بعد رحيل السيد محمد باقر الصدر في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم والهجمة الصدامية البعثية على رجال الدين والقادة الحركين منهم، فرغت الساحة تماماً من المرجعية الحركية، وأصبحت أمور المجتمع في مهب الريح البعثية فتُشرِّق بها تارة وتُغرِّب تارة أخرى، وتدريجياً أصبحت الجماهير طيِّعة في كفِّ الألاعيب الصدامية، ودُجِّنَتْ حتى أن أحداً ما لا يمكن أن يتفوه بكلمة (لا) ضد أي سلوك سلبي وإجرامي تنتهجه السلطة آنذاك، وأصبح وجود شاب متدين ملتزم يرتاد المساجد أو يناقش في الأمور الدينية أندر من الكبريت الأحمر، بل إن تداول الكتاب الديني أو اقتناؤه يُعَدُّ جريمة قد ترفع صاحبها ليس إلى وجاهة اجتماعية بل إلى المشنقة، فمحاكم التفتيش الصدامية عيونها منتشرة في الأزقة والطرقات والأسواق حتى غدا الناس لا يتكلمون بشي يمسُّ السلطة حتى في مجالسهم الخاصة وحجتهم في ذلك ” الحيطان لها آذان” !!.
وبعد حرب الخليج الثانية التي دارت رحاها إثر غزو المجرم صدام دولة الكويت ــ التي كانت نتائجها كارثية بمعنى الكلمة؛ إذ إنها أتت ليس على البنى التحتية للدولة العراقية أو الترسانة العسكرية للنظام العفلقي بل على البنى التحتية للمجتمع العراقي وقيمه وأخلاقه؛ نتيجة غلاء الأسعار تفشي الفقر واتساع الهوى بين الطبقة الحاكمة والشعب الفقير الأعزل ــ بقيت المرجعية على مواقفها السلبية فلم تحاول استثمار السخط الجماهيري على السلطة الحاكمة جراء الحكم الدكتاتوري والقمع والاعتقالات والمجازر الجماعية؛ لكي تتسيَّد الموقف وترجع المجتمع إلى هويته .
على رغم كل ذلك برزت ظاهرة غريبة جداً، وهي تنامي الوعي الجماهيري على حساب ضحالة الوعي المرجعي في تلك الحقبة المظلمة، وفعلاً انتفض الشعب العراقي على الواقع الفاسد الذي كان يعيشه وكانت انتفاضته أكبر صدمة لدول الاستكبار العالمي وللمحيط الإقليمي؛ إذ إنهم قد اطمأنوا أن هذا الشعب تم تدجينه وأصبح جثة هامدة بيد غساله ” الطاغية” يقلبه كيفما شاء، وكانت الانتفاضة الشعبانية الشرارة الأولى لثورة تنتظر القائد الموجه الذي يقود سفينتها إلى بر الأمان، فالثورة العفوية التي لا قائد لها سرعان ما يستطيع الطغاة قمعها بالقوة ومن ثم احتواءها، وهذا ما حصل للانتفاضة الشعبانية.
لكن الحدث الأبرز في مطلع تسعينيات القرن المنصرم هو إطلالة رجل الدين العراقي آية الله السيد محمد محمد صادق الصدر على الساحة المرجعية، لا سيما بعد وفاة السيد الخوئي، وقد استثمر الصدر جملة الأمور لمصلحة مرجعيته ونجاح مشروعه الرسالي، حيث الجماهير الساخطة على السلطة آنذاك والحصار الحديدي الذي طوَّق به العالم السلطة في العراق وإطلاق صدام ما أسماه بالحملة الإيمانية وخلو الساحة من المرجعية الواعية التي تتناغم طردياً مع تنامي الوعي الجماهيري، كلُّ ذلك استثمره الصدر وبدأ بوضع اللبنات الأولى لمشروعه الرسالي.
تناثرت شرر الثورة الإصلاحية الصدرية وبدأت تسري نارها في هشيم المجتمع العراقي، على الرغم من الخطوات التدريجية الواعية التي خطاها في سبيل سحب البساط من تحت السلطة البعثية، وكانت قمة السيطرة الروحية والفكرية للصدر على المجتمع إقامة صلاة الجمعة، التي لم يألف الشعب العراقي قبلها مواجهة المرجع جمهوره مباشرة، وكانت نهاية الصدر جسداً في 19/2/1999 ، بعد عدة محاولات من السلطة إسكات صوته المدوي وزئيره المزمزم.
