18 ديسمبر، 2024 6:07 م

المصالحات الاقليمية ودبلوماسية بغداد الناجحة

المصالحات الاقليمية ودبلوماسية بغداد الناجحة

يؤشر الحراك الاقليمي المتعدد الاتجاهات والمصادر والمستويات، خلال الشهور الستة المنصرمة، الى ثلاث حقائق مهمة، من شأنها رسم وصياغة معالم وملامح المشهد العام في المنطقة خلال العام الجديد وما بعده، دون ان يعني ذلك تلاشي وغياب المشاكل والازمات في جغرافيا سياسية معقدة وشائكة ومتقاطعة في مصالح واجندات ومشاريع واصطفافات وولاءات اطرافها ومكوناتها السياسية والمجتمعية.

والحقائق الثلاث هي:

-الاستنزاف الكبير الذي تسببت به الصراعات والحروب والمواجهات السياسية والعسكرية والاعلامية وحتى الدينية والمذهبية، طيلة اعوام طويلة، لكل الاطراف دون استثناء، وضرورة البحث في خيارات اخرى اقل كلفة واكثر فائدة وجدوى.

-التبعات والاثار والانعكاسات السلبية الكارثية للتدخلات الدولية في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وتنامي مظاهر التفكك والانقسام والتشضي والتناحر، وهيمنة مظاهر التوتر والاحتقان الدائم على عموم اجواء المنطقة.

-هناك الكثير من نقاط الالتقاء، ومساحات المصالح المتبادلة والقواسم المشتركة بين دول وشعوب المنطقة، التي يمكن ان تؤسس لتفاهمات ومصالحات حقيقية، بعيدا عن التشبث بعقد واشكاليات تأريخية وسياسية ومذهبية وطائفية، لايمكن بأي حال من الاحوال الغائها او تجاهلها او القفز عليها، بقدر ما يمكن التعاطي معها بواقعية وايجابية.

ابو ظبي، ربما كانت الطرف الاكثر ديناميكية وحراكا على الفضاء الاقليمي، لاسيما الاطراف المتقاطعة والمتخاصمة معها منذ زمن غير قصير، وكانت اولى خطوات الحراك المعلنة نحو العاصمة السورية دمشق، حيث زار وزير الخارجية الاماراتي عبد الله بن زايد سوريا في التاسع من شهر تشرين الثاني-نوفمبر الماضي، والتقى الرئيس بشار الاسد، واكد حرص بلاده على دعم الاستقرار في سوريا، وعودتها الى الحضن العربي، علما ان تلك الزيارة كانت الاولى من نوعها منذ عشرة اعوام، اي منذ اندلاع الازمة السورية في عام 2011.

وفي الرابع والعشرين من نفس الشهر، اي بعد اسبوعين، حطت الطائرة الاماراتية التي كانت تقل ولي عهد الامارات محمد بن زايد ال نهيان في مطار انقرة، بعد قطيعة دامت عشرة اعوام بين تركيا والامارات، وحظي بن زايد بحفاوة بالغة من الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، واسفرت الزيارة عن ابرام عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والتفاهمات الامنية والسياسية حول بعض الملفات الاقليمية الشائكة.

ولم يمر اسبوعين، الا وكان مستشار الامن القومي الاماراتي طحنون بن زايد في العاصمة الايرانية طهران في زيارة رسمية معلنة هذه المرة، بعد اكثر من زيارة سرية، بناء على دعوة من الامين العام لمجلس الامن القومي الايراني الادميرال علي شمخاني، وقد عقد بن طحنون سلسلة لقاءات واجتماعات مع كبار المسؤولين الايرانيين، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية السيد ابراهيم رئيسي، ولم يكن طحنون محتاجا الى من يترجم له، حينما وجد شمخاني يتحدث معه بالعربية بعيدا عن سياقات وضوابط البروتوكول. وتمحورت المباحثات بأتجاهين، الاول، تطوير العلاقات بما يعزز مصالح وامن كلا الطرفين، وخصوصا الاقتصادية والتجارية، والثاني يتمثل بتبديد المخاوف والهواجس الايرانية من الانفتاح الاماراتي السريع والمحموم على الكيان الصهيوني. وبقيت الجزر الثلاث المتنازع عليها منذ خمسة عقود بين طهران وابو ظبي خارج دائرة اجندة زيارة طحنون حتى لاتختلط الاوراق وتتكدر الاجواء.

