25 مايو، 2024 8:28 ص
Search
Close this search box.

المشروع الوطني العراقي

Facebook
Twitter
LinkedIn

كثر الحديث بين الأوساط الفكرية والسياسية العراقية – حزبية ومستقلة – في الآونة الأخيرة عن المشروع الوطني . ويحتاج هذا المفهوم إلى شيء من الإجلاء للتعرف عليه وعلى حدود ما يشير إليه . وإن أخطر ما يواجهه هذا المفهوم هو أن ينحصر معناه في أطار رؤية أضيق لمصالح فئة أو فئات محدودة من الشعب.
عامة ، ما أفهم عبارة المشروع الوطني بأنه مجمل الأهداف التي يتراضى أهل جيل معين أو مرحلة تاريخية معينة على إنجازها ، وهي تكون على قدر من الترابط والتكامل بحيث أنه فيما يتحقق من تفاصيل إنما يكون تصوراً شاملاً للأوضاع الاجتماعية المطلوبة . فثمة مفردات بناء وتشييد سياسي واجتماعي واقتصادي يتعلق ببناء المؤسسات وبالإنتاج وبالسياسات الداخلية والخارجية المناسبة ، وهي مفردات تتشكل فيها رؤية عامة.
واحسب أننا صرنا نستخدم هذه العبارة كثيراً عند الحديث عن مجمل المنجزات التي جمعت على حقب تاريخية سلفت ، فنقول:- مشروع مدحت باشا الإصلاحي ، مشروع ثورة 1920 التحرري ، مشروع ثورة 14 / تموز الثوري، ونحن لانقصد بهذا إن كان ثمة برامج محددة ومفصلة كالتصميمات الهندسية أعدت أولاً ثم جرى تنفيذها من بعد إنما نقصد في ظن من استخدام هذه العبارة في وصف منجزات الماضي ، أن هناك تصوراً عاماً وشاملاً يمكن أن نستخلصه من تبين العلاقة بين مفردات ماجرى تنفيذه وتشييده من بُنى ارتكازية / تحتية وماجرى خطه من سياسات.
وأحسب أننا بعد أن تكشفت لنا من النظر لكل نهضة ماضية صورة مشروع ، نريد في هذه السنوات الأخيرة أن نضع مشروعاً مسبقاً تترسم تصميماته في المستقبل . وأظن أنه من الصواب أن نفكر بهذه الطريقة ، فإن قدرتنا على التوقع قد زادت عما كانت في الماضي بسبب تقدم الدراسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ووسائط جمع المعلومات . ولكن ما أتصوره إننا بحاجة إليه هو ألاّ نغلو على أنفسنا فنتصور أن في إمكاننا أن نقيم مشروعاً على قدر من التفاصيل والتجديد يبلغ دقة الرسوم الهندسية.
أقول ذلك ، لأننا صرنا نميل إلى طلب قدر من التحديد والتفصيل في رؤية المستقبل قد لاتحتمله قدرتنا على التوقع ، ويظهر هذا من النزعة التقنينية التي نشاهدها في الكثير من برامج وزاراتنا وحتى أحزابنا عندما تتعرض لتفاصيل على مستوى قانون الإصلاح الوظيفي والإداري والمالي وتقديم الخدمات العامة ، مما يبلغ من النثرية قدراً لاأخاله يصلح فارقاً بين وزارة وأخرى.
أقول ذلك ، لأننا عندما نقول مشروع وطني فإننا نشير إلى ما يصلح به الوطن في تصورنا خلال مرحلة تاريخية ممتدة . فالأمر يقتضي قدراً من التعميم في التقاطه – أصول – التحديات التي تواجه الجماعة على مدى زماني ممتد     –وأصولي – مانراه من معالجات لهذه التحديات ، وهو قدر من التعميم يسع التغيرات الحاصلة والمحتملة كما يسع التنوعات بين الشرائح الاجتماعية من أهل هذا الوطن.
وقد لاأتفق مع مقولة أن كل مشروع سياسي هو في نهاية الأمر مشروع فئة اجتماعية محددة أو تآلف فئات ، ذلك ، أننا حتى إذا أقررنا بالجماعة السياسية كجماعة ذات وجود متميز وكتصنيف مستقل بذاته عن التصنيفات الأدنى المكونة لها ، كالطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة ، فقد صار لزاماً علينا أن نقر أن هذه الجماعة العامة ذات مصالح أعم من مصالح حكوماتها ، وهي ذات وجود متميز عما تكونه وما يندرج تحتها وفي داخلها من وحدات اجتماعية شتى.
