الكيل بمكيالين عُرف بات يُمسك بمنظومة المشهد السياسي العربي بكل وضوح وهذا امر ليس بجديد أو طارئ لكنه وبتقديرنا قد كََشف عن وجه سافر ومقلق مع بدء الحرب العراقية الايرانية عندما انقسم العرب وقتها على انفسهم وفي مواقفهم وفي ردود افعالهم ازاء تلك الحرب ، وبدلا من ان يتحملوا المسؤولية كاملة في لعب دور فعال لايقاف نزيفها الذي كان يزداد يوما بعد اخر وعاما بعد اخر تحمّل البلدين ايران والعراق نتائجه الكارثية ثمانية اعوام على حد سواء.
في تلك الحرب شاء الحكام العرب ان يكتفوا بمواقف جُلّها سلبية ، بعضها اتّسم باللؤم عندما اثر ان يكون في موقف المتفرج وكأنه يشاهد فلما حربيا يسقط فيه قتلى وجرحى بالعشرات على شاشة التلفزيون وهو مستمتع كل ليلة بما يشاهد ،ومواقف اخرى اتسمت بالتجاهل التام لصور الموت والدمار وكأن لاشيىء يحدث ، واخرى ارتأت ان تزيد من سعير الحرب الطاحنة وتغذيها وذلك بالوقوف الى جانب احد الطرفين المتقاتلين امّا علنا او خفية من خلال مشاركة فعلية فيها ، سواء بجيوش اوقطع سلاح أو تمويل .
ونتيجة لكل تلك المواقف التي اطالت من عمر الحرب والتي اقل مايقال عنها انها كانت مواقف تتسم بنفاق وانتهازية واضحين ، هذا اضافة الى تغليب للمطامح والمطامع الشخصية بكرسي الزعامة على حساب المصالح والقيم الاخوية والانسانية التي تجمع الشعوب العربية مع الشعب الايراني الذي يرتبط معه بعلاقات تاريخية ودينية عميقة جدا.
ومن تداعيات ذلك الانحطاط في مستوى الوعي والمواقف الرسمية العربية ازاء قضية ولحظة تاريخية فارقة ومفارقة أن سيكون له نتائج وتفاعلات اقليمية ودولية كبيرة فيما تلاها من الاعوام وسيدفع بالتالي منطقة الشرق الاوسط الى هاوية ومنزلق سياسي خطير لاوضوح لصورته النهائية وكانت اولى مقدماته : حرب الخليج الثانية عام 1990 بعد ان غزا العراق الكويت بقرار خاطى ء ومتسرع ومنفعل تورط فيه صدام حسين وورط العراق وشعبه ومستقبله فيه .
تلك الحرب جاءت بالاساطيل والقطع العسكرية الى منطقة الخليج لتقيم فيها اكبر القواعد العسكرية الاميركية لتكون منطلقا الى كل البقاع التي كانت تحلم بالوصول اليها في قارة اسيا طيلة ايام الحرب الباردة التي كانت قائمة بينها وبين الاتحاد السوفيتي سابقا قبل انهياره عام 1990. ولتسيطر على منابع النفط الذي كانت تسعى للوصول اليه منذ العام 73 حينما لعب النفط دوره الفاعل والمؤثر في حرب تشرين ، عندما اوقفت السعودية صادراتها النفطية الى الغرب في تلك الحرب فأدركت في حينها اميركا والغرب معها خطورة بقاء مصادر الطاقة النفطية في الشرق الاوسط بعيدا عن سيطرتها وتحكمها. وسعت لاجل ذلك ألعمل بكل ماتملكه من قدرات استخبارتية من اجل الوصول الى منابع النفط .
وهاهي الفرصة قد جاءت مثلما ارادت وخططت عندما استثمرت ماكان يحلم به صدام في تصدر الزعامة العربية بعد ان كان قد خَرج من حربه مع ايران وهو ممتلىء بمشاعر القائد المنتصر ، فدفعه ذلك الوهم والشعور الطاغي بالقوة والقدرة التي لاتحدها حدود ودون ان يدري الى الاندفاع كالاعمى نحو محرقة الموت بغزوه لدولة الكويت ، ولتكون هذه المغامرة مقامرة على حياته ووجدوه ونظامه ولتصبح بالتالي بمثابة الحجة التي امسك بها الاميركان للوصول الى ماكانوا ينوون الوصول اليه .
