23 ديسمبر، 2024 10:59 ص

المصلحة الوطنية العليا أمانة بيد فرقاء العملية السياسية

المصلحة الوطنية العليا أمانة بيد فرقاء العملية السياسية

ليس بإمكان أي بلد من بلدان العالم المحافظة على إتزانه الطبيعي وطنيا، وسياسيا واجتماعيا وأمنيا واقتصاديا خاصة اذا تعرض للظروف المأساوية والسياسات الغاشمة المستبدة لفترات ما قبل سقوط السلطة السابقة، واشتداد الهجمة الارهابية والفوضى والاضطراب والخراب الذي أعقب عملية اسقاط تلك السلطة مثلما تعرض له العراق. وليس بامكان أية قيادة أو حكومة تسيير الأمور أو انجاز المشاريع بصورة اعتيادية وفق تلك الظروف ووسط تلك الأزمات. وهذا ما يجعلنا نخفف وطأة اللوم ونبسط لهجة العتب مع القادة السياسيين العراقيين وهم يسيرون بالعملية السياسية خطوة خطوة وبتأنّ وتعثر في عبور أسلاك الرحلة الشائكة وتجاوز مطبات وعقبات أعداء التجربة الجديدة. فوصولهم بالقافلة الى محطة المصالحة الوطنية الكبرى يعد انجازا ضخما وخاصة باجتماع أكبر مجموعة من الفرقاء السياسيين برغم اختلاط الأوراق وتداعيات المرحلة السابقة واجتهاد قوى التحريض الخارجية والداخلية في تخريب كل مسعى يهدف الى لم الشمل وجمع الكلمة واتمام الصف الوطني. حيث تحول هذا اللقاء الى مناسبة حقيقية للمكاشفة والحوار الصريح البناء بحيث استطاع الجميع قول ما يريدون والتصريح بما كانوا يخفون دون خوف أو وجل من مطاردة أو بطش أو تصفية. وعليه فإن ما سيتمخض عن هذه اللقاءات سيكون الشمعة الاولى في نفق المرحلة الراهنة وستنعكس معطياته حال توفير الفرص لاستثمارها. فالمصالحة الوطنية تشكل الخطوة الاولى على المسار الصحيح لتحقيق أهداف العملية السياسية الجديدة كونها استحقاقا وطنيا وليس منة أو مشروعا آنيا أو شعارا مرحليا كما انه استكمال لركائز الحياة الديمقراطية الدستورية إذ لا يمكن تصور نظام ديمقراطي تعددي من دون شراكة وطنية خالصة بعيدة عن التهميش والاقصاء شريطة ان تحتضن هذه الشراكة جميع الطاقات الوطنية الحرة بشقيها سواءا كانت من العهد القديم أم الجديد على ان لا يتم التغاضي عن حقوق ضحايا الحقبة السابقة والحقبة اللاحقة، أو السكوت عن الأعمال الاجرامية التي ارتكبها وما يزال يرتكبها أعداء التجربة الديمقراطية من المجرمين المدفوعين بعقد التسلط والاستحواذ أو المنفذين لأجندات أجنبية.
لا شك ان العراقيين جميعا أدركوا حاجتهم الماسة الى كسر الحواجز والقيود التي حرصت السلطات المتعاقبة على فرضها خلال الحقب السابقة وتسببت في اعتماد مبدأ المحاصصة الطائفية ما أخل بالتوازن الوطني وأدى الى ابتعاد الكثير من الشخصيات السياسية العراقية عن ساحة العمل السياسي الوطني فاعتكف من اعتكف وغادر من غادر وبذلك خسرت العملية السياسية الكثير من المخلصين العاملين في مجالات مختلفة كانت بحاجة الى خبراتهم المتراكمة وطاقاتهم الكامنة وامكاناتهم السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية علما ان أكثر تلك الطاقات كانت من النماذج السياسية والتكنوقراط المستفيدة من تجارب الشعوب وتقدمها خلال تواجدها في منافيها منذ ثلاثة عقود أو أكثر.
