ربما يكون من باب المصادفة ان تنطلق انتفاضتا الشعب العراقي و الشيلي في نفس التوقيت، ولكن مالا يمكن ان يكون مصادفة تشابه الانتفاضتين لا في أهدافهما الرئيسية فحسب ، بل في آليات التعبئه والتنظيم والتعبيرات الرمزية التي تشهدها ساحات الاحتجاج.
وأنا أقرأ توصيف الصحافية مونيكا غونزاليس لانتفاضة تشيلي في مقابلة مع صحيفة ( ذي نيشين ) خيل لي انها تتحدث عن انتفاضة تشرين في العراق. تصف ما شهدته في ساحة ايطاليا بسانتاياغو ( سميت الآن ساحة الكرامة) وكأنها تصف ساحة التحرير في بغداد فتقول : انني لم أر في حياتي من قبل تلك الملايين من الشباب الذين يتحدون النظام بشجاعة منقطعة النظير، دون أن تكون لهم خلفيات إيديولوجية أو انتماءات سياسية، فقد اعتدنا في السابق أن نرى تظاهرات محدودة لأحزاب أو قوى معارضة تحمل أعلامها و شعاراتها، الا ان هؤلاء الشبان يصرون على رفض أي علم سوى العلم الوطني. إنها صحوة عظيمة و مفاجئه لشعب تفتحت عيونه، وربما كان ذلك سبباً في أن قناصي السلطة يتعمدون التصويب على عيون الشباب حتى أطفئت عيون المئات ومنهم من أصابه العمى، لقد أدرك فقراء الشعب العلاقه بين معاناتهم في الحياة والفساد المستشري في النظام عبر التخادم مع الشركات الاجنبيه والمحلية، و العمولات و الرشاوي التي تورط فيها جميع اعضاء البرلمان والسياسيين. باسم حرية السوق والخصخصة تركزت الثروة بيد فئة قليلة ممثلة بالشركات الكبرى والطبقة السياسية الفاسدة المتخادمة معها مقابل إفقار الشعب. لقد كانت لدينا مؤسسات رعايه اجتماعيه وتوزيع عادل نسبياً للثروة وديمقراطية حقيقية قبل عام1973، كل ذلك قد فقدناه مع انقلاب المخابرات المركزية الامريكية وتنصيب الدكتاتور العسكري بينوشيت، و استمرت الحكومات المتعاقبة بعده على ذات النهج ونفس الدستور والقوانين، التي مكنت كبريات البنوك الاجنبيه والشركات الكومبرادورية من السيطرة على كل مرافق الدولة عبر الخصخصة، و تسترسل قائلةً : حين يردد الاعلام الغربي قصة نجاح الاقتصاد الحر في تشيلي انما يعني نجاح الشركات الكبرى والبنوك الاجنبيه في استغلال ابناء الشعب، حيث تم خصخصة كل شئء من التعليم الى الصحة والتقاعد والتأمين الاجتماعي و مناجم النحاس والمعادن والصناعه والزراعة والخدمات، لا شئء توفره الدوله للمواطن، إما أن تكون غنياً فتدفع للتعليم والصحة وباقي الخدمات، أو ان تصارع الجهل والمرض والحرمان. ان الشباب مصرون على عدم العودة الى بيوتهم دون ازاحة الطبقة السياسية الفاسدة وصياغة دستور من قبل الشعب بدل الدستور الحالي الذي تم فرضه من قبل الولايات المتحدة بعد الاطاحة بحكومة الليندي عام 1973 والذي ما زال سارياً، ويطالبون أيضا بصياغة قانون انتخابات عادل بدل قانون الدكتاتور بينوشيت، وقد أثار إصرار الشباب رعب الرئيس الملياردير بنيرا والطبقة السياسية التي بدأت بتهريب أموالها خارج البلاد. وتعبر الصحفية عن دهشتها لما تسمعه في شوارع سانتياغو من أغاني ثورية لفناني المقاومة التي تعود الى فترة الدكتاتور بينوشيت، أغاني فكتور جارا و سيرجيو اورتيجا إضافة الى النشيد الوطني القديم لحكومة سلفادور الليندي، مما يشيرالى ادراك الشعب ان منظومة الفساد وسر معاناتهم تكمن جذورها في المشروع الامريكي بعد الاطاحة بحكومة الليندي المنتخبة .
