23 ديسمبر، 2024 2:23 ص

كان الحريق الذي أعقبه رنين جرس الانذار،  قد كشف النقاب عن تقاعس العمال داخل الورشة في المصنع الكبير، ولم يترك المسؤول جدلا أو نقاشا بيزنطيا ألا وخاضه مع الملاحظ الذي تبرم بادئ الأمر ثم ليذعن وينقاد لما وجه إليه من توبيخ ، أملى المسؤول مجددا شروطه ولأول مرة كما ادعى عليه.ثم تركهم وتوجه لغرفته المطلة من خلال مقاطع زجاجية بأشكالها الهندسية المختلفة ، يشرف من خلالها على العمل داخل الورشة التي بدت بعملها الجزئي شبه متوقفة أو عاجزة عن تلبية اليسير من متطلبات العمال الكثيرة ، قذف كريم بقناع اللحام جانبا وغمغم ( هو حلال عليه )..
كان صهريج الاستيلين الذي افعم جوانبه السواد سببا رئيسيا لهذا الشجار ، حيث بدا
مضمخا بغبار ابيض من مساحيق الاطفاء التي تجمعت كبحيرة من الكلس اسفله بعد ان طافت كغيمة بيضاء مغيبة ملامح الافراد و معالم الاشياء ..!
تشارك ثلاث من العاملين في اصلاح العطب ، حين توزع الاخرون كل على عمله ، وبدت خيوط صغيرة من السخام منتشرة في الأجواء ، تعوم كأنطاف محترقة ،   في حين تبادل الملاحظ معهم بعض التهم مؤكدا من انه لو تعرض إلى نفس الموقف فانه سيذكر أسماء    المخالفين منهم .
 
 
لوهلة ران الصمت داخل الورشة الكبيرة التي كانت جزءا من مصنع اكبر، ولم يعكر صفوه إلا وقع خطوات الملاحظ الذي بدا مقطبا جراء ما حصل . أومأ احد العمال لآخر يقابله حين مرق الملاحظ فانفجرا بنوبة ضحك صامتة حتى دمعت عيناهما جراءها . وقبل ان يصل الأخير إلى نضد مكتبه الحديدي تعاقب دوي بعض الآلات ..واختلطت شدة بعض الأصوات وتناغمت مع الأضواء المتوهجة، حتى بات صفير المخرطتين يشفر كلام العاملين الذي تحول إلى صياح بوجوه ضاحكة تخفي وراءها سنين من الكرب  بمختلف أنواعه ، وهم تولد عن مستوى معاشي لا يرقى إلى طموحهم . انتصفت ساعات النهار وخف ضجيج الآلة داخل الورشة وأنستهم ساعات الانهماك بالعمل الخلاف الذي اشتركوا بهِ جميعا بينما ضل الملاحظ وهو رجل في منتصف العمر مقطبا حاجبيه استعدادا لخوض معمعة جديدة لو تطلب الأمر. افترشوا المكان المخصص لتناول الغذاء (أين الملاحظ؟) قال واحد من العمال عندما كان منشغلا بفتح كيسه المصنوع من القماش لإخراج قدر الطعام ،
 
(ربما يصلي الآن )أجابه الثاني الذي شاركه في أعداد الوجبة المعدة سلفا في بيوتهم .اتسقت سبعة قدور على فرش عد من كيس طحين فتح  جانبيه يتسع لستة عمال ..بينما كان المهندس المسؤول ضمن ملاك الورشة ، من باب مكتبه المفتوح على المصنع ينسل كما فاجأهم ساعة الصباح أثناء رنين الجرس ، فهناك ضمن الشعبة الإدارية ربما وجد متنفسه خصوصا هذه الأيام التي دأب فيها على إحكام إغلاق ظلفتي الباب الملاصق للواجهة المزججة  ، هذا ما قاله  وليد عندما كان يتلصص من خلال النافذة على كرسيه الفارغ  ..!                                                                               
.                                                            
ـ حميد ؟نادى الملاحظ ..لوح الأخير ممتنعا بعد ان نفث دخان سيجارته حتى العقب وبدا وسط جوه الرصاصي ساهما ، ربما أعاد لذهنه ساعات الاحتضار الطويلة التي سيقضيها حرثا في الذاكرة  وسط هذا الضجيج والصرير…وبدا الجميع ألاه منهمكين في وجبتهم يدوسون الرز، والخبز بأفواه تتسع للالتهام والكلام في ان واحد للصدق ، والكذب …والموازنة بين العمل حين يبدون تجليهم المفرط أمام المدير بالكلام المعسول ، والتملق والمجاملات المحضة، وأحيانا الصراخ في وجهه في لحظات متفردة من النزق ..والصمت ساعة الانزلاق إلى نزوعاتهم النفسية الخطيرة .
