18 ديسمبر، 2024 7:05 م

في مقال شيق للكاتب العراقي المغترب سيد سعد النعيمي بعنوان (إستراحة مطاعم طوز خورماتو) والذي تطرق فيه الى موضوعة المطاعم المنتشرة على طريق كركوك – بغداد وفي منطقة طوز خورماتو تحديداً. حيث استخدم الكاتب جملة (المطاعم أسرار) والتي أثارت في نفسي الكثير من الشجون وحفز لدي أفكاراً كانت جاثمة في رأسي منذ حين.
كثير منا نتردد إلى المطاعم بمختلف أنواعها ونجومها حتى الدرجة الخامسة. وكثير منا يتلذذ مما نتناوله في هذه المطاعم دون أن ندرك أصل الأغذية المقدمة لنا ومصدرها والمراحل التي مرت بها حتى أصبحت جاهزة لتوضع أمامنا على الموائد. شعارات رنانة ترفعها هذه المطاعم تهدف إلى تحسين الصورة أمام الزبائن ومن ثم الولوج إلى الجيب واستنزاف الأموال. نحن ننظر إلى القشور ولا نتفحص لب المطاعم المتمثل في المطابخ الداخلية ونزاهة العاملين وحرصهم على النظافة. نحن نأكل بكل ثقة ونؤمن بالعبارة القائلة (لحم عراقي خالص).
أحد اصدقائي قرر العودة إلى العراق بعد عشرين عاماً من الغربة في أوربا. بقي في العراق يبحث عن عمل يقوم به ليرتزق منه هو وأفراد عائلته. عليه أن يبدأ من نقطة الصفر، فسنوات الغربة أخذته من البلاد ولا ناقة له ولا جمل في بلده اليوم. بعد البحث والتقصي لمدة عام ونيف وجد هذا الصديق ان قطاع المطاعم والأكلات هو المهيمن على مشهد العمل والكسب في العراق. زحام على المطاعم والمأكولات بأنواعها، الامر دفع هذا الصديق لأن يفتتح مطعماً على شارع عام لبيع الأكلات السريعة. تشغيل المطعم عمل جماعي ويحتاج إلى العديد من العمال المتمرسين الذين يجيدون الطبخ وعمال مطابخ لهم إلمام كاف بكل أمور المطبخ. المنافسة شديدة في السوق وليس له أن يفتتح المطعم إذا لم يؤمن عمال المطبخ والطهات وعمال الخدمة بوجوههم المبتسمة.
بطبيعة الحال فإن لا أحد له أن يدخل إلى مطبخ هذا المطعم. ولكوني من المقربين لصاحب المطعم فإنني مرخص بالتجوال في كل أرجاء المكان من ضمنه المطبخ. المطعم نضيف جداً والمكان يوحي بالكثير من الجمال بعد أن صرف عليه صاحب المطعم كل ما في جعبته من حاصل سني عمله في الغربة. تجوالي في المطبخ جعلني مطلعاً على كل أسرار هذا المكان. وأصبحت ملماً بالمواد التي منها يتم تهيئة هذه الأكلات. السوب أو الحساء الساخن الذي كان يقدم للزبائن والذي من المفروض أن يكون من ماء اللحم العراقي الخالص أو من ماء لحوم الدجاج كما يدعون، كان يحضر باستخدام مسحوق النشا مع مكبات الماجي ولم يكن هذا الحساء قد لامس ولو مثقال واحداً من اللحم.
اللحم المقدم لم يكن لحم عراقي خالص بتاتاً، بل كان من اللحوم الهندية التي تباع بأربعة الاف دينار للكيلو الغرام الواحد. المقبلات والمشهيات والخزعبلات الأخرى التي تزين المائدة كانت من أردء الأنواع وأرخص ما في السوق.
ليس الأمر مقتصر على هذا فحسب، فكثيراً ما كنت أشاهد قدوم الطباخين والبدء بالأعمال دون غسل الأيادي. حتى أنني شاهدت لمرات كثيرة جمع ما يقع على الأرض وإعادة وضعه في الطعام. ذات مرة وعامل البيتزا يعمل على وضع حلقات الزيتون فوق البيتزا، شاءت الأقدار أن تقع حلقات الزيتون على الأرض لينحني العامل ويجمعه من على الأرض ويعيد وضعه على قرص البيتزا التي ستقدم ليتناوله الزبون بالهناء والشفاء.
مراراً وتكراراً قمت بتنبيه الطباخين على أن هذا العمل مشين ولا يليق حتى بالإنسانية. إلاّ أنهم كانوا يقولون لي أن ما يفعلونه أهون بكثير مما يحدث في مطاعم أخرى حتى لو كانت من الدرجة الأولى. وقد ذكروا لي بعض الأمثلة التي أعتذر عن ذكرها هنا لبشاعتها.
وفي نهاية المطاف اضطر صاحب المطعم إلى غلق المكان والتفرغ إلى عمل أخر مكبلاً بالكثير من الخسائر المادية.
المطاعم هي المطابخ وليست ديكور الصالات الفخمة. والمطابخ هذه أسرار فعلاً لا يمكن كشفها بسهول. وليست مطابخ المطاعم وحدها، فكل ما يحمل أسم مطبخ يكون فيه الكثير من الأسرار التي تختلف تماماً عن ظاهرها. منها المطابخ السياسية التي تطبخ فيها القرارات التي تخص الأمة وتتعامل مع مصالح العباد والبلاد وتهم الصغير قبل الكبير. فنحن شعب نتعامل ما المظاهر ليس إلاّ.
وما خفي كان أعظم.