18 ديسمبر، 2024 7:46 م

المشهد السياسي العراقي بلا رتوش

المشهد السياسي العراقي بلا رتوش

حتى نفهم ما يحدث في العراق الآن علينا إعادة قراءة المشهد العراقي وفهم هذه القراءة ثم التصرف على أساسها… في البداية نسأل سؤالا بسيطا جدا، لأنه على ضوء الإجابة سوف نستطيع تقييم المشهد العراقي والوصول إلى حقيقة هذا المشهد والتصرف على أساس هذه الحقيقة والسؤال هو…
هل العراق بلد مستقل كامل السيادة أم العراق بلدا محتلا؟!
في البداية نورد بعض الحقائق حول صورة العراق السياسية اليوم وكيف ينظر المجتمع الدولي لهذه الصورة…
في ٢٢/٥/٢٠٠٣ صدر قرار مجلس الأمن الدولي المرقم ١٤٨٣ والذي اعتبر فيه أن العراق بلدا محتلا تحت الإدارة الانكلوامريكية يخضع في إدارته لبنود معاهدة جنيف لسنة ١٩٤٩…
هذا القرار يعطي الحق لدولة أو دول الاحتلال أن تحدد الطريقة التي يدار بها البلد…
فإن شاءت تنصيب حاكم مدني لإدارة البلد لها ذلك،
وان شاءت تنصيب حاكم عسكري لإدارة البلد لها ذلك،
وان شاءت الاعتماد على أشخاص يحملون جنسية البلد لإدارة البلد لها ذلك،
بمعنى أصح إن أمريكا وبريطانيا لهم الحق في تحديد الطريقة التي يتم من خلالها تصريف شؤون البلد اليومية!!، وكل القرارات يجب أن تخضع للموافقة من قبل الاحتلال.
في البداية أدارت أمريكا شؤون العراق من خلال تعيين حاكم مدني وهو برايمر، بعد ذلك أوجدت صيغة أخرى لإدارة أو تصريف شؤون البلد من خلال اختيار أشخاص أكثرهم يعيشون في الخارج ممن شاركوا في مؤتمر لندن سيئ الصيت والمنعقد في أواخر سنة 2022م من حملة جنسية البلد وشكلت منهم ما يسمى بمجلس الحكم لإدارة شؤون العراق أو بصيغة أدق تمشية أو كما يقال تصريف أعمال البلد اليومية…
وبعد ذلك انتقلت إلى صيغة أخرى مغلفة بإطار ديمقراطي من انتخابات ومجلس نواب وأحزاب تتنافس بينها لتصريف الأعمال اليومية للبلد ولا تزال هذه الصيغة الثالثة هي المعمول فيها لتصريف أعمال البلد…
لكن الحقيقة هو أن العراق بلد محتل بموجب قرار مجلس الأمن المذكور أعلاه وحاكم العراق الحقيقي هو أمريكا…
ولتمرير الصيغة الثالثة لتصريف أعمال إدارة العراق فلا بد من أن يكون هناك إعلام مكثف لتلميع صورة الديمقراطية الأمريكية… فسمحت أمريكا بفتح عشرات من قنوات التلفزة تلبي شغف جميع أطياف الشعب العراقي…
فمن يريد أن ينتقد أمريكا هناك قنوات تنتقد أمريكا وتتكلم عليها، ومن يريد ينتقد إيران هناك قنوات تنتقد إيران وتقول كل ما يريد المواطن قوله عن إيران، ومن يريد قنوات خاصة بالمناسبات الدينية هناك قنوات تلبي متطلبات هؤلاء، ومن يريد أن ينتقد الحكومات المنصبة أمريكيا هناك قنوات تنتقد ذلك، ومن يريد كشف ملفات فساد هناك قنوات وأشخاصا ينهقون ليلا ونهارا من نواب وغيرهم حول ملفات الفساد…
بالحقيقة أمريكا لبت كل ما يخطر على بال أو لا يخطر على بال الشعب العراقي من خلال هذه القنوات والتي ظاهريا تنتمي لهذا الطرف أو ذلك الطرف لكن في الحقيقة هي منبثقة من منبع واحد وتخضع له وهو المحتل الأمريكي وتدار من خلف الكواليس من قبل أمريكا وتمول من أموال العراق المنهوبة…
ولو دققنا قليلا في ما تبثه هذه القنوات لوجدنا تقريبا تبث كل شيء… إلا شيء واحد لا تذكره وهو أن العراق بلد محتل بموجب قرار مجلس الأمن الدولي المذكور أعلاه…
إلى جانب ذلك سمحت إدارة الاحتلال بإنشاء كيانات سياسية متعددة تلبي جميع اتجاهات الشعب العراقي وسمحت بإجراء تنافس بينها للوصول إلى كراسي إدارة العراق تحت النموذج الديمقراطي الخاص بالدول تحت الاحتلال وسيناريو هذا النموذج موضوع من قبل وزارة الخارجية البريطانية فهي تملك الخبرات الكافية في تفصيل صيغ مختلفة حسب الدول لكيفية تصريف أعمالها… لكن في حقيقة الأمر الكراسي السيادية والأمنية لا يمكن أن تشغل إلا بموافقة المحتل وفي مجلس النواب يجب أن يكون هناك عدد كاف من المقاعد تشغل بموافقة المحتل لضمان تمرير ما تشاء من خلاله مع ترقيع هذا النموذج من قبل أشخاص “حديدة عن الطنطل” كما يقال…
إذا عرفنا كل ذلك وعرفنا أن ما حدث ويحدث لا يمكن أن يكون دون موافقة مسبقة من دولة الاحتلال حسب معاهدة جنيف لسنة ١٩٤٩ وقرار مجلس الأمن ١٤٨٣ لسنة ٢٠٠٣، عند ذلك يمكن أن نحلل بعض المحطات في كيفية إدارة العراق وتصريف أعماله من قبل أمريكا بالتعاون والتنسيق مع حكومات تصريف الأعمال “المنتخبة”.
في ما يخص استجابة الشعب العراقي لهذه الصيغة الأمريكية في تصريف شؤون العراق، يمكن أن نقسمه على ثلاث طبقات أو مستويات وكما يلي:
المستوى الأول
ويشمل الطبقات المثقفة المستقلة وهم يعرفون أصل الحكاية وهي أن بلدهم تحت الاحتلال بموجب القرار الأممي المرقم 1483 في 22/5/2003 وهذا القرار وضع العراق تحت الاحتلال الأنكلوأمريكي دون تحديد سقف زمني لإنهاء هذا الاحتلال، ورغم وجود فقرات مهمة في هذا القرار لصالح العراق لم يلتزم المحتل بتطبيقها، إلا أن اعتراف مجلس الأمن بأن العراق بلدا محتلا أعطى المحتل صلاحية إدارة العراق… المشكلة إن هذا المستوى من الشعب العراقي مجال تحركه ضيق فهو لا يملك وسائل إعلام يمكنه من خلالها تثقيف شباب العراق على أن بلدهم من الناحية القانونية الدولية بلد تحت الاستعمار ويجب العمل على تحرير العراق من الاستعمار أولا ثم الخوض في الأمور السيادية الأخرى.
المستوى الثاني
ويشمل عموم الشعب العراقي، وهذا المستوى تأثر كثيرا بوسائل الإعلام التي نجحت في تسويق الديمقراطية الأمريكية وإقناع الشعب العراقي بأن البلد مستقل ويملك السيادة الكاملة وأن هناك انتخابات وتنافسا شريفا وبرلمانا وحكومة منتخبة وغيرها من الأطر التجميلية للمحتل…
المستوى الثالث
وهم الانتهازيون والخونة الذين ساهموا بدخول المحتل إلى بلدهم وهؤلاء مدعومين من قبل المحتل وبمساعدة أمريكا أصبحوا مسيطرين على كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وهي تنهق ليلا نهارا بالكلام عن الديمقراطية المزعومة ودخل معهم أولئك الذين ينطلقون من مبدأ “من تزوج أمي أصبح عمي”، وشعرة من جلد خنزير… هؤلاء النفر يتمتعون بحصانة كاملة من قبل المحتل ويعتمد عليهم في تصريف أعمال البلد وينتقل بهؤلاء الإمعات بين المناصب الإدارية وخصوصا السيادية منها كما ينقل حجر رقعة الشطرنج.