على شاكلة البرلمان العراقي أصدر البرلمان التشيلي قوانين ضد الفساد، ولكن لم يعتقل أو يحاكم أيا من الفاسدين.
في البداية كان للاحتجاجات في البلدين طابعاً مطلبياً، فكانت في حالة العراق للمطالبة بالوظائف وتوفير الخدمات وتحسين الاحوال المعيشية، أما في شيلي فقد بدأت احتجاجاً على زيادة اسعار مترو الانفاق، والذي يعتبر عصباً رئيسياً في الحياة اليومية للفقراء وابناء الطبقة الوسطى، ثم ارتفع سقف المطالب في الاتتفاضتين لأعادة صياغة الدستور وقانون الانتخابات وتغيير المنظومة السياسية بكاملها.
يبدو تفسير التشابه للوهلة الاولى عصيا، فالبلدان تفصلهما مسافة شاسعة جغرافياً و تاريخياً وثقافياً، العراق مثلاً لا يتكئ على ارث ديمقراطي حقيقي، بينما تمتلك تشيلي تجربة ديمقراطيه عريقة تعود الى عشرينيات القرن الماضي قبل إجهاضها بالانقلاب العسكري الذي نفذته وكالة المخابرات الامريكي عام1973.
رفض الانتفاضتين للطبقة السياسية الفاسدة و ماتتحصن به من دستور وقوانين، يشير بوضوح الى رفض مخرجات المشروع الأمريكي في كل من البلدين، وقد زعمت الولايات المتحدة في الحالتين انها تهدف الى اطلاق الحريات و دمقرطة النظام السياسي، الزعم الذي قد يلقى في حالة العراق ترحيبا و تحمسا لدى الكثيرين، على اعتبار ان المشروع قام على انقاض نظام دكتاتوري متوحش، بل ان فريقاً مازال يبحث عن شتى المبررات لتبرئة أميركا من النتائج الكارثية التي آلت إليها اوضاع البلد والمنطقة، متناسين ان الدولة الراعية لمشروع سياسي هي الوحيدة المسؤولة عن إدارته وبالتالي هي المسؤولة عن مخرجاته بالبداهة.
أما في حالة تشيلي فقد تكشفت منذ الساعات الاولى فاشية الدكتاتور الذي نصبته المخابرات المركزية، والذي انتهى به المطاف الى المحاكمة الدولية لما اقترفه من جرائم بحق شعبه، و لكن بقي الدستور و حزمة القوانين التي حكم بها البلاد سارية المفعول الى اليوم. وقد جاء دستوره الأميركي كأطار قانوني لأطلاق يد الشركات والبنوك الاجنبية التي استشعرت حينذاك بتهديد مصالحها من قبل برنامج حكومة الوحدة الشعبية و حزمة الضوابط والالزامات الماليه التي ستفرض عليها، اضافه الى شبح تأميم بعض الصناعات، ولم يكتف الدستوربتقديم التسهيلات للشركات والبنوك فقط، بل ان المادة رقم8 منه تجرم قانونيا الافراد والحركات والاحزاب التي تدافع عن الحقوق الاقتصادية للفقراء والمهمشين، اذ تنص المادة على أن من يسهم في اثارة ( الحرب الطبقية ) يتعرض للعقوبات القانونية ولا يحق له التصويت أو الترشيح في الانتخابات.
لقد أعلن االمنتفضون في العراق وتشيلي أنهم يريدون وطناً مستقلاً، وشعباً حراً يقوم بصياغة دستوره وقوانين بلاده بنفسه، لا أن تفرض عليه من قبل قوى خارجية.