اشرت جملة من الوقائع والمعطيات خلال الاسابيع القلائل الماضية، الى ان الازمة الكردية بأبعادها وجوانبها المختلفة تتجه الى المزيد من التصعيد، وليس العكس، واكثر من ذلك، انها تنحدر الى نقاط حرجة ومنعطفات خطيرة للغاية، ربما لم تكن مسبوقة طيلة الفترة الزمنية التي اعقبت سقوط نظام صدام، التي عززت جوانب مهمة من خصوصيات الوضع الكردي، سياسيا وامنيا واقتصاديا.
التظاهرات الاحتجاجية للملاكات التدريسية للمدارس والجامعات في مدينة السليمانية، التي يتقاسم النفوذ فيها كل من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وحركة التغيير(كوران)، حيث امتدت لعدة اسابيع، ولم تتوقف حتى الان، كان الدافع والمحرك الاساس لها تأخر وتقليل الرواتب، بيد ان البعد السياسي فيها كان وسيبقى حاضرا بقوة، لانها موجهة ضد سلطات الاقليم العليا في اربيل، والتي يمسك بمفاصلها الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، ومن البساطة بمكان تلمس البعد السياسي من طبيعة بعض الشعارات الصريحة الموجهة ضد البارزاني وحزبه.
وقد يكون على حق من يقول ان هناك احزابا وشخصيات في السليمانية تقف وراء تنظيم تلك التظاهرات الواسعة والمتواصلة، في اطار الجهد المحموم لتضييق الخناق على البارزاني، وبالتالي ارغامه على التنحي عن السلطة.
ولو لم يكن هناك بعد سياسي في موضوعة التظاهرات، لما اقتصرت على السليمانية دون اربيل ودهوك الخاضعتان لنفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني، علما ان الظروف الحياتية الضاغطة على الموظفين، ومن ضمنهم المعلمين والمدرسين، هي ذاتها هنا وهناك.
ولعل تظاهرات السليمانية تمثل الجزء الاكبر والاوضح من صورة الموقف الرافض للبارزاني، فهناك الاستهدافات المتكررة لبعض مقرات ومكاتب وكوادر الحزب الديمقراطي في السليمانية وتوابعها، والحملات الاعلامية الممنهجة في قنوات فضائية وصحف وشبكات التواصل الاجتماعي ضد مجمل المنظومة الحاكمة في اربيل.
ولم يكن ممكنا لاربيل ان تتجاهل مايجري في السليمانية طويلا، وقد تكون الرسالة التي وجهها الرئيس مسعود البارزاني في العشرين من شهر تشرين الثاني—نوفمبر الماضي، الى الاحزاب والقوى الكردية، وطالب فيها باختيار بديل مؤقت عنه لحين اجراء انتخابات رئاسة الاقليم، قد تكون تلك الرسالة بمثابة الصدى لتظاهرات السليمانية.
وقد قال البارزاني في رسالته “اتصل بي عدد من السياسيين والاكاديميين في الايام القليلة الماضية، وقالوا بأن رأيهم ورأي عدد من المواطنين يقول بأن حل الازمات التي يمر بها إقليم كوردستان هو لدي، ويقال بأن البارزاني يستطيع حل هذه المشاكل، وانا كأي مواطن كردستاني، اتمنى ان تحل جميع هذه الازمات والمشاكل وبشكل نهائي، ولكن المشاكل الحالية كثيرة، بعضها متصل بالوضع السياسي والاقتصادي والأمني في العراق والمنطقة بشكل عام، مثل هجمات داعش، وانخفاض اسعار النفط، وقطع رواتب موظفي إقليم كردستان، واستضافة مئات الآلاف من النازحين، وبعض المشاكل الأخرى هي داخلية وسببها الصراعات السياسية في إقليم كردستان، واذا كان حل المشاكل السياسية الداخلية في إقليم كردستان عندي، كم مرة قمت بدعوة الأحزاب السياسية للإجتماع، إلا انهم لم يحضروا تحت اعذار متنوعة، وطالبت ايضا بأن تجتمع الاحزاب مع بعضها البعض لحل هذه الازمات، إلا انهم لم يجتمعوا ايضا، وان حل هذه الازمات يكمن في الحوار بين الاحزاب، وان يتم انتخاب رئيس جديد للبرلمان لكي يعود لمزاولة اعماله ثانية، وان تتفق الاحزاب كافة على تشكيل حكومة جديدة، وعينوا شخصاً لرئاسة إقليم كردستان لحين بدء موعد الإنتخابات القادمة”.
وايا تكن اللهجة التي استخدمها الرئيس البارزاني، فأن مجرد القبول بفكرة التنحي والاستعداد لطرحها ومناقشتها، تعني امرين، الاول، ان الازمة وصلت الى مستويات خطيرة للغاية، والامر الثاني، ان بقاء الوضع على ما هو عليه يعني الذهاب الى اسوأ الخيارات، والمتمثل اساسا بتفكك وتشضي المشهد الكردي الى درجة الصدام المسلح ببين الفرقاء كما حصل في النصف الاول من عقد التسعينيات.
