23 ديسمبر، 2024 10:14 م

المشاريع الإسلامية والمشروع الوطني في العراق بين العقيدة والسياسة – 5

المشاريع الإسلامية والمشروع الوطني في العراق بين العقيدة والسياسة – 5

بحثنا في الحلقة السابقة (الرابعة) “فلسفة” المشروع السياسي السُني والشيعي و(العلاقة بين المشروع الإسلامي (الشيعي) العراقي ومشروع  ولاية الفقيه) . 
وبعيداً عن النقاش الفقهي الدقيق وبغض النظر عن الخلافات الفقهية حول مفهوم (ولاية الفقيه) وموقف المرجعيات الشيعية العراقية منها (وهناك خلاف علمي أصيل بين المرجعية العليا في العراق ومرجعية الإمام الخامنئي) حيث أن ذلك ليس من إختصاص بحثنا هذا  فإن هناك حقائق “سياسية” لا خلاف عليها لها صلة وثيقة في صميم بحثنا هذا وفيما نريد أن نرصده هنا وهو طبيعة “العلاقة السياسية” بين (المشروع السياسي الشيعي في العراق والدولة الإسلامية الإيرانية) منها  :
(1) أن (الإمام الخامنئي) بصفته “الدينية” وكيل الإمام الحجة وبصفته “السياسية” المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران يعتبر نفسه مسئولاً عن كل شيعة العالم  وإن { إرادته وصلاحيته فيما يرجـع إلى المصالح العامة للإسلام والمسلمين حاكمة على إرادة وصلاحيات عامة الناس}. وهذا يبيح له التدخل في كل ما يخص مصالح الشيعة في العراق (وغير العراق) وكذلك في درء المفاسد والإخطار عنهم . بل إن ولايته بصفته (وكيل الإمام) من وجهة نظره (ركن من إركان الإسلام){ ولاية الفقيه في قيادة المجتمع وإدارة المسائل الاجتماعية في كل عصر وزمان من أركان المذهب الحق ألاثني عشري ولها جذور في أصل الإمامة} ومن هذا المنطلق الديني  يمكن أن يفرض “إرادته” تلك على المشروع السياسي الشيعي في العراق .
(2) إن الدولة الإسلامية الإيرانية تعتبر نفسها المدافع الرسمي الأول عن الشيعة في العالم وأولهم شيعة العراق وإن ذلك واجباً دينياً قبل أن يكون واجباً سياسياً. ولذا فهي تمنح لنفسها حق حماية المشروع السياسي الشيعي في العراق .
(3) إن للعراق خصوصية دينية مقدسة لدى شيعة العالم بشكل عام وللشيعة الإيرانيين بوجه خاص وإن فيها مدن ومراقد وعتبات ومزارت ومقامات مقدسة لشيعة العالم ولهم فيها “حقوق دينية” وإن حمايتها وتمكين الشيعة من زيارتها وممارسة طقوسهم بمنتهى الحرية فيها هي من مهام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بصفتها راعية لمصالح الشيعة في العالم والمدافعة عن كل مقدسات الشيعة في العالم.
(4) القيادة السياسية الإيرانية تعتبر التجربة السياسية الشيعية في العراق هي إمتداد للثورة الإسلامية في إيران لذا فمن حق إيران الإطمئنان على (أمن) التجربة السياسية الإسلامية الشيعية في العراق بل عليها واجب تأمينها ونجاحها في العراق يفرضه موقع العراق الديني لدى عامة الشيعة في العالم ومنهم شيعة إيران.
(5) أن نظرية الأمن القومي الإيراني تجعل من العراق إمتداد لأمن إيران الإقليمي وإن التاريخ القديم والحديث لإيران وللمنطقة يدعم هذا الإحساس ويبر لها هذا التوجه . لذا لا يمكن لإيران أن تفرط بالتجربة السياسية الشيعية الصديقة في العراق لأنها تؤمن لها الإطمئنان بل وتشكل حائط صد من أعدائها التقليدين العرب.
(6) أن الإيرانيون يعتقدون أن لإيران إمتداد جغرافي و تاريخي في العراق وإن بلاط المملكة الساسانية كان في “المدائن” (20كم عن بغداد) وهذا يمنحها شعوراً “قومياً” أن جزء من العراق (شرق نهر دجلة على الأقل) هو إمتداد قومي لإيران وكان لفترات طويلة جزء من الوطن القومي الإيراني . وهذا الحلم يزيد من شهية وتغول الإيرانيين في التدخل في الشأن السياسي العراقي .
ومن جانب الأخر فإن الكثير من قادة التيار الديني السياسي الشيعي العراقي يرون في (التجربة الإيرانية الإسلامية) أمور عدة تحدد طبيعة التعامل معها منها:
(1) إيران “الإسلامية” (حجة) شرعية كونها ممارسة دينية شيعية بحته برعاية حجة الإسلام والمسلمين (روح الله الخميني) ومن بعده (الأمام الخامنئي) هذا عدا كونه ولي أمر المسلمين و نائب الإمام الحجة الغائب لمن يعتقد بنظرية “الولي الفقيه” فولايته بمثل هذه الحالة (ملزمة شرعاً) ولابد من طاعته ولزوم أوامره .
(2) إيران “الإسلامية” ( قدوة ) للسياسيين المنتمين للتيار السياسي الشيعي سواء من ناحية التنظير أو التطبيق كون الثورة الإسلامية الإيرانية هي أنضج وأخر تجربة سياسية شيعية (عملية) نجحت في حكم إيران أكثر من أربعة وثلاثون عاماً وتجربتها “غنية” ولابد من الرجوع إليها وإعتبارها مرجعاً سياسياً و”شرعياً” في نفس الوقت يغني ويثري التجربة السياسية الشيعية في العراق وهي من أفضل المستشاريين السياسين لقادة التيار السياسي الشيعي في العراق.
(3) إن التجربة السياسية الشيعية في العراق لازالت تجربة فتية وهي تعيش في محيط تنعدم فيه الثقة والأمان وتهدها أخطار خارجية وداخلية شتى وهناك معوقات كثيرة ستواجه التجربة في العراق من أجل كل هذا لابد من وجود (داعم قوي) ومتمكن لهذه التجربة و(ملاذاً