كما أدرك العراقيون بعد سنين من الاحتراب والخراب والتناحر معينين الهجمة الارهابية القادمة من خارج الحدود على أنفسهم ووطنهم – وخاصة بعد دخول وحوش داعش واتضانها من قبل ايتام صدام في الموصل وصلاح الدين والفلوجة وديالى – . أدركوا حاجة الوطن الجريح الى مشروع واسع للمصالحة والحوار الوطني لمواجهة التحديات التي صممت على تدمير العراق شعبا ووطنا. وعرفوا من خلال تجارب طويلة ان أي حوار بين أطراف متعددة لا يمكن تحقيق أهدافه إلا بوجود أرضية مناسبة تحدد فيها القواسم المشتركة التي هي محل توافق ورضى الجميع ولو في الحد الأدنى على أقل التقديرات على ان يصحب ذلك تنازل كل طرف عن بعض مطاليبه وإلا فإن أجواء التزمت والتشنج والتشكيك وإساءة الظن والأحكام السابقة والمواقف المتشددة لا تنتج إلا المزيد من التباعد ولا تؤدي إلا الى طرق مسدودة ومواقف أشد تشنجا وتباعدا. أنه من الطبيعي ان يحدث سقوط السلطة السابقة زلزالا في كافة أركان الدولة العراقية التي نشأت وترعرعت على منهج القمع والتعسف ولمدة أربعة عقود سود من الحكم العسكري الدكتاتوري ونتيجة ذلك لا بد ان تنشأ كتل وحركات وتتبلور مواقف بعضها مساند لعملية التغيير والبعض الآخر رافض ومشكك، وآخرون ساخطون ومناوئون لها. والآن وبعد مضي هذه الفترة الطويلة وما تخللها من أعمال قتل وخطف وتخريب وتهجير ودمار طالت جميع شرائح المجتمع وأتت على الكثير من بنى الدولة التحتية وبأمكر وأخبث وأخس الأساليب وأبشع وسائل الاجرام بعد سقوط الموصل وسيطرة الكورد على كركوك ..وبعد كل هذا الخطر والطوفان المحدق بكل العراقيين من دون تمييز ..بعد كل هذا لا بد ان يعي الجميع ان كل ذلك لم يلحق الضرر الا بالعراق وأهله، وأنه لا يمكن عودة المعادلة السابقة خاصة وان الثمن الذي دفعته الجماهير المكدودة يدفعها الى التشبث بأسس دولة القانون التي تقوم على العدل والديمقراطية واطلاق الحريات كما ان الأساليب الاجرامية التي تبناها أتباع السلطة السابقة زادت النفوس نفورا وأسقطت كل رموز تلك السلطة ومؤيديها في نظر الجميع، وهذا بدوره أقنع كل أطراف العملية السياسية بشقيها المؤيد والمناهض وأوصلهم الى حقيقة مفادها ان عجلة التغيير لن ترجع الى الوراء وان المواقف المتباعدة لا تفرز سوى الاحتقان والفشل المستمر وان لا جدوى من استمرارها بعد هذا الفصل الدموي من تاريخ العراق والذي قارب سنته الثانية عشرة، وان جراح العراق لا تندمل إلا على يد أهله، بحيث تحسس الجميع بضراوة الخطر الزاحف من الخارج والذي لا يستثني احدا، نتيجة التدخلات الخبيثة التي زادت الجراح عمقا ونزفا، فكان لزاما ان يهرع المخلصون- ممن تهمهم مصلحة العراق وشعبه الصابر- الى طاولة الحوار الأخوي البناء.
ولكي تحقق هذه الحوارات النتيجة المرجوة يتوجب على جميع الفرقاء الابتعاد عن النظرة الضيقة القائمة على تحقيق مصلحة آنية تصب في خدمة الكتلة أو الطائفة أو المنطقة والعشيرة ففي ذلك امتداد لثقافة الحزب الواحد التي أسست وتسببت في نشوء نظام المحاصصة والذي لم يستطع بناء دولة القانون والاستقرار بالرغم من مضي أكثر من عشر سنوات ونصف.
ومن هنا صار الإنتقال من مرحلة المحاصصة التي أثبتت إخفاقها الى مرحلة المصلحة الوطنية العليا على ان تتكثف جميع الجهود على ايجاد آليات جديدة للتخلص من كل المعوقات التي تعرقل تحقيق هذا المشروع الوطني.
ان فرقاء العملية السياسية أمام فرصة تأريخية للوصول بعملية التغيير الى بر الأمان بعدما توفرت أسباب اللقاء على مختلف الصعد وبعدما وصلت الأمور الى حافة المنعطف الحرج.. وبلغت القلوب الحناجر وليتذكروا ان الفرص تمر مرّ السحاب.