم منهم من البعثيين أو المسؤولين الحكوميين في عهده، بأنهم كانوا قبل حكمه من الفقراء الجياع، الذين يلبسون “نص نعال” على حد قوله، فكفوا أيها المذكرون، واعلموا أنكم تقتبسون من نص مدنس.