بعد هذه النهاية الجسدية للصدر، كما هي نهاية العظماء والقادة والمصلحين الكبار، تنازع تبني المشروع الصدري وتسنم القيادة له عدة أشخاص أهمهم السيد مقتدى الصدر والشيخ محمد اليعقوبي، بينما المرجعية التي أوصى الصدر بالرجوع إليها وهي مرجعية السيد الحائري لم تحز ذلك التأييد؛ بسبب البعد المكاني وربما حتى المنهجي عن الجماهير التي أنجبها المشروع الصدري، وقد سحبت مرجعية الحائري المشروعية من القيادتين المذكورتين آنفاً بسحب وكالة السيد مقتدى، وعدم الاعتراف باجتهاد الشيخ اليعقوبي، وهو ما لم يؤثر كثيراً على تزعمهما الجماهير الصدرية، وظلت الجماهير بين هذا وذاك، على رغم رجحان كفة نجل الصدر، لكن السؤال الأهم إلى أين يسير المشروع الصدري؟! وهل تشظى وأصبح قدداً، وهل هناك من جامعٍ يجمع هذا الشتات مرة أخرى؟!
الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها هو أن المشروع الصدري لم يجهض لحد الآن، وأن تشتت جماهير هذا المشروع تكمن في عدة أسباب منها المشروعية المرجعية في فكر الشيعة الإمامية التي استطاع الانفلات منها ما يسمى اليوم بالتيار الصدري، بعد أن أكد زعيمه مراراً وتكراراً أنه ليس بمجتهد فضلاً عن أن يكون مرجعاً، بل هو مجرد آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، حسب تعبيره، وقيادته لهذه الكتلة البشرية العريضة هو حسب نظرية تعدد القيادة والمرجعية، أي أن تقلد الجماهير مرجعاً وترجع في الأمور الاجتماعية والسياسية إلى شخص آخر وهو ما ذهب إليه روح الله الخميني في أواخر أيام حياته.
بينما حاول الاتجاه اليعقوبي! أن يتمسك بهذه المشروعية بالرجوع إلى مرجع يعترف به في الأقل أتباع هذا الاتجاه، وإن صُوِّبَت نحوه سهام النقد والتجريح العلمي وغير العلمي، أما بقية الاتجاهات التي لم تنل ما ناله الخطان المذكوران آنفاً، فهي أيضاً لا تخرج إجمالاً عن الإقتداء بمرجع خارج العراق أو الاعتراف بمرجعية غير مجمع على اجتهادها فضلاً عن مرجعيتها خارج إطار الأتباع، وهم أكثر من خط واتجاه.
وبعد أن قلَّ أصحاب الاتجاه اليعقوبي، وبعد أن كثرت مشاكل التيار الصدري التي حدت بزعيمه التهديد بالإنسحاب من الساحة، وإعلانه في بيانه الأخير الإنسحاب بشكل يجسد الهوة التي حصلت بين قيادات التيار الصدري الوسطى مع قمة قيادته، وهو ما يعدُّ إشكالية عميقة مستحكمة في هذا التيار.
بعد كل هذا الاستعراض لما مرَّ به المشروع الصدري، أعتقد أنه يمرُّ بأزمة حقيقية ربما يستطيع مناوؤه إلحاق الضرر الكبير باستغلالهم ما يمر به من أزمات، وإذا ما لم يستطع الصدريون بجميع اتجاهاتهم أن يجدوا من يحتضن هذا التيار أو من يحتضنه التيار قائداً حركياً يعي طبيعة المرحلة الحالية، فإن الأمور ستجري في عكس اتجاه ريح المشروع الصدري، وهو ما يعني خسارة جميع تلك الاتجاهات، وربح الأطراف التي ناوأت هذا المشروع سواء الداخلية منها أو الإقليمية، وهو ما سيشكل خسارة للمشروع العراقي الوطني الذي مثله هذا المشروع الصدري.
[email protected]