22 ديسمبر، 2024 6:00 م

“المشرق الجديد” والمسارات القلقة في بيئة مضطربة

“المشرق الجديد” والمسارات القلقة في بيئة مضطربة

“المشرق الجديد”، مفردة اخرى تدخل قاموس الادبيات السياسية في ظل مشهد اقليمي ودولي مرتبك ومضطرب الى حد كبير، تتداخل فيه المصالح، وتتشابك الاجندات، وتتقاطع المشاريع.
وهذه المرة، بدلا من ان تتلقى بغداد اصداء وتفاعلات وتداعيات المشاريع والاطروحات السياسية المختلفة، من قبيل صفقة القرن والاتفاق الابراهيمي والتطبيع، فأنها كانت مصدر انطلاق ما اطلق عليه “المشرق الجديد”، ارتباطا بحراك اقليمي بدأ قبل حوالي عامين، وتحديدا في شهر اذار-مارس من عام 2019 بقمة ثلاثية في العاصمة المصرية القاهرة، جمعت كل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، والملك الاردني عبد الله الثاني، تبعتها قمة مماثلة في نيويورك في شهر ايلول –سبتمبر من نفس العام على هامش اجتماعات الجمعية العامة لمنظمة الامم المتحدة، ومن ثم قمة ثلاثية في العاصمة الاردنية عمّان في شهر اب-اغسطس من العام الماضي 2020.
وكان مقررا ان تحتضن بغداد في السابع والعشرين من شهر اذار-مارس الماضي القمة الرابعة، الا انها تأجلت الى اشعار اخر بسبب انشغال الرئيس المصري بتداعيات حادث تصادم قطارين في مدينة سوهاج، وقضية باخرة (Ever green)التي علقت في مضيق السويس وادت الى تعطلت حركة الملاحة فيها، ليصار الى عقد اجتماع تحضيري على مستوى وزراء الخارجية، بينما كان الكاظمي يتهيأ للتوجه الى المملكة العربية السعودية تلبية لدعوة رسمية تلقاها مؤخرا من الملك سلمان بن عبد العزيز.
ويبدو، بحسب اوساط مطلعة على كواليس حراك الحكومة، ان الرياض كانت راغبة جدا في ان تسبق زيارة الكاظمي اليها لقاء القمة مع السيسي وعبد الله، وان الكاظمي كان يحمل نفس الرغبة، وقد جاءت الحوادث المفاجئة في مصر لتترجم رغبات الطرفين الى واقع عملي على الارض، وتذهب تلك الاوساط، الى الرياض، لاتريد ان يتشكل محور اقليمي بعيدا عنها حتى وان لم يكن معاديا لها، ولا بالضد من مصالحها، لذلك لوحظ ان الزيارة السريعة والمفاجئة للكاظمي، اسفرت عن ابرام جملة اتفاقيات ومذكرات تفاهم بمجالات مختلفة بين الجانبين السعودي والعراقي، وهي اشارة ضمنية الى ان الثقل الاقتصادي للرياض بالنسبة لبغداد، اكبر بكثير من الثقل الاقتصادي لكل من عمّان والقاهرة مجتمعتين.
اضف الى ذلك، فأن الرياض يمكن ان تفكر في ان وجودها وحضورها بمحور اقليمي تعد بغداد جزءا منه، من شأنه تخفيف الضغط عنها بسبب تورطها بملفات اقليمية شائكة ومعقدة في اليمن وسوريا وغيرهما، ناهيك عن سعيها المحموم لاضعاف ومحاصرة خصمها التقليدي طهران، وغير ذلك، السعي الى وضع بغداد على سكة التطبيع مع الكيان الصهيوني، لتلتحق بالقاهرة وعمّان وابو ظبي والمنامة والخرطوم والرباط والرياض.
ولاشك ان مفهوم او مصطلح المشرق الجديد، يحاكي مصطلح الشرق الاوسط الكبير، الذي طرح قبل بضعة اعوام، لاعادة ترتيب اوضاع المنطقة بطريقة مختلفة تفضي الى ضمان مصالح الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها واصدقائها الكبار والصغار. وفي الواقع هذا ما يراه بعض الساسة والمراقبين والمتتبعين لتفاعلات الوقائع والاحداث في المنطقة، هذا في الوقت الذي لم يتبلور شيء واضح حتى الان.