وقبل طهران، كان مستشار الامن القومي الاماراتي قد زار كل من انقرة والقاهرة، وتواصل مع عواصم اقليمية اخرى. وخلاصة الحراك الاماراتي، اوضحها المستشار الدبلوماسي لرئيس الامارات، انور قرقاش، بقوله “إن أبوظبي تعمل حاليا على تعزيز العلاقات وبناء وترميم الجسور مع الجميع، وأن اختلاف المواقف لن يحول دون تعزيز العلاقات الاقتصادية”.

وعلى نفس الايقاع، وان كان بوتيرة ابطأ نوعا ما، راحت الرياض تتحرك وتمد الخيوط وترسم الخطوط، وبدأ ذلك بصورة اوضح مع طهران، ارتباطا بأربعة عقود من تراكم الخلافات والاختلافات والتقاطعات، وما شيدته من جدار عال بين الطرفين، بدا في كثير من الاوقات انه من الصعب تحطيمه وهدمه.

واذا كانت ابو ظبي قد ذهبت الى خصومها، ومن بينهم طهران، مباشرة، دون الحاجة الى قنوات اتصال ووسطاء، فأن الرياض اختارت ان تكون بغداد بوابتها وقناة اتصالها الرئيسية مع طهران، وكذلك كانت رغبة الاخيرة، مع العلم ان العاصمة العمانية مسقط، لم تكن بعيدة عن الاضطلاع بدور نسبي في هذا السياق، كما هو دأبها في توظيف علاقاتها الايجابية مع مختلف الفرقاء، ودبلوماسيتها المعتدلة والمتوازنة، بأتجاه احتواء وحلحلة المشاكل والازمات.

احتظنت بغداد عدة جولات للحوار السعودي-الايراني خلال العام الجاري 2021، افضت الى كسر الجمود واذابة بعض الجليد، والشروع بخطوات ومبادرات ايجابية بعدد من الملفات الثنائية والملفات الاقليمية، وجرت الجولة الاولى في اواخر شهر نيسان-ابريل الماضي، تبعتها ثلاث جولات، تمحورت بشكل عام على اعادة فتح السفارات، بعد ستة اعوام من القطيعة الدبلوماسية على خلفية اقتحام متظاهرين ايرانيين مبنىى السفارة السعودية في طهران اثر اقدام السلطات في الرياض على تنفيذ حكم الاعداد برجل الدين الشيعي الشيخ نمر النمر، وكذلك السعي الى فتح قنصلية ايرانية في مدينة جدة وقنصلية سعودية في مدينة مشهد.

وبعد ان قبلت الرياض الوساطات العراقية والعمانية لاعادة السفير الايراني في اليمن حسن ايرلو الى بلاده جراء تدهور صحته بفعل اصابته بفايروس كورونا، منحت تأشيرات دخول لثلاثة دبلوماسيين ايرانيين لتمثيل بلادهم في مقر منظمة التعاون الاسلامي في مدينة جدة.

الى جانب ذلك، فأن العاصمة الاردنية عمّان، شهدت في الثالث عشر من شهر كانون الاول-ديسمبر الجاري، لقاءات بين مسؤولين امنيين ايرانيين وسعودييين. وبحسب وكالة الانباء الاردنية الرسمية(بترا)،تضمنت الاجتماعات التي استضافها المعهد العربي لدراسات الامن، وهو مؤسسة قريبة جدا من الحكومة الاردنية، مناقشة وبحث عددا من القضايا الأمنية والتقنية، من بينها الملف النووي الإيراني، الحد من تهديد الصواريخ وآليات الإطلاق، والإجراءات الفنية لبناء الثقة بين الطرفين وتحديدا فيما يتعلق ببرنامج إيران النووي، والتعاون في مجال الوقود النووي”.

وليس ببعيد عن الحراك الايجابي الملموس بين طهران والرياض عبر بوابة بغداد، التقارب السوري السعودي، الذي بدا واضحا منذ الشهور الاولى لعام 2021، رغم ان خطواته لم تخرج للعلن بالكامل،بيد ان ما ظهر منها حتى الان، يؤشر الى ان الامور سائرة بالاتجاه الصحيح، وان هناك رغبة وجدية لدى الطرفين بفتح صفحة جديدة، محورها القبول السعودي بالنظام الحاكم في دمشق، بعدما كانت الرياض ومعها عواصم اخرى، ترفض اي خيار سوى ذهاب ذلك النظام، بأرادته او رغما عنه.

ولعل ابرز خطوات اعادة المياه الى مجاريها بين دمشق والرياض، تمثل بزيارة رئيس المخابرات السعودية خالد الحميدان لسوريا مطلع شهر ايار-مايو الماضي، ولقائه الرئيس السوري بشار الاسد ونائبه للشؤون الامنية علي مملوك، اضافة الى مسؤولين سياسيين وامنيين كبار.

وحتى بالنسبة للتقارب السوري السعودي، فأن بغداد كان لها دور في ترطيب الاجواء وترتيب اللقاءات بمستويات مختلفة، والزيارات التي قام بها رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض لدمشق، ومسؤولين عراقيين اخرين الى الرياض، مهدت بشكل كبير لكسر الكثير من الحواجز بين دمشق والرياض، بصورة متناغمة ومنسجمة مع كسر الحواجز وتذليل العقبات بين الاخيرة وطهران، والذي اكد وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين خلال زيارته الاخيرة لايران منتصف الشهر الجاري، وفي مناسبات سابقة، أن الحكومة العراقية ترىفي الحوار الايراني-السعودي، جزءاً رئيسياً من الحل لتحقيق الأمن والاستقرار بالعراق والمنطقة عموما، موضحا، “ان العراق يعمل على ترطيب العلاقات المتوترة من خلال فتح قنوات للحوار البناء، لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء في منطقة الشرق الأوسط”.

ورغم ان مواقف الرياض، ومعها ابو ظبي، لم تكن ايجابية وطيبة حيال بغداد بعد الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، ورغم انه مازالت هناك العديد من الملفات والقضايا العالقة بين الطرفين، لاسيما ملف الارهابيين السعوديين في السجون العراقية، فأن رؤية بغداد تقوم على مبدأ ان حلحلة مجمل العقد والخلافات والاختلافات، من شأنه ان يساهم في تكريس وترسيخ الاستقرار الامني والسياسي، وتعزيز الازدهار الاقتصادي لكل دول وشعوب المنطقة، ويقطع الطريق على التدخلات والاجندات والمشاريع الخارجية، التي لا تفاقم الامور الا سوءا، عبر استفحال مظاهر التفكك والانقسام والتشضي والحروب والصراعات الداخلية.

ولأن الملفات متداخلة، والقضايا شائكة، فإنه مع مرور الوقت ترسخت لدى الأوساط والمحافل السياسية والشعبية العراقية قناعة مفادها، ان استمرار التأزم والخلاف بين السعودية وايران، وبين عموم الاطراف الاقليمية، يعني بقاء الوضع السياسي والامني والاقتصادي العراقي متأزما ومتوترا وقلقا ومضطربًا على الدوام.

دبلوماسية بغداد الناجحة، التي انطلقت خطواتها الاولى في عهد رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، وتواصلت بوتيرة اسرع وبنطاق اوسع في عهد الحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي، شكلت محور الحراك الدبلوماسي الاقليمي، والعنصر الدافع له، ولاشك ان تواصلها يعني فيما يعنيه رسم وصياغة معالم وملامح مرحلة من الهدوء النسبي ورجحان كفة الحوار على كفة الصدام، وان كانت النتائج والمخرجات والمعطيات بطيئة ورتيبة ومرتبكة.

————————-

*كاتب وصحافي عراقي