بيد ان البعض يرى ان البارزاني، يدرك جيدا ان خصومه مختلفين في الكثير من المسائل، وان مطالبته لهم بأختيار بديل عنه، لن تصل الى نتيجة، بل انها ستزيد من خلافاتهم واختلافاتهم، في حين يرى فريق اخر، ان البارزاني اذا كان جادا بالفعل في ترك المنصب والتنحي، فلا يجدر به ان ينتظر خصومه حتى يختاروا بديلا له، وانما عليه ان يبادر الى تسليم السلطة لنائبه لحين اجراء الانتخابات، وهذا ما لن يحصل، كما يعتقد ساسة ومراقبون اكراد وغير اكراد.
وبدلا من ان تساهم دعوة البارزاني في تهدئة الاجواء المتشنجة قليلا، فأنها عمقت المأزق، ورفعت وتيرة الحملات الاعلامية والسياسية ضده، لتنحسر معها اي فرص لاحتوء الازمة وتطويقها.
وهنا فأن الازمة بلغت نقطة خطيرة جدا، فعلى مدى سنوات، كان الاكراد يختلفون ويتصارعون ضمن حدود الاقليم، لكنهم يأتون الى بغداد بمواقف موحدة في اطار التحالف الكردستاني، حرصا منهم على تحقيق اكبر قدر من المكاسب للاقليم.
النقطة الاخيرة، تمثلت في افتراق الاكراد وتقاطعهم حول مشروع قانون الموازنة الاتحادية لعام 2017، اذ ان نواب الحزب الديمقراطي قاطعوا جلسة التصويت، بينما نواب الاتحاد الوطني والتغيير والجماعة الاسلامية حضروا الجلسة وصوتوا لما رفضه حزب البارزاني، لتنطلق فيما بعد حملات تبادل الاتهامات وكيل الشتائم بوتيرة اسرع ونطاق اوسع، عبر الشاشات وفي الفضاء الالكتروني، ناهيك عن الشارع، وقد بلغت ذروتها، حينما اتهم الديمقراطي نائبة من حركة التغيير (كوران) بالاساءة الى قوات البيشمركة الكردية، لترد كوران بالقول ان الديمقراطي الكردستاني حرّف تصريحات النائبة سروه عبد الواحد.
وكانت بعض بوادر ازمة المشهد الكردي قد انعكست في بغداد، بدءا من استجواب وزير المالية السابق هوشيار زيباري اواخر شهر اب-اغسطس الماضي، وانتهاء باقالته بعد اقل من شهر، اذ بدا واضحا ان خصوم حزب البارزاني كانوا متحمسين لاقالته، من اجل اضعاف موقف الاخير.
وفي عواصم اخرى، مثل انقرة وطهران وواشنطن وغيرها، فأن الاكراد باتوا يذهبون اليها ويطرحون مشاكلهم لاصحاب القرار فيها، بعناوينهم الحزبية اكثر من عنوانهم القومي، ناهيك عن ان اي حديث عن الانفصال والاستقلال لاقيمة ولا مصداق له على ارض الواقع.
وفي ظل هذه الاجواء التي تخيم عليها المشاكل والضغوطات الاقتصادية الخانقة، وانعدام الثقة، وانحسار وتلاشي مساحات التوافق والتفاهم، فأن فرص حسم الملفات العالقة مع الحكومة الاتحادية ستتقلص، في مقابل مناخات التأزم والتأزيم التي من شأنها ان توفر الارضيات لظهور اكثر من ادارة كردية، كما كان عليه الحال في تسعينيات القرن الماضي، وسيكون المشهد اكثر تعقيدا في حال اتسع نطاق الخلافات الداخلية، فما هو حاصل من تشضي في جسد الاتحاد الوطني الكردستاني بعد غيابه امينه العام جلال الطالباني عن دائرة الزعامة والتأثير منذ اكثر من اربعة اعوام، يمكن ان يحصل في جسد الحزب الديمقراطي اذا واجه نفس الظروف، علما ان زعيمه البارزاني يبلغ من العمر سبعين عاما، وهناك في داخل حزبه اجنحة ومراكز قوى متعددة تخوض تنافس خفي على السلطة والمال والنفوذ، وهكذا الحال بالنسبة لحركة كوران، التي يعاني زعيمها نوشيروان مصطفى (70 عاما) هو الاخر، فضلا عن الامراض الجسدية التي غالبا ما ترغمه عن الغياب لعدة شهور، حمى التنافس الشبابي داخل حركته.
قد تتدخل واشنطن وعواصم اخرى لضبط ايقاع تفاعلات المشهد السياسي الكردي، بيد انها في كل الاحوال لاتستطيع فرض بناءات لم يعد يتقبلها الواقع، ولا تحديد مسارات لاتتسع لكل الفرقاء، ولا صياغة معادلات تفتقر الى العناصر القادرة على حفظ توازناتها.