وللعلم فأن اول من طرح مفهوم “المشرق الجديد”، هو رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، عند زيارته للولايات المتحدة الاميركية في اب-اغسطس 2020، وعاد ليكرر ما تحدث به في واشنطن، في القمة الثلاثية بعمّان، وقبيل انعقاد قمة بغداد، قال الكاظمي، “ان المشرق الجديد ليس تحالفا سياسيا، بل هو مشروع اقتصادي اجتماعي بين شعوب الدول المعنية، يستهدف تحقيق المصالح المشتركة”.
بيد ان معطيات الحال وعموم التجارب، تؤكد أن كل المشاريع الاقتصادية والامنية والاجتماعية، لايمكن ان تنطلق ومن ثم تترسخ وتدوم ما لم تتوفر لها اطر ومناخات وتفاهمات وتوافقات سياسية بمستوى معقول ومقبول.
والمشرق الجديد، الذي يكتنفه الغموض، وتحيط به الكثير من التساؤلات والاستفهامات، من غير الممكن ان يكتب له النجاح، سواء طرح كمبادرة او مشروع اقتصادي واجتماعي، وخارطة طريق للاصلاح والتفاهم الاقليمي، لان هناك اطرافا اقليمية اكثر تأثيرا وحضورا وادوار في خارطة الاحداث، وان الاطراف الثلاثة، حتى وان كانت نواة لذلك المشروع، فهي مبتلاة بكمّ كبير من المشاكل والازمات والتحديات الاقتصادية والسياسية والامنية، وهي تحتاج من يأخذ بيدها وليس العكس، فضلا عن كون البعض منها منخرطة بالاساس في مشاريع ومحاور اقليمية قبال مشاريع ومحاور اقليمية اخرى.
وفيما يتعلق بالعراق، فأن انفتاحه على محيطه الاقليمي والفضاء الدولي، يشكل اولوية مهمة يفرضها تداخل المصالح، وتشابك الملفات والقضايا السياسية والامنية والسياسية المختلفة، واذا كانت الاجتماعات الاخيرة لوزراء خارجية العراق والاردن ومصر في العاصمة بغداد، والقمة الثلاثية المرتقبة، ومبادرة المشرق الجديد، تأتي في هذا الاطار، فأن على صانع القرار السياسي العراقي، الالتفات الى جملة من المسائل، واخذها بعين الاعتبار عند اتخاذ اي خطوات، والاقدام على اي مبادرات نحو المحيط الاقليمي او الفضاء الدولي.
ومن هذه المسائل، التوازن في عملية الانفتاح على الاخرين، وتجنب الدخول في اصطفافات ومحاور يمكن ان تجعل من العراق اداة وساحة لتصفية الحسابات وتمرير المصالح الخاصة. وكذلك لابد ان تكون المصلحة الوطنية في نصب عين المفاوض العراقي، واعتبارها من الثوابت التي لايمكن ولايجوز الحياد عنها بأي حال من الاحوال.
الى جانب ذلك، فأن كل خطوة من خطوات عملية الانفتاح ينبغي ان تخضع لدراسات وتقييمات موضوعية دقيقة، للوقوف على منافعها ومكاسبها بالنسبة للبلاد، سواء كانت تلك المنافع والمكاسب اقتصادية او امنية او سياسية. ومن غير المنطقي ولا المقبول ان تكون منافع ومكاسب الاخر اكثر مما يتحقق للعراق منها.
صحيح ان تعزيز العلاقات والروابط مع دول مثل الاردن ومصر، امر ينطوي على جملة من الايجابيات، لكن من غير الصحيح ان يتركز الاهتمام بهذا الاتجاه، على حساب علاقات وروابط مع اطراف دولية واقليمية اخرى، كالصين وايران وتركيا وروسيا، على سبيل المثال لا الحصر، من شأنها ان تحدث نقلات نوعية كبيرة في الواقع العام للبلاد، وهنا لابد من الاشارة الى الاتفاقية العراقية الصينية التي ابرمت في عام الفين وتسعة عشر، اي قبل حوالي عامين، دون ان يتم تفعيلها وترجمتها على ارض الواقع لاسباب غامضة، علما ان تلك الاتفاقية تنطوي على اهمية كبيرة جدا بالنسبة للعراق.
والمسألة الاخرى التي لاتقل اهمية عن سواها من المسائل الانفة الذكر، هي انه يجب ان يطلع الرأي العام العراقي بكل اتجاهاته وتوجهاته على مجمل مسارات ومعطيات المباحثات واللقاءات والانفاقيات مع الاردن ومصر وغيرهما من الدول، وماهيه مايطرح من مبادرات ومشاريع، حتى يعرف ويفهم انعكاساتها ومخرجاتها الانية والمستقبلية عليه.
——————————-
*كاتب وصحافي عراقي