يمكن القول ان حلما واحدا فقط كان لوحده يجمع الزعماء العرب في كل المواقف والازمات والحروب التي عصفت بمصير الشعوب العربية ألا وهو : الطموح بالفوز بكرسي زعامة إمة عربية واحدة موحّدة لاوجود لوحدتها السياسية الاّ في الشعارات والخطابات السياسية الطنّانة ، بعد ان اصبح كرسي الزعامة شاغرا بغياب عبد الناصر، الذي كان ظله مهيمنا عليه ،طيلة وجوده في الحكم .
ان المواقف الرسمية للحكام والانظمة العربية التي اشرنا اليها عندما قامت الحرب العراقية الايرانية عادت لتكرر نفسها مرة اخرى عندما سقط نظام صدام حسين عام 2003 لكن هذه المرة كان تأثير تلك المواقف اشد قسوة وخطورة على المجتمع العراقي ، لان المعركة هذه المرة كانت في الداخل وليس على الحدود الخارجية للعراق ، أي في عمق المجتمع العراقي، في وجدانه وقيمه الدينية والمذهبية والقومية .
فالمواقف العربية الرسمية بكل تنوعها وتقاطعها كانت تصب في هدف واحد هو : اشعال وتأجيج الصراع داخل المجتمع العراقي نفسه ،وذلك بالاعتماد على التنوع المذهبي والديني والقومي الذي يتشكل منه الشعب العراقي ، خصوصا بعد أن تضررت وضعفت العلاقات التي كانت تجمع هذه الفسيفساء العراقية لعقود طويلة واصاب العفن بعض اجزائها نتيجة للسياسات الخاطئة التي مارستها كل الحكومات العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921.
وقد ازدادت تلك السياسات خطورة وعنفا وخطأً منذ ان تسلم صدام حسين زمام السلطة عام 1979 ، مع اننا لانعفي احدا من كل الحكام العراقيين من مسؤولية الاخطاء التي ارتكبت بحق الاقليات والطوائف والقوميات دون استثناء . فالاقصاء والتهميش كان جاريا على قدم وساق طيلة قرن كامل وإن بدرجات متفاوتة بين حكومة واخرى وبين زعيم واخر .
ان الساسة العرب كانوا يعرفون جيدا التركة الثقيلة التي خلفها نظام صدام بعد ما رحل عن سدة الحكم ، لذا لم يتركوا هذه الفرصة تضيع سدى دون ان يتم استغلالها بالاتجاه الذي يخدم مصالحهم المختلفة والمتقاطعة مع بعضهم البعض، لكنها تلتقي وتجتمع رغم هذا الاختلاف عند نقطة واحدة كما التقت بكل تناقضاتها سابقا اثناء الحرب العراقية الايرانية الا وهي : اضعاف العراق بثقله ووزنه الدولي ، فهذا البلد بعمقه التاريخي والحضاري لم يزل يلقي بظله وحضوره واضحا على خارطة السياسة الدولية بسبب موقعه الجغرافي والاقتصادي رغم ضعف وهزالة اغلب الساسة الذين حكموه طيلة قرن من الزمان ، فكيف الحال به عندما يحكمه خليط من الساسة الذين لاشأن لهم بأمور الحكم ! ؟ هذا اضافة الى انهم لايمتلكون اية خبرة في ادارة البلاد واثبتت الاعوام التسعة التي مرت بعد العام 2003 انهم جاءوا الى الحكم وكأن ليس في نيتهم بناء دولة حديثة تقوم على احترام حرية الانسان بكل صورها انما جاءوا وهم يحملون في دواخلهم رغبة عارمة في الانتقام من كل ماله صلة بنظام صدام وحزب البعث الذي طاردهم واعتقلهم وشتتهم في المنافي حتى لو احترق جراء ذلك الاخضر مع اليابس ، وليتركوا في الاذهان صورة مشوشة وخاطئة عن معنى النضال والكفاح ضد الظلم وانظمته الفاسدة الذي عادة ماتتحمله نخبة من المجتمع تسموا فوق جراحها وعذابتها لتنهض وُتنهِـِضِ معها الشعب المقهور مما هو فيه قابع فيه من بؤس ،صورة تدعو الى الرثاء على كل المناضلين والمفكرين والفلاسفة الذين غيروا مجرى التاريخ في اكثر من لحظة تاريخية ولم يطلبوا لقاء ذلك ثمنا ، لاقصورا فخمة ولاحسابات خيالية في البنوك ولارواتب تقاعدية خرافية الارقام لهم ولاحفاهم .
ومع ذلك لو كانت سياسة انزال العقاب الصارم قد اقتصرت على من تسبب بالظلم والقهر للشعب العراقي من اركان ورموز النظام السابق لكان من الممكن قبول تلك الرغبة العارمة بالانتقام .
