دون مفاجأة، فاز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف يوم التاسع من الشهر الجاري في فرنسا بأكبر نسبة من الأصوات المقترعة وصلت الى 31,37% متجاوزا باقي الأحزاب المشاركة في الانتخابات، ليحصد ثلاثين مقعدا في البرلمان الأوربي ومحققا انتصارا تاريخيا منذ تأسيسه وانتشار أفكاره في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، بينما لم يحصل ممثلي حزب النهضة للرئيس ماكرون الا 14,6% من الأصوات وثلاثة عشر مقعدا ليكون ذلك بمثابة هزيمة اوربية ووطنية للرئيس ايمانويل ماكرون ، يليه الحزب الاشتراكي وميدان الجمهورية الحائز على 13,83% من الأصوات وثلاثة عشر مقعدا، بينما نحج حزب فرنسا الابية بالحصول على 9,89% من الأصوات وتسعة مقاعد بزيادة ثلاثة مقاعد عن الانتخابات السابقة. لقد أشارت استطلاعات الرأي منذ أشهر الى فوز اليمين المتطرف وارجحية فوزه وتقدمه في العديد من الدول الاوربية. لكن مفاجأة هذه الانتخابات في فرنسا حدثت بسبب اعلان الرئيس ماكرون وبسرعة غير معتادة استغربها الكثيرون بضمنهم أعضاء حكومته عن حل الجمعية الوطنية واجراء انتخابات تشريعية وبسرعة أيضا، حدٌدت الدورة الأولى لها نهاية شهر حزيران على ان تكون الدورة الثانية يوم السابع من شهر تموز القادم. وبينما رحب حزب التجمع الوطني اليميني واتباعه بهذه الخطوة وطلبت مارين لوبن استقالة الرئيس ماكرون مقدما إذا أراد ان يجري معها مناظرة تلفزيونية، اعتبرت أحزاب أخرى مثل حزب فرنسا الابية انه تصرف غير مسؤول وان الرئيس ماكرون يتسبب في فوضى فرنسا في غنى عنها! ان حل البرلمان ليس المرة الأولى في تاريخ فرنسا، فقد سبق للرئيس الراحل جاك شيراك ان قام بها عام 1997 مبررا ذلك بحاجة البلد الى نقلة نوعية لكن مراهنة شيراك كانت للحصول على اغلبية لليمين وهو ما لم يحصل! وكان الحل الوحيد لهذه النتيجة هو تشكيل حكومة تعايش بين رئيس من اليمين وحكومة من اليسار ترأسها ليونيل جوسبان! فهل ان قيام الرئيس ماكرون بما يسميه الاعلام اليوم بضربة البوكر هذه ستأتي أوكلها وينجح معها في الحصول على الأغلبية البرلمانية التي لا يملكها اليوم في البرلمان؟ ان قرار الرئيس ماكرون المفاجئ بحل البرلمان يضاف الى مجموعة من القرارات غير الشعبية والمرفوضة من غالبية الشعب الفرنسي التي شهدتها فترته الرئاسية الأولى وعمقتها هذه الفترة الثانية التي تميزت باستخدام المادة 49,3 بكثرة لم تعرفها حكومة قبل ذلك لتمرير القرارات بدل من التصويت عليها في البرلمان أهمها قانون التقاعد الذي سلب عامين من الخدمة الكلية للعاملين بدون ان يحظى بنقاشات برلمانية كافية ومعمقة اذ تم تمريره بسرعة وسط رفض واحتجاجات شعبية واسعة لم يأبه بها الرئيس بل اعتبرها نجاحا شخصيا له! كذلك كان الامر مع طريقة إدارة جائحة كورونا التي رفضها الشعب الفرنسي وخرج باحتجاجات شعبية واسعة، قمعت بقوة لا تليق ببلد ديمقراطي تكفل قوانينه التظاهر ويسمح دستوره بالعصيان والتمرد على ما يضر المصلحة العليا للبلد وهو ما رفع من حدٌة غضب الفرنسيين وأثار مشاعرهم وضغينتهم ضد شخص الرئيس.، يتبعها اليوم تصريحه المفاجئ بدخول الحرب ضد روسيا بأرسال جنود فرنسيين الى أوكرانيا وتدريب قواتها العسكرية على استخدام الأسلحة الفرنسية المقدمة لهم، فكرة استغربتها الدول الاوربية ورفضتها المانيا القوية اقتصاديا واستهجنتها بعض الأحزاب الفرنسية التي ذكٌرت بدور فرنسا المتميز في مثل هذه الازمات وحراك دبلوماسيتها المشهود لها عالميا للتوسط وتقريب وجهات النظر ونزع فتيل التصعيد وتفكيك عقد الخلافات والدعوة للمفاوضات لمنع الحرب.
في المؤتمر الصحفي المطول الذي عقده الرئيس لإيضاح قراره في حل البرلمان، بدا واضحا انه يقدم التبريرات لخطوته ويوجه رسالة للشعب الفرنسي لينتخبوه كما انتخبوا الرئيس جاك شيراك بعد صعود جان ماري لوبن امامه في الانتخابات الرئاسية عام 1997 مفادها: اما أنا او الفوضى! لكن الرئيس ماكرون ليس جاك شيراك، وذلك السياق ليس نفس السياق، الرئيس ماكرون ليس الجنرال ديغول الذي وبكل احترام للديمقراطية والدستور وللشعب الفرنسي، قام باستفتاء شعبي للتصويت على برنامج حكومته الذي خسره بنسبة ضئيلة بعد إضرابات النقابات والطلاب عام 1968 وفضل الانسحاب من الحياة السياسية بشكل كامل.
