19 ديسمبر، 2024 7:16 ص

المصالحة الوطنية من جوهانسبرغ الى بغداد

المصالحة الوطنية من جوهانسبرغ الى بغداد

ودع العالم اليوم رجل الحرية والمصالحة والسلام الاجتماعي في القارة السوداء وجنوب افريقيا تحديدا نيلسن مانديلا, وقد تجاوز عقده التاسع من عمره,ليبقى رمزا فريدا لبناء المجتمعات المتعددة الثقافات والاعراق, بقيادته لثورة بيضاء تقريبا.
ولكن هل تصلح تجارب عفى الله عما سلف التي اتبعها مانديلا مع خصومه او سجانيه واعداء لونه الافريقي في المجتمعات المتشبعة بثقافة وروح الثأر والانتقام القبلي العشائري,
بالطبع الامر مختلف جذريا, فتعميم مثل هكذا تجارب او استنساخها حرفيا بالشكل والنمط والاسلوب الذي اتبعه مناديلا مع النظام العنصري الابيض,لن يجلب الا الخراب ومزيدا من نزيف الدم المتبادل بين طرفي او اطراف النزاع,فالتجربة العراقية لم يكتب لها النجاح اطلاقا,لان العدو الذي جاء بطريقة الانقلاب الدموي الى السلطة(مستغلا سلسلة من الانتكاسات السياسية السابقة بما فيها انتكاسة الزعيم عبد الكريم قاسم واطلاقه اعدائه
 او خصومه من السجن)
وحارب الشعب بطريقة وحشية لمدة  طويلة تجاوزت الاربعة عقود,وكذلك ادخاله البلاد في دوامة الحروب ومغامرات التوريط الامريكي في نهايات الحرب الباردة واحتلاله الكويت1990,
كلها امور تمنع تطبيق برنامج المصالحة الوطنية مع اشخاص كانوا يتمادون في ترويع وتعذيب المعارضين, بل احيانا تمارس هذه الاساليب القمعية حتى مع الناس الابرياء,بينما لم تكن انجازات مناديلا شخصية بحتة, انما كانت هناك عوامل موضوعية ساهمت في نجاح ثورة التغيير الشبه سلمي في بلاده,بما فيها تراجع رئيس الدولة البيضاء للفصل العنصري في جنوب افريقا دي كليرك عن بعض المطالب الخاصة بالعرق الابيض وتقسيم البلاد اتحاديا,ومثل هذه الاجراءت نادرة الحدوث في الانظمة العنصرية الدكتاتورية,الا انها تحققت بفعل الاختلاف الثقافي والتاريخي والحضاري
 بين امة واخرى
من جهة اخر ى نرى ان اغلب اساليب الانظمة العربية المستبدة  قطعية ومتطرفة في العداء مع الخصوم, اي انها لاتعمل ولاتؤمن بخطوط الرجعة مع الشعب او المعارضين لها,لو كان اي من هذه الانظمة يحكم جنوب افريقيا لما ترك مانديلا في السجن27 عاما ,بل تتم تصفيته منذ الوهلة الاولى لاستلام السلطة ,
(عدا بعض التجارب,كالتجربة المصرية وبعض الدول العربية القليلة جدا),كان يقول رفسنجاني ابان الحرب العراقية الايرانية,لو كان الشاه مثل صدام لما نجحت الثورة الايرانية,وهذا بالفعل ماتم مناقشته من قبل صدام بعد نجاح الثورة الايرانية,
حيث قال لجلاوزته في احد اجتماعاته الموثقة ,ان خطأ الشاه يكمن في انه لم يخرج من طهران الى مكان امن, ومن ثم يقوم بقصفها بالمدافع ومختلف الاسلحة واحتلالها من جديد.
التفكير في المصالحة على حساب تطبيق العدالة,لمجرمين متورطين في جرائم الابادة الجماعية واستخدام اسلحة محرمة دوليا لضرب الشعب ولاكثر من مرة,امثال اتباع النظام البائد, تعني انك تصنع خارجين جدد على القانون والنظام والدستور, وفتح جبهة كبيرة من اناس متمرسين في الجريمة والارهاب والقتال,وهذا مانراه يوما في العراق,بل حتى العدو الجديد الذي دخل البلاد بعد عام2003اي الارهابيين التكفيريين,لايمكن الوثوق او التصالح معهم لان العقائد الشاذة التي يؤمنون بها لايمكن ان تذيبها الكلمات والمجاملات وقوانين العفو العام,
ولكن مع من يمكن ان يتصالح الشعب والحكومة وضحايا الانظمة البائدة,هنا يمكن ان يستفيد الجميع من تجربة جنوب افريقيا,التصالح من توابع النظام المستفيدين من عطاياه وهباته ومكرماته ومنحه الخاصة,في العراق هناك شرخ وجرح والام سببها النظام البائد,وهي جراح رطبة لازال الشعب او ضحاياه يشعرون ويتحسسون بأثارها وندباتها,وهي بحاجة للتغيير والمداواة الصحيحة,بعد ترسخت في ذاكرتنا صورة   عامة عن طائفيته المقيتة في جميع سياساته المتعجرفة الاستبدادية المذلة لبقية المكونات,وهذه الحالة لايمكن زوالها بعبارات التوافق الوطني والتلاحم الاجتماعي الشكلي,
فالكردي لازال يرى العربي بصورة النظام البائد مع بعض الاختلافات المتأرجحة,ولهذا يحاول السباق مع الزمن لبناء شيء على الارض, ليقترب من الهروب البطيئ من الوطن الكبير,والشيعي لازال يرى الديمقراطية حلما لم يصبح حقيقة بعد,والسني المعتدل اصبح ضحية الارهاب والتهميش النسبي,لانه لايمتلك البديل السياسي,وهكذا تدور دائرة الوطن الممزق بشضايا التاريخ الدموي المتجدد.
المصالحة ليست بنادق تعطى للشباب والاهالي الهاربيين من جحيم الارهاب وشروره,ولايمكنها ان تنموا وتعطي الثمار بندوات وجلسات ومنح مالية او رواتب شهرية,المصالحة تتبناها النخب الاجتماعية والدينية والثقافية والاكاديمية,وتتبنى رعايتها كاملة الدولة,لتمد جسور الثقة الوطنية بين جميع مكونات الشعب العراقي دون استثناء او تمييز,ولكن ما رأيناه في الفترة الماضية والحالية والتي يبدوا انها ستستمر على اقل تقدير في المستقبل المنظور,هي ان المكون الواحد انقسم على نفسه,واصبحت كل الاقليات الاخرى تشعر انها وحيدة على طاولة تقسيم كعكة المناصب والمنافع والامتيازات السياسية,وباتت جميعها تنادي بحصة عرقية او اثنية او طائفية,ولازالت الانشطارات والمؤامرات والانتكاسات مستمرة,تحت وابل ضربات الارهاب المتكررة والمتصاعدة في كل مكان من بلادنا.
المصالحة لن تنج دون تكون هناك اليات وطنية واضحة للتفريق بين المجرم والمغرر به,وبين ان تأخذ العدالة مجراها ,وبين من يطالب بفتح السجون جميعها.

أحدث المقالات

أحدث المقالات