19 ديسمبر، 2024 10:40 م

المصريين بين مطرقة الأسعار وسندان سد النهضة!

المصريين بين مطرقة الأسعار وسندان سد النهضة!

موجات غلاء متتابعة شهدها الشعب المصري خلال السنوات الماضية، ورغم الالغاء التدريجي لدعم الدولة على المحروقات وفق خطة أعلنتها عام 2014، والذي يعد السبب المباشر لارتفاع الأسعار، إلا أن معدلات الدخل للفرد الواحد لا تزال ثابتة لدى الشرحة الأكبر من المجتمع المصري، لتتحول الأسعار لمطرقة تضرب بقوة على رؤوس المصريين الذين اعتادوا ترديد مقولة “ياما دقت على الرؤوس طبول”!.

ودون التطرق لتفاصيل خطة الحكومة لإرضاء صندوق النقد الدولي المبهر من تنحيف الجهاز الاداري البدين إلى رفع الدعم كاملاً عن المحروقات عام 2021، تتبدى أزمة أكبر في الأفق.

النيل.. رئة مصر لآلاف السنين وسر سبق حضارتها سائر الأمم، باتت تلك الرئة مهددة بالضمور بعد تنامي طموحات دول المنبع في تشييد سدود جديدة أسوةَ بإثيوبيا تروض مياه النيل وتحفظ أكبر قدر ممكن منها للأجيال القادمة.
سد النهضة أَم سد الألفية!، مسميات عدة يتم تناولها هنا وهناك تؤكد الحجم الهائل للمشروع الإثيوبي في أعالي النيل، لكن هناك زاوية لم يتطرق لها أحد من قبل عند تناوله للأزمة.

تسعير المياه، لا شك لكل سلعة سعر ما دامت ذات قيمة، والمياه حجر زاوية في تنمية وتطور أي دولة لذا ترى الحكومة الإثيوبية بقيادة ديسالين حتمية استغلال الميزة الجغرافية والجيوسياسية الاستراتيجية لميلاد نهر النيل في أراضيهم وتحويل تلك المياه لسلعة تُباع وتشتَرى بسعر باهظ يناسب درجة احتياج المستهلكين (مصر والسودان) لها هذا علاوة على توافر الظروف السياسية الممتازة في تلك البلدان من تحديات أمنية واقتصادية مجحفة لتتح الفرصة أمام أديس أبابا لتنفيذ مخططها.

وبنظرة أعمق، خلال العقدين الماضيين تطور مفهوم بالغ الأهمية لم يلتفت له أغلب الساسة والأكاديميين العرب وهو (المياه الافتراضية) والذي يعني عند تسعير أي سلعة لابد من قياس كمية المياه التي دخلت في تصنيع أو انتاج تلك السلعة واضافة قيمة تلك المياه لسعر السلعة نفسها، لذلك هى مياه افتراضية لأنها لا تُقَاس مباشرة وإنما بعد انتهاء الانتاج.

فصناعة السيارات على سبيل المثال يدخل بها المياه في كافة مراحل انتاج الخامات المستعملة بها لاسيما الدهانات والبلاستيك، وتعتبر المنتجات الغذائية والمنسوجات المثال الأقوى هنا في قياس قيمة المياه الافتراضية.

ومع تأخر العرب أكاديمياً وسياسياً في هذا المجال، باتت اسرائيل ذات السبق في تقدير قيمة المياه الافتراضية واضافتها لفاتورة الأسعار لكافة منتجاتها بالسوق الداخلي والخارجي خاصة، ويعتبر عامل ندرة المياه لديها الحافز الأهم لدفع تل أبيب في هذا السياق، فأغلب المزارع اليهودية بصحراء النقب تعاني من شح مائي تحاول تعويضه باحتياطي حوض نهر الأردن حيثما انتشرت المستوطنات اليهودية بضفته الغربية بسبب ندرة المياه في باقى أراضي اسرائيل، وعلى الرغم من تنبأ الكثيرين بـ “حروب المياه” في المستقبل بسبب الشح المائي الذي تجلى بعد التغيرات المناخية والاحتباس الحراري إلا أن حكومات المنطقة العربية لا تزال الأقل اكتراثا للأمر.

ومع اقتراب دخول سد النهضة الاثيوبي في الخدمة، سيصبح الفقر المائي المصري سيد الموقف وحديث الساعة حيث سينخفض نصيب الفرد من المياه بشكل هائل فضلاً عن معدله المنخفض بالفعل حالياً والذي يصل لنحو 675 متر مكعب فقط سنوياً. وبأخذ عامل الزيادة السكانية المستمرة في الحسبان مما يعني في المقابل ضرورة زيادة حصة مصر من المياه، سيواجه الاقتصاد المصري تحدياً أكبر حتماً لمواجهة “العوز المائي”.

وستصبح الحكومة المصرية أمام اختيارين، إما شراء المياه من إثيوبيا مما يعني حتماً نسخ سياسة الجار العبري في تطبيق معادلة “المياه الافتراضية” أملاً في تقليل استهلاك المياه محلياً لأدني مستوى وهو ما قد يمثل ضربة بالغة القسوة لكافة قطاعات الاقتصاد حيث سيضطر الفلاحين خاصةً لتحمل فاتورة باهظة لري الأرض فقط في حين يأن أغلبهم من وطأة أسعار الأسمدة المرتفعة حيث تجاوز ثمن طن اليوريا الـ 3200 جنيه، أو الحل العسكري وهو السيناريو المستبعد لتأخر صناع القرار بالقاهرة في تدبيره.

رفع الدعم عن الوقود وإضافة قيمة المياه الافتراضية عند تسعير السلع في مصر، كارثتان تلوحان في الأفق حيث ستزيد أسعار السلع بمعدلات لن يستطيع المواطن المصري تحملها حتماً ليقع ما بين مطرقة الوهن الاقتصادي الحالي وما بين سندان تبعات سد إثيوبيا.

هذا الواقع الخطير الذي ينتظرنا بالمستقبل القريب يمكن تفاديه بقرارين فقط وهما خلق طاقة بديله للنفط والدبلوماسية الخارجية الفعالة لحشد الحلفاء الإقليميين والدوليين ضد سد اثيوبيا.

ويعتبر تأخر الملف النووي المصري السبب الأهم وراء أزمة ارتفاع الأسعار الحالية التي تعد رهينة لرفع دعم الدولة عن المحروقات وعدم توفير البديل النووي.
وأديس أبابا عاصمة لبلد يعيش في قرون متأخرة إلا أن حكومتها نجحت في استغلال ثغرات الدبلوماسية المصرية خلال الأربعون عاماً الماضية من الابتعاد المتعمد عن أفريقيا التي طالما شكلت الفناء الخلفي لمصر.

أزمات وقرارات.. معادلة بالغة الصعوبة إن لم تتداركها الحكومة ستصبح الأمة برمتها أسيرة التآكل والانهيار الداخلي.

أحدث المقالات

أحدث المقالات