هذا ببساطة هو المشهد السياسي العراقي، وتأسيسا على هذا المشهد الذي يعني في ما يعنيه أن العراق في منظور القانون الدولي هو بلدا محتلا وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي الذي لم يحدد موعد لانتهاء هذا الاحتلال، وان جميع الحكومات التي مرت على العراق تحت سقف الديمقراطية الأمريكية هي في حقيقتها مجرد حكومات تصريف أعمال البلد اليومية نيابة عن المحتل الأمريكي من وجهة نظر القانون الدولي، وان هذه الحكومات عند عقدها اتفاقيات أو تفاوضها مع أي طرف ما كان ليتم دون تفويض صريح من قبل المحتل… ولكي تحافظ حكومات تصريف الأعمال المتتالية على ديمومتها وبمساعدة المحتل فيجب أن يكون دائما هناك موضوعا مطروحا على الطاولة يشغل الرأي العام ويجعل منه حديث الشارع، وتروج له القنوات التي يديرها المحتل من خلف الكواليس، ومن خلال هذه الإستراتيجية الواضحة لنا تستطيع أمريكا تمرير ما تشاء وتنفذ المخطط بكل سلاسة، ولعلنا من المفيد أن نتوقف عند مفردة واحدة من مفردات هذه الإستراتيجية القذرة للمحتل الأمريكي وهي ما يسمى “اتفاق الإطار الإستراتيجي لعلاقة صداقة وتعاون بين جمهورية العراق والولايات المتحدة الأمريكية”، الموقعة في 17/11/2008 من قبل الولايات المتحدة وحكومة تصريف الأعمال المنصبة أمريكيا والتي دخلت حيز التنفيذ في 1/1/2009، هذا الاتفاق وليست اتفاقية أشارت إلى قرار مجلس الأمن 661 في 1990، وأشارت إلى قرار مجلس الأمن 1790 في 18/12/2007 والذي يخص القوات متعددة الجنسية في العراق، لكن هذا الاتفاق لم يشر لا من قريب أو بعيد إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 في 22/5/2003 والذي أعتبر العراق بلدا محتلا!، لقد تم الترويج في وسائل الإعلام المختلفة على أن العراق حقق إنجازا كبيرا، أنه بلد كامل السيادة، أن حكومة تصريف الأعمال حققت إنجازا كبيررأن القوات الأمريكية سوف تنسحب من العراق بحلول سنة 2011 وكلنا تابعنا البروبكندا الإعلامية التي رافقت التوقيع، لكن هو في حقيقة الأمر للجانب العراقي لا يغير من الأمر شيء فالعراق يبقى بلدا محتلا… لكن على النقيض من ذلك كانت أمريكا تخطط لشيء آخر تماما وهذا الشيء ليس مخفيا إنما هو معلن!…
أمريكا كانت قد أعلنت بإنها سوف تقوم بتجميع الإرهابيين في العالم في دولة من دول الشرق الأوسط وتقاتلهم في تلك الدولة أو الدول… يبدو أن العراق كان من الدول المرشحة لتنفيذ القرار الأمريكي.
وجود القوات الأمريكية في العراق بموجب قرار أممي، يعني مسؤولية أمريكا الحفاظ على الحدود العراقية من التدخلات الأجنبية ومن الإرهابيين… فكان لا بد للتمهيد لدخول داعش إلى العراق، خروج القوات الأمريكية حتى لا تقع عليها المسؤولية عند ما تدخل داعش كون قواتها خرجت من العراق بموجب إتفاق ثنائي بينها وبين حكومة تصريف الأعمال… فجاء هذا الاتفاق ليلبي المتطلبات الأمريكية وبلع الشعب العراقي الطعم من جديد، وهيأت حكومة تصريف الاعمال كل المستلزمات اللوجستية لتسهيل دخول داعش واحتلال العراق من إصدار الاوامر المباشرة للجيش بالانسحاب وترك اسلحتهم وتحويل الاموال حسب ما تقول سلام سميسم بأن 400 مليون دولار حولت من البنك المركزي العراقي في بغداد إلى البنك المركزي العراقي في الموصل قبل يومين فقط من دخول داعش إلى الموصل… وبين هذا وذاك تبقى الحقيقة بلا رتوش هو إن العراق بلد محتل من قبل أمريكا وما لم يتحرر العراق من الإستعمار الأمريكي ومن تسلط الخونة علينا سوف يشهد العراق محطات مؤلمة أكثر وأكثر.