لكن ان يتم تحميل طائفة بكاملها مسؤولية واخطاء وجرائم كل ماحدث قبل العام 2003 بكل قضّها وقضيضها لا لشيء إلاّ لانها الطائفة التي ينتمي لها كل الحكام الذين مروا على تاريخ الدولة العراقية منذ تأسيسها وانتهاء بصدام حسين فهذا بلاادنى شك خطأ كبير، وقد بانت نتائجه خلال الاعوام التسعة التي مرت من عمر البلاد عندما وجدناها تغرق في دوامة من العنف والفوضى حتى هذه الساعة ، ووفرت بذلك ارضية مناسبة لكل القوى العربية اولا والاقليمية ثانيا لان تدخل الساحة العراقية من النوافذ والشقوق والجحور تحت جنح الظلام الكثيف الذي صار يخيم عليها وصارت تلعب فيها وفقا لما تهوى وتشتهي في التدمير ،وكانت مشاعر الانتقام والتصفية التي اتصف بها معظم الساسة العراقيون واستبعادهم لاية فرصة حقيقية وجدية لطيّ صفحة الماضي والبدء في صفحة جديدة تقوم على اشاعة روح التسامح والعفو عمن لم يرتكب جرما من اتباع ورموز النظام البعثي قد أوجد الفرصة المناسبة لتلك القوى حتى تلعب دورها هذا بكل حرية وقوة .
كان ينبغي على ساسة العراق الجدد فيما لو ارادوا ان يبنوا بلدا جديدا على انقاض ماخلفه نظام صدام ان يتخذوا من تجربة نظام جنوب افريقيا بزعامة نيلسون مانديلا نموذجا لهم في كيفية التعامل مع حقبة مؤلمة ومُرّة بكل رموزها ، وهذا استدعى منهم ان يمضوا الى الامام ولم يتوقفوا عند الحقبة السياسية السابقة لهم طويلا ، لذا لم يغرَقوا في رمالها المتحركة ، بل انطلقوا من فكرةٍ ومبدأ واضح يقوم على احترام القانون والعدالة دون التورط في القفز والتجاوزعليه ليصبح مطيّة سهلة يتم استخدامها وفقا للاهواء والرغبات والمصالح الضيقة للساسة والاحزاب الحاكمة مثلما هو حاصل في العراق .والصورة الاقرب الينا من تجربة جنوب افريقيا هي : تجربة اقليم كوردستان العراق عندما لجأ قادته الى الصفح والمغفرة عن كل الاكراد الذين كانوا في خدمة نظام صدام وحزبه ، واعطيت لهم الفرصة للتكفيرعن خطاياهم ،وذلك بالسماح لهم مرة اخرى بالاندماج بين صفوف المجتمع ليصبحوا مواطنين صالحين يشاركون في بناء كوردستان التي بدأت تفرض حضورها وتجربتها الناهضة شيئا فشيئا امام العالم واصبح البون شاسعا بينها وبين بقية اجزاء ومحافظات العراق .
وهنا اتسأل واوجّه اسئلتي للساسة الذين يحكمون العراق كيف يمكن قبول اسقاط التهم والجرائم المنسوبة الى عدد من الارهابين الذين يحملون جنسيات عربية غير عراقية ممن تورطوا بجرائم بشعة ضد العراقيين الابرياء تنوعت جرائمهم مابين تفجير وتفخيخ اضافة الى عمليات قتل وتطهير جماعي وسبق أن اعترفوا بها وعلى اساس اعترافاتهم تلك تمت ادانتهم . كيف يمكن قبول فكرة اطلاق سراحهم بعد ان توسط القادة والزعماء العرب الجدد في ليبيا وتونس الذين استلموا زمام السلطة في بلدانهم بعد ان كانوا قد ثاروا على ظلم وعبودية وفساد حكامهم . . كيف يمكن قبول هذا ؟ . . ولنفترض ياساسة العراق انكم قبلتم الوساطة وعملتم بمبدأ المسامحة وطي صفحة الماضي مع من اجرم وقتل شعبكم ثم اطلقتم سراحهم اكراما لعيون الغنوشي وعبدالجليل . أما كان من الاولى والاجدر بكم ان تسامحوا ايضا نظرائهم من ابناء شعبكم وجلدتكم ؟
نرجوا منكم ساستنا وحكامنا وقادتنا ان تعدلوا وأن لاتكيليوا بمكيالين كما فعل الحكام العرب مع شعبكم .