إن أي جماعة في ظني تشتمل على وحدة انتماء أصلي هي ما يكوّن الجامع العام لها ويتصل أوثق اتصال بشعورها وبمصيرها الواحد المشترك ، واتصال ذلك بتكوينها الفكري والعضوي المحدد لذاتيتها وإدراكها لتميزها عن غيرها . وهذه الجماعة عينها تشتمل على وحدات انتماء فرعي يتميز كل منها عن غيرها في اللسان أو المذهب أو التوجه الثقافي أو العمل . وهي كلها دوائر متداخلة شاملة بعضها مع بعض . ولا أظن أن أياً منها يمكن رده إلى غيرها أو أن يكون ذلك الرد متضمناً إهدار ذاتية هذا الانتماء عينه.
لذلك ، فإني أخشى أن يفضي ذلك إلى كسر مايعنيه الوطن لدينا من كونه وحدة انتماء عامة حاكمة لغيرها من الوحدات ، وأخشى من ذلك بخاصة في ظروف تاريخية نواجه منها أشد مانواجه هجوماً خارجياً مكثفاً على أهم ما يشملنا من وحدات الانتماء العامة.
إننا نقر بوجود وحدات الانتماء الفرعية ولكنني أزعم أن هذه الوحدات الفرعية ليس أساسها الموقف الطبقي والصالح الاقتصادي وحده ولكنها تنخدع في أسسها وفق معايير شتى منها الموقف الاقتصادي ومنها الدين أو المذهب ومنها العامل الجغرافي أو الإقليمي ومنها العرق حيث توجد القبائل والعشائر ، كما أزعم أن الانتماء الوطني السياسي العام هو الانتماء الحاكم لغيره وأن المصلحة السياسية العامة هي المصلحة الحاكمة وهي قد تتخللها مصالح طبقات أو فئات ولكن يبقى المشروع أو الصالح العام للجماعة السياسية هو الحاكم على غيره والضابط لغيره مهما كانت درجة التمثيل.
ومن هنا ، لاأستطيع أن أرى في مدحت باشا مجرد محقق لمصالح التجار مثلاً ، فقد كان مشروع الرجل مشروعاً للإحياء الإسلامي في مواجهة ما ينهك الجماعة السياسية في وقته من الأطماع الأوربية الخارجية والوهن الذاتي الداخلي حين كانت مصلحة التجار في هذه الرؤية الشاملة لقضية عصر مدحت باشا وقضية الجماعة برمتها ، وكيف تأتت مصلحة التجار مع نظامه الاحتكاري الشامل الذي حاول تعبئة أغلب قوى المجتمع العراقي لبناء الجيش وترشيد أداة الحكم وتقوية المنعة السياسية.
وفي ثورة 1920 التحررية يمكن القول أن فئة اجتماعية ما تخلق الهدف الكبير للثورة وهو طرد المحتلين البريطان ، ولكن يظل هدف الثورة هدف الشعب بوصفه شعب ويستحيل رد قوة الشعب العراقي إلى أنها مجرد تآلف فئات اجتماعية ستبقى قوته لمجتمع أراد أن يدفع عنه من اعتبره غريباً عنه . إن رد الاعتداء ومقاومة الأخطار إنما تقوم به وحدة الانتماء المهددة ، وهي تقوم به بكل ما تشتمل عليه من نوع روابط انتماء معينة وفقاً لحجم الخطر ومداه ومدى شموله للجماعة العامة أو لبعض من وحداتها الفرعية.
لذلك ، فإننا نلحظ أن التنظيمات التي قامت للدفاع عن الوطن في عسرة شملت الوطن أو في غزو تحقق أو تهدد بغزو إنما كانت تنظيمات عامة قامت لتمثل وحدة الانتماء التي تواجه الخطر وتتكافأ مع نوعه ومداه ، وهي لاتمثل بالضرورة طبقة معينة أو شريحة اجتماعية محددة إنما تمثل عموم الجماعة التي يشملها الخطر أو التي تتحشد للقيام بما يحقق صالحها العام وهي تمثلها في أوجه النشاط المؤدي وفي نوع العمل المطلوب وحده . ولهذا نفهم مشروع مدحت باشا الإصلاحي ، ومشروع ثورة 1920 التحررية ،  وثورة 14 تموز دون قياس على أسس نظرية نتجت عن تجارب بعيدة عن هذه الخبرة.
[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب