كثيرةٌ هي الملاحظات التي أشارَ إليها المراقبون للوضع السياسي في العراق، لكنها لا ترقى إلى الطعن بشرعية الممارسة، كونها جاءت تحت مظلة الدستور الذي نالَ ثقةَ الشعب العراقي.
الدستور هو الآخر ونظراً لطبيعة بعض التشريعات التي تضمنها، تَسَبَب بشكلٍ أو بآخر بتفشي كثير من الإخفاقات التي كادت أن تكونَ عرفاً متبعاً في العقلية السياسية “النفعية”.
للدفع نحو تبني معالجات محددة لمكامن الخلل في البنية الأساسية للواقع السياسي، لا بدَ من تحديد مساحات الإخفاق بعيداً عن العشوائية في الطرح وتبني النهج الموضوعي الذي إبتعدت عنه حتى النخب الثقافية كونها ساهمت بقصدٍ أو بدونه في زيادة ضبابية المرحلة، الأمر الذي قضى على الحلم الذي طالما راود الكثيرين لإصلاح الوضع وإنتشال المجتمع مما يعانيه بعيداً عن المزايدات وسرقة الأضواء لغايات انتخابية عرفها الشعب بكل طبقاته وفئاته.
يمكن إعتبار الإفراط في ممارسة الحرية من أشهر معالم التخبط، وليس المقصود هو الحرية الشخصية التي كفلها الدستور، فتلك عليها من المؤاخذات الشيء الكثير، بل إن الأمر يتعلق بحرية المشاركة في الحياة السياسية طالما أن الفرد يجد في نفسه القدرة والمؤهلات التي تمكنه من خوض هذا الغمار.
من الناحية القانونية لا إشكال في ذلك بما أنها تنسجم مع الغايات التي شُرِعَ لأجلها دستور جمهورية العراق الذي حضي بثقة الشعب، بيد إن الأشكال يكمن في الكم الهائل من القوائم والأفراد الذين يعرضون إمكاناتهم على مزاج الناخب، وهذا الحديث لا يخص الكتل الكبيرة بقدر تعلقه بالدعوة إلى لملمة طاقات الكتل الصغيرة والأفراد والمؤسسات التي لم يسبق لها أن تصدت لممارسة الدور السياسي، فأصبحت مجهولة من قبل الناخب برغم تبنيها لأفكار ناضجة وحملها لرؤيةٍ واعيةٍ لمعالجة كثير من السلبيات، لو قدر لها الحصول على ثقة الناخب واستمالة مزاجه لصالح مشروعها الذي أُعِدَ كبديل لمعالجة المشاكل التي تسبب في إيجادها من سبق له التصدي.
لأجل الخلاص من هيمنة الكتل الكبيرة ووضع حد لاستئثارها بمقدرات البلد وقراره السياسي، يتوجب على من لديه ملاحظات بهذا الشأن الدخول بتحالفات سياسية مع من يتبنى نفس الرؤية وذات الهدف.
للتحالفات إيجابيات كثيرة سواء قبل الممارسة الإنتخابية أو قبل العمل وفق مخرجانها أيسرها أنها تساهم في عقلنة الأداء السياسي وتقطع الطريق على الراغبين في مزاولة السياسة كوسيلة للكسب غير المشروع، ناهيك عن دورها في إعادة ثقة الناخب بالممارسة الديمقراطية.
تحدثنا تجارب بعض البلدان عن حالة من النضج حيال تعاطي تلك الشعوب مع العمل السياسي، فالولايات المتحدة الأمريكية وبعد مخاضات عسيرة وصلت إلى قناعة بضرورة ترشيد الممارسة وليس إحتكارها، فكان الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي هما المعبران عن طموحات المواطن الأمريكي, كذلك العمال والمحافظين في بريطانيا والاصلاحيون والمحافظون في إيران .
ربما يشكك البعض بمدى أهلية الواقع العراقي لتقبل هكذا أفكار؟ وهو البلد الذي عاش ردحاً من الزمن تحت حكم الطغاة ولم يعتد أبناؤه العيش في ظل الحكم المدني إلا في العقدين الأخيرين، والتي كانت السمة الغالبة هي الحكم التوافقي بين ركائز المجتمع الثلاث (الشيعة والسنة والاكراد ) مع رعاية خجولة لبعض الاقليات.
للإجابة على هذا الاعتراض لا بد من الإشارة إلى صعوبة الانتقال بتفكير النخب المتصدية فضلا عن عامة الشعب, من ضرورة مغادرة الهالة المذهبية والقومية والمناطقية والاعتراف بحتمية الفشل الذي ستمنى به الإرادات, التي تختبيء خلف تلك العناوين والواقع الذي نعيشه بعد احتلال داعش خير دليل على انهزام البعد الطائفي والقومي أمام التحديات وظهوره بحجمه الأقل أمام الإرادة الوطنية الرافضة لمنهج التخندق خلف العناوين انفة الذكر.
يمكن اعتبار تجربة تحالفي البناء والإصلاح “بالرغم من فشلها” لكنها تعد كنقطة بداية في التأسيس لعرف طالما دفع العراقيون ثمن عدم تبنيه إذ أيقن الجميع أنه لا ملجأ للعراقي إلا العراق وهي ليست دعوة للتنكر للعناوين المحترمة التي تشكل النسيج الوطني، لكنها دعوة لمغادرة التخندق المشؤوم شريطة اقتراب الكتل الصغيرة من بعضها ودخولها في تحالفات عسى أن تضفي طابعا جديدا للعرف السياسي يسهم في لملمة النهايات السائبة التي تشكل عبئا على المتصدي من خلال كثرة اعتراضها على القوانين ونزوعها إلى لغة التخوين والاستحواذ كتهمة جاهزة ت ترمى على الكتل الكبيرة.