ـ انك تشبهني ..قال الملاحظ لحميد الذي لايزال محافظا على صمته والخدر الذي تسلل أليه ساعة الانزواء والتوحد مع دخانه الذي أزاح عن صدره وحمله هنيهة إلى حيث  يجهلون تماما أفكاره…
ــ اللحظات الخالية ..أشبه بالحلم أو هي بالفعل حلم يقضه يجرك إلى عوالم قد لاتحياها أو تطرق مخيلتك أصلا وتشتاق إليها لحظة الوعي الجميل .                                       
 أحيانا ينعشك الحلم ..
ـ كيف ذلك ؟
ـ يمكن ان تعيش .. لكن دون حلم ،دون أمل يشغل مفازات فكرك ، الأمل : هو القاسم                                       
المشترك بين الحياة وخلافها ، اقصد تكون فارغة غير مثيرة للجدل .
 ــ الم اقل بأنك تشبهني  ..موضوعة الحياة بالنسبة إليك طريق شائك ، وعر ينبغي توخي الحذر لحظة الانحدار المريرة .                                                                 ـ المهم من الجدير للذكر ان أطلعك على طبيعة العمل هنا ، إذ لن تكون مهمتك اللحام حسب هناك أمور جانبية ينبغي ان نأخذ فكرة كاملة عنها . حيث ساعات العمل  ،والية التصرف مع ذلك الذي يختبأ وراء الزجاج المظلل فهو يرانا ونحن لا نراه .
وحانت منهم التفاتة جانبية إلى الغرفة المرتكنة في زاوية قصية داخل الورشة وبدت على هيئة مبالغ فيها من التنسيق والترتيب توحي للذي يجلس بداخلها ماذا يرتدي
وهو الذي يحتسب ضمن ملاك الورشة مع العمال ، ببذلاتهم الزرقاء الملطخة بالدهان .. ! انتهى عملهم بعد ساعتين من انتصاف النهار.. وبدت هناك غبطة مرتسمة على وجوه العمال الصغار منهم خصوصا ..
وبينما خف دوي الآلات الذي كان رغم جزئيته صاخبا .. نشطت حركة دؤوبة للسيارات داخل طرقات المؤسسة المتفرعة تقل الموظفين من والى بيوتهم ،وتحمل الشوارع الإسفلتية الراجلين منهم بأمتعتهم البسيطة ( مئونة يوم عمل ) على شكل جماعات وفرادى بعضهم يحث الخطى ،يخلف وراءه عشرات المجاميع المتميعة في السير بسبب المزاح والكلام ربما عن مشاريعهم الخاصة المتمثلة في ورشة صغيرة
أو محل لأي غرض أخر أو ربما قد يكون لديه فكر آخر.. حميد كان واحدا منهم خلف طاقمه ساعة الانسلاخ هي الأولى من العمل. فهذا اليوم الأول الذي ينخرط به ويحظا باهتمام الملا حظ وبدا غير مكترث خلال الحديث الذي ساقه إلى البوح خارج مديات المصنع ، داخل افقه المضبب بالدخان ،حيث استوت الأمور معمليا واختمرت الفكرة لديه والمسافة بين الكراج ومحل عمله داخل المصنع الذي بدا لوهلة غير مرحب به في سريرته ، كانت كافية لاجتراح المزيد من المرارات .والأحلام التي تجره إلى يقظة.! ، تتفاوت بين الحالمين منهم بشكل بسيط يستوي لكونهم طبقة من العمال البسطاء. ها هو يحلم بمبلغ القرض .. الذي سيوفر له ويرفع عنه المزيد من المتاعب والمعاناة ..
 
بينما يبقى هذا المراهق أو ذاك من الراجلين أمامه مأسورا باللحظات الخالية العارية
، من وحي خياله ينسجها يفبركها بإحساس كاتب مسرحي ، عندما يسهب بالتفاصيل الصغيرة المثيرة للشبق مع هذه أو تلك أو ما يحضره من خيال .. يؤجل ويدفع باللحظة الحاسمة حين يبقى وجهها ماثلا .. وما خفي كان أعظم !! .