ان محاوله تقليد هذه الشخصية السياسية او تلك او استنساخ موقف سابق ولصقه في واقع مختلف تماما بدت غير موفقة وأسلوب غير ناجح ولا مقنع للفرنسيين الذين يعيشون تدهور أوضاع البلد أكثر وأكثر مع سياسة حكومية ليبرالية تنفذ اجندة العولمة والاتحاد الأوربي الذي لم يفقر فرنسا ويوصلها الى ما هي عليه اليوم بلدا مديونا تتحكم به العلاقة مع اللوبيات المختلفة التي تصنع سياسة الاتحاد الأوربي فحسب، بل بلدا لا سيادة له ولا صلاحيات فعلية لحكوماته. اما دعوة الرئيس للوحدة امام ما سماه التطرف، وتصريحه انه لن يوافق على المناظرة بينه وبين مارين لوبن قبل الانتخابات التشريعية، فهي لا تصمد امام الواقع الذي يشهد على ان سياساته وقوانينه قد عبدت الطريق بشكل كبير لصعود اليمين المتطرف، وانه خلال فترة ترشحه للولاية الثانية أتصل شخصيا بالصهيوني العنصري ايريك زيمور صاحب مقولات الاحلال والاستعمار الإسلامي لفرنسا ليسأله عن الأفكار التي سيطرحها في حملته الانتخابية كما صرح هذا بذلك بهدف كسب أصوات اليمين المتطرف للفوز في الانتخابات.
في حين ركزت مارين لوبن في الخطاب الذي ألقته بعد فوز قائمة حزبها بقيادة جوردان بارديلا، على جاهزية حزبها للحكم في حال فوزهم في الانتخابات التشريعية القادمة وانهم جاهزون لتقويم البلد والدفاع عن مصالح الفرنسيين ووضع حد للهجرة الواسعة وان تكون القوة الشرائية هي أولوية وكذلك إعادة تصنيع فرنسا لإعادة الحياة لها. ومن أهم ما قالته ربما توجيهها رسالة الى قادة الاتحاد الأوربي قالت فيها “ان انتصار حزبها يغلق حقبة أليمة من عولمة آذت كثير من شعوب العالم وان هذا الانتصار هو في اتجاه التاريخ الذي يشهد عودة الأمم ومفهوم الحماية، وقالت نحن بلد ونريد ان نبقى كذلك في إشارة لرغبتها بإخراج فرنسا من الاتحاد الأوربي”.
امام هذا الفوز الكاسح للتجمع الوطني دعا نائب حزب فرنسا الابية فرانسوا روفان الى تشكيل جبهة شعبية ضد حل الجمعية الوطنية وقطع الطريق في الانتخابات القادمة على اليمين المتطرف ودعا جميع أحزاب اليسار الى جبهة واحدة تسمى الجبهة الشعبية قائلا “هل نريد ان نربح معا ام نريد ان نخسر متفرقين، هذا هو البديل الموجود امامنا “. لقد ذهبت ثلاثين بالمائة من أصوات الناخبين الى أحزاب اليسار وهي قاعدة يمكن ان تحقق قفزة في الانتخابات التشريعية المقبلة وتجنب البلد حكم اليمين المتطرف لكن التشتت القائم بين اليسار أدى الى اضعاف هذا التيار كثيرا والى ان تفقد احزابه ثقة الفرنسيين وبالأخص الحزب الاشتراكي الذي شكٌل لسنوات أكبر القوى السياسية المعارضة ليلتحق بسياسة العولمة. لن يكون مستغربا فوز اليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية لان شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي اليوم تعزو مسؤولية الوضع المتدهور الى العولمة والى قوانين الاتحاد الأوربي في بروكسل التي تخنق فرنسا بقوانينها وتتسبب بمشاكل كبيرة لقطاعات واسعة من الشعب الفرنسي، سياسات كرسها الرئيس ماكرون ومن سبقه منذ وصول نيكولا ساركوزي للحكم وتعتزم مارين لوبن ان يكون برنامجها إعادة ما دمرته هذه السياسات.
لقد أسفرت الانتخابات الاوربية عن مشهد سياسي يشبه لحد كبير المشهد السياسي لفترة ما بين الحربيين العالميتين ليس فقط على مستوى الصراع بين أحزاب اليمين واليسار انئذاك الذي أدى الى تشكيل الجبهة الشعبية وفوزها لاحقا في الانتخابات. بل الى ما وثقته بحوث حديثة متخصصة لأستاذة التاريخ آني لاكروا ريز حول تلك الحقبة وما حصل في الحرب العالمية الثانية من تحالفات أحزاب وشخصيات من كل الدول المتحاربة مع الدوائر المالية والبنوك التي مولت الحرب بعام قبل إعلانها من المانيا ويوثق حقائق تم طمسها عمدا نراها بالصوت والصورة للتحالف البنيوي بين البنوك واليمين المتطرف الأوربي . فقد أجتاز حزب الاسترداد الذي اسسه الصهيوني العنصري ايريك زيمور المتحالف مع ماريون مارشال ابنة اخت مارين لوبن عتبة 5% من الأصوات، وقد رفضت مارين لوبن التحاق هذا الحزب بحزب الجبهة الوطنية. وكانت ضربة كبيرة لزيمور الذي نشط في الأشهر الأخيرة لتشكيل تحالف يميني اوربي مدعوم بأموال صهيونية أمريكية لمواجهة الإسلام والمسلمين في اوربا وعقد لذلك لقاءا حضرته شخصيات هذه الأوساط. وقد دفع ابعاد زيمور من الالتحاق بالتجمع الوطني الى اعلان رئيس مجلس المنظمات اليهودية السابق في فرنسا روجيه كوكرمان الى التصريح بأنه سيصوت لحزب التجمع الوطني الذي يحاربوه يتهموه منذ الثمانينات بمعاداة السامية؟