من دون ادنى شك لايحتاج العراقيون الى صدور بيان رسمي من ما يسمى بـ”دولة العراق الاسلامية” التابع لتنظيم القاعدة يعلن فيه مسؤوليته عن عملية اقتحام وزارة العدل التي جرت يوم الخميس الماضي، وتسببت بأستشهاد وجرح العشرات من موظفي الوزارة ومنتسبي الاجهزة الامنية، حتى يتأكدوا ان “تنظيم القاعدة” هو من يقف وراء ماحصل، وقبل ان يعلن التنظيم مسؤوليته عن العملية، فأن مجمل الدلائل والمؤشرات والمعطيات ذهبت الى ان ذلك التنظيم هو المخطط والمنفذ، واذا كانت هناك اطراف اخرى قد شاركت في التخطيط او التنفيذ فأن ادوارها كانت مكملة وليست اساسية.
ومن هذه الدلائل والمؤشرات والمعطيات:
-ان العملية كانت انتحارية، ومعروف ان تنظيم القاعدة والاجنحة التابعة له هي التي تتبنى هذا الاسلوب الذي غالبا مايستهدف عموم الناس بلا تمييز فيما بينهم، فخلال العشرة اعوام الماضية تسببت عشرات-او مئات-العمليات الانتحارية في الاسواق وامام المدارس والجامعات والمستشفيات ومراكز التطوع وغيرها من المؤسسات الحكومية والاماكن العامة، بأزهاق ارواح اعداد هائلة من الناس الابرياء.
-ان عملية اقتحام وزارة العدل تشبه الى حد كبير-ان لم تكن تتطابق-مع عمليات ارهابية سابقة تبنتها “دولة العراق الاسلامية” مثل عملية اقتحام مبنى مديرية مكافحة الارهاب في العاصمة بغداد في اواخر شهر تموز-يوليو الماضي، والتي كان يراد من ورائها اطلاق سراح عشرات الارهابيين المعتقلين في تلك المؤسسة، وقد جاءت عملية الاقتحام ضمن مخطط اطلق عليه “هدم الاسوار”، اي هدم اسوار السجون واطلاق سراح المعتقلين منها، وتبعتها بعد شهرين عملية اقتحام سجن تسفيرات محافظة صلاح الدين(تكريت)، ولم تختلف الاخيرة عن سابقتها من حيث اليات التخطيط والتنفيذ. وكتبنا في حينه تحت عنوان (سجن تكريت.. والبقية تأتي) ..”ما الذي يمنع تكرر حصول ما حصل في سجن تكريت في اي مكان اخر يمكن ان يكون داخل المنطقة الخضراء التي يقال عنها انها شديدة التحصين، فقبل بضعة ايام قامت مجموعة ارهابية باغتيال اربعة من الحراس الامنيين في احد مداخل المنطقة الخضراء بكواتم الصوت في وضح النهار، ومن يستطيع ان يقتل الحراس بهذه السهولة، كيف لا يمكنه اختراق المنطقة الشديدة التحصين والقيام بعمل انتحاري يستهدف احدى المؤسسات او الشخصيات هناك وهي كثيرة جدا؟”.
ولعله خلال الاعوام الثلاثة الاخيرة شهد العراق عمليات ارهابية مماثلة عديدة من بينها اقتحام البنك المركزي وسط بغداد في منتصف شهر حزيران-يونيو 2010، واقتحام مبنى مجلس محافظة صلاح الدين-تكريت في نهاية شهر شباط-فبراير 2011، واقتحام مديرية التحقيقات الجنائية في محافظة الانبار في منتصف شهر كانون الثاني-يناير 2012.
-جاءت العملية بعد تهديدات واضحة وصريحة وعلنية اطلقتها شخصيات دينية وسياسية من على منابر التظاهرات الجماهيرية في محافظة الانبار ومدن اخرى، علما ان تلك الشخصيات معروفة بتطرفها وتكفيرها للاخر، وتناغمها مع اطروحات تنظيم القاعدة واهدافه، ناهيك عن اجنداتها المتمثلة بأسقاط الحكومة وافشال العملية السياسية برمتها.
ان اتفاق مجمل الاطراف والقوى السياسية ومعها الشارع العراقي على نقطة مهمة وحساسة وخطيرة، تتمثل في ضعف الاجهزة الامنية واختراقها من قبل الجماعات الارهابية، يعبر في واقع الامر عن قراءة ورؤية موضوعية للمشهد الامني العام في البلاد.
فهناك من قال ان عملية الاقتحام تعد خرقا نوعيا كبيرا في هذه المناطق الحساسة، وانها تثبت هشاشة وضع السيطرات والأجهزة الامنية والضعف الاستخباراتي.
وهناك من قال ان تنظيم القاعدة مازال لديه إمكانية عالية من ناحية التحرك ومباغته القوات العراقية، وعلى القوات الامنية ان تعلم انها تواجه عدواً شرساً متمرسا في هذا المجال وهو تنظيمات القاعدة.
وهناك من قال، ان هناك غياب للمعلومة وضعف للجهد الاستخباري وهناك ضربات استباقية وتراخي في القيادات الامنية، ولابد من اعادة النظر بالقيادات الامنية والخطط.
وكل ماقيل صحيح بصرب النظر عن الدوافع والاهداف.