المسافة ليست قريبة حتى يستغني عن خدمة الحافلة .. والتي حتما ستوفر له الأجر وترفع عناء التعب .
دارت في قراراته هذه الأفكار ، يمكن وكما هي حال الفقراء .. ان يسمح لهكذا فكرة
معقولة بين عشرات بل ربما مئات من الأفكار والتهويمات ، بين الوعي واللاوعي
التي تنتابه ساعات البطالة والعمل . هكذا هو شعر بها اليوم وفكر لو أنها وضفت في عمل جدي فمعنى ذلك نجاحات متكررة ..
الطريق يحفل بالناس .. بمختلف الفئات والألوان والطبقات كذلك .. العمال هم السائدون والموظفون فئة من طبقة ، ليست برجوازية على الإطلاق . .
العمال يتناصفون معاناة مشتركة من قبل مدراء شبه ارستقراطيين في عاداتهم .
 
بقربه توقفت الحافلة . لقد صدق حدسه ، ابتسم له احدهم كان عند الباب وسط الحافلة ، اصعد .. اصعد .. قال له في حين استمر هو في مشيه ، فقط شزر الحافلة التي بدت زرقاء ولم يخص نفسه بالدعوة ، وان الناس غيره كثيرون ومن مختلف الجهات ،الداخلون منها والخارجون ، وحين صار على مسافة مبتعدا عن الحافلة ناداه حميد..حميد .. نحن ذاهبون إلى المدينة ؟
ـ ها معي آسف قال متصنعا وأضاف يمكن ان استقل سيارة أجرة من الشارع الموازي ..
ـ معقول وهذه سيارة الشركة نصف مقاعدها شاغرة  ، هيا اصعد
ـ شكرا
بدت السيارة من الداخل أفضل حيث نثار المسافرين كل في مكان بعيد عن الآخر في محاولة إقصاء .. أو نسيان روتين يومي ممل ربما ..
مثلهم اندس في واحد من المقاعد قرب النافذة وأعقبه مباشرة صاحب الدعوة.
الذي حافظ على ابتسامته حتى لحظة المبادرة والسؤال .. بدا متطفلا وهو يقول هذا هو اليوم الأول لدوامك معنا في الشركة .
ــ ها ..لا الأيام الثلاث الماضية كانت بين جمعة وبين نهاية أسبوع افترضت انه من الأفضل ان يكون في بداية الأسبوع .. هكذا أولت الموقف شخصيا.
ــ أول الأسبوع أو أخره ليس هنالك فرق كبير ،فالعمل بسيط جدا عمل جزئي . إننا لا نبذل جهدا خصوصا في هذا الوقت . لكن الخلافات بين العمال والعمال وكذلك الموظفين  هي التي ترهقنا بالدرجة الأساسية . فهي تشد الأعصاب وترسخ الأحقاد بيننا .. اعتقد البطالة هي من أهم الاسبا ب لكل ذالك ، بدا حميد موافقا حين أومأ له .
 كانت الحافلة تتهادى برفق على طريق الإسفلت المنحوت من جانبيه بفعل الثقل المفرط للشاحنات المنفرطة ذهابا وإيابا ، كان قد أدمنت استخدامه هذه السيارات الكبيرة في بداية النصف الثاني خلال عقد التسعينات.
 
ـ بالمناسبة سألتني قبل قليل عن العمل .. اقصد كيف عرفت انه اليوم هو الأول         بالنسبة لي ( كعامل تحت التجربة )في شركتكم..؟
 ـ ان الم اقل لك بأنها الفراسة فحتما انا وأنت شركاء في موقع العمل ..!
ـ بوضوح أكثر رجاءاٍ . .!
ــ أنت تعمل معنا في ورشة الصيانة .أنت العامل الخامس والعشرون ..
ــ ولكن لم أرك ..
ــ شكرا على هذا الآطراء ..
 لا عفوا أقصد، لم تلفت نظري  . المدير والملاحظ وجوه أخرى ربما أستطيع ان أميز بعضها حتى هذه أللحظة.. !
ــ ونحن أيضا لا نستطيع ان نميز ملامحك عدا هذا اليوم ..!
ــ على العموم هذه أمور جانبية ان نرتبط بعلاقة عمل رصينة هو ذا المهم ،  لان فترات تواجدنا في مقار اعمالنا تشكل ثلث الحياة وثلث مع عوائلنا وآخر الأثلاث هو موتنا الجزئي ، وخلال تواجدنا في هذا الثلث .. العمل اقصد .. ربما نقضي نصفه أو أكثر بين الجلوس والحديث والتأمل .. وكذلك الحال في ثلثنا الشخصي حين يجرنا الملل أو خلاف عائلي ما إلى النزوح و الاحتكام إلى النفس ، التي يبقى عوزها عسيرا قد يطاله المجنون الذي يسخر ثلثي حياته لها .
.
ــ كلامك جميل على الرغم من غموضه بالنسبة لي قليلا .. قد لا يروق لي النقاش مع احد مثلما اسمعه منك اليوم .
كلام رشيق وشفاف على خلاف المدير الذي هو متجهم على الدوام. بالمناسبة هو متميز هذه الأيام عن ذي قبل هنالك مرآة كبيرة في مقصورته ، يدقق في سحنته بين فينة و أخرى من خلالها وقد عكف على تلميع حذائه الذي صار أيضا كالمرأة لخطب ما في سريرته .. قالها وانفجر في نوبة ضحك جرت خصمه حميد في مشاركته على الأقل بابتسامة ، وأردف أنت العامل الخامس والعشرون ..
ــ علمت 
ــولكنك لا تعلم بان رقمك مستغل من قبل جهات هناك أو عصابات ، تحسم جميع الأزمات ماديا لصالحها ..
ـــ كيف يتم ذلك ؟
ــ ببساطة أجيبك أنت رقم لعامل وهمي كانوا يستحصلون الرواتب من خلاله لسنوات
ثم حدث وان  كشفوا أو بالا حرى فضحوا بعد ان تمادوا بالفعل ،لكنهم عادوا كرة أخرى  وبطرق شتى .. بطرق شتى
 ـ وكيف يتم ذلك . ؟
أقول لك : الجميع هنا يستنفر كل طاقاته من اجل الانقضاض على فرصة لا يسمح بان يستغلها غيره في حين يعدون خططهم بطريقة محكمة تؤمن لهم من خلال صمامات أمان ساعة الجرد والتفتيش .
 وبالأحرى ان رقمك كان مستغلا ًً باسم آخر وهمي..
 هنا كل شي وهمي الزمن العمل والعمال حتى المجاملات : الجادون منهم أمام كل هذا الانفلات أخذوا يتخبطون.
.. ـ عفواً انا لم أعرف أسمك ؟
ـ انا كريم
ــ حسناً انظر كريم  : كم مر من الزمن على عملك هنا في الشركة؟
ـ سنتين.. وفي نهاية الشهر سوف استلم راتبي الأول ..!
ـ عامان كاملان دون أي ..
ـ اجل وها انا الآن بعد عامين أجدك مثلي قبل عامين لاتعي شيئاً …
ـ لكنهم على طول هذه المدة استغلوا أسمي آو على الأقل رقمي ولسنوات
قدمت مثل أي شخص آخر  يبحث عن عمل وحسبي ان كل شي تم من قبيل الصدفة..
ـ حبيبي حميد هنا لا تلعب الصدفة أي دور وإذا تحسبها آنت صدفة فأن صدفة أخرى سوف تلعب دور خطير في إقصائك إذ أنت لا تعرف كيف تسوى هنا الأمور وتحسم لحساب ما ً، تكلم معك الملاحظ ..؟
 ـ اجل كلام عادي ..
ـ حسنا في المرة القادمة سيكون كلامه أبدا غير عادي  وذا جدوى اقتصادية… الصفقات الإنسانية هنا على قدم وساق ..                                                 ترجل كريم بعد ان توترت أجواء الحديث بينهم بهدوء دون إثارة أي ضجة مخلفا ورائه جملة من علامات الاستفهام ، وحميدالذي لم يعد متأكدا من وجوده أو عدمه ،
فالمصنع غريب كما هو غريب على أرضه ، يستنفر حواسه يبحث في جيب قميصه
عن هوية تحمل نفس الاسم المستلب ، واحد هو ربما  من عشرات أو حتى مئات متناثرين ها هنا وهناك وبنفس الصفة الوهمية ، يدفعون ضريبة العمل .. ويحلمون بغد أكثر إشراقا ، كل ذلك من اجل فرصة عمل توفر له في قابل الايام حياة كريمة .
تلاشت الأشياء رويدا .. المصنع ، الطريق ، حتى اسم وصورة الشخص الذي لم يكن وهميا لهذه اللحظة فحسب لكن ربما لشهور أو حتى لسنوات .
ضمن مجموعة ( المصور وقصص اخرى )