واذا كان تنظيم القاعدة قد نجح في اختراق واحدة من اهم المؤسسات الحكومية، وفي منطقة تعتبر وفق الحسابات والمعايير الامنية محصنة، فأنه من الصعب، بل من غير المعقول الادعاء بأن عملية الاقتحام فشلت لان افراد المجموعة الارهابية التي هاجمت الوزارة قد قتلوا جميعهم، لان هؤلاء المهاجمين لم يكن من بين اهدافهم النجاة والبقاء على قيد الحياة، اذ ان ثلاثة او اربعة منهم فجروا انفسهم في اماكن مختلفة من مبنى الوزارة ليتيحوا لزملائهم الوصول الى حيث يريدون، وقد قيل ان وجهتهم الحقيقية كانت الطابق الثالث، اذ توجد ملفات الاحكام المختلفة بحق المعتقلين.
بيد ان تقريرا سريا صدر مؤخرا من مستشارية الامن الوطني وكان موجها الى رئيس الوزراء نوري المالكي، وتسربت فقرات منه الى وسائل الاعلام يتحدث عن ان عملية اقتحام وزارة العدل ليست الا “بروفة” –او مقدمة-لاقتحام مبنى مجلس الوزراء في داخل المنطقة الخضراء.
حيث يؤكد التقرير ان كل المعطيات والظروف التي رافقت عملية اقتحام وزارة العدل تشير إلى أن العملية كانت تدريباً لتنفيذ عملية اكبر وأخطر قد تكون في المرة المقبلة اقتحام منطقة رئاسة الوزراء باتجاهين, المدخل من منطقة فندق الرشيد والمدخل القريب من شارع وزارة الخارجية، وانه تبين من خلال بعض القرائن أن عملية اقتحام وزارة العدل كانت تهدف الى معرفة حجم القوات الامنية التي يعتمد عليها المالكي في المنطقة المحيطة بمداخل رئاسة الوزراء, حيث تقع شبكة الاعلام العراقي، ومجلس محافظة بغداد، ووزارة الخارجية، والسفارة الايرانية، والطريق المؤدية الى مدخل وزارة الدفاع.
ويشير التقرير الاستخباراتي الى “ان اكثر من خمسة تفجيرات بسيارات مفخخة وعبوات ناسفة تمت بتنظيم عال في نقطة التقاطع الى مدخل رئاسة الوزراء ووزارة العدل في كراج علاوي الحلة وسط بغداد, غير ان هذه التفجيرات لم تكن فعالة بالمستوى المتوقع, وبالتالي كان هدف تفجير هذه السيارات والعبوات, تحديد ردود فعل القوات الموجودة والكامنة لحماية المنطقة ومن اي مواقع ستخرج, كما ان اقتحام مبنى وزارة العدل تم بواسطة انتحاريين اكتفوا بتفجير الطابق الاول واغتيال الحرس, رغم ان الظروف كانت مهيئة لاحتلال مبنى الوزارة بالكامل واحتجاز رهائن وتحقيق خسائر اكبر بكثير مما حصل, ما يدل على ان الهجوم تكتيكي”.
ونوهت مستشارية الامن الوطني في تقريرها الى الخطأ الذي وقعت به القوات الامنية, والمتمثل بحركتها بصورة عفوية مفرطة من مواقعها بحيث عرفت بنفسها وبالطرق التي تسلكها في حالات التصدي لهجمات داخل هذه المنطقة الحيوية.
ونصحت المالكي بأن يعيد النظر بخطة الانتشار العسكري في المنطقة المحيطة برئاسة الوزراء وبأعداد القوات المتمركزة وانواعها وتسليحها بسرعة, لان اي هجوم متوقع لاقتحام مداخل المنطقة الخضراء سيتضمن تفجير عدد كبير من العبوات والسيارات قد يبلغ عددها العشرين سيارة وعبوة وبأطنان من المواد المتفجرة, لإثارة الهلع وقتل اعداد كبيرة جداً من الاشخاص, يعقبها اقتحام مسلح للمنطقة اما بواسطة سيارات الاسعاف التي ستكون محملة بأعداد كبيرة من المسلحين او بقوات ترتدي زي الجيش ستأتي من خارج المنطقة وقد يبلغ تعدادها اكثر من مئة مسلح.
وحتى لو بدى ان هناك نوعا من المبالغة في تقرير مستشارية الامن الوطني، الا ان الافتراضات والاحتمالات التي يتضمنها تتسم بقدر كبير من الواقعية، خصوصا وان تكرار وقوع هجمات ارهابية على مواقع ومراكز حساسة في بغداد ومدن اخرى يؤكد حقيقتين مؤلمتين بالنسبة لرجال السياسة والامن العراقيين المعنيين بزمام الامور، الحقيقة الاولى هي ان الجماعات الارهابية مازالت تمتلك القدرة على التحرك والفاعلية من دون ان تكون ملزمة بتغيير وتعديل الكثير من سياقات عملها، مستفيدة من الازمات السياسية في البلاد، وقدرتها على تجنيد عملاء لها من داخل الاجهزة الامنية والعسكرية، والحقيقة الثانية، تتمثل في ان الاخيرة مازالت ضعيفة ومخترقة ومتعددة الولاءات وتفتقر الى المهنية والحرفية الكافية التي تجعلها قادرة على الامساك بزمام الامور.
وطبيعي ان وصول الجماعات الارهابية الى داخل المنطقة الخضراء-علما ان تلك المنطقة شهدت في اوقات سابقة عمليات ارهابية محدودة استهدفت مجلس النواب، فضلا عن كشف مخططات لادخال اسلحة ومتفجرات، او وضع اليد على قسم منها-يعني في ظل الاحتقانات السياسية الحادة واتساع الهوة بين الفرقاء، وارتفاع وتيرة الشد الطائفي بفعل عوامل داخلية وخارجية، يعني ان كل الاحتمالات قائمة، وان المشهد يمكن ان يتكرر في مواقع اكثر حساسية من وزارة العدل، والمسافة هنا لن تتجاوز بضعة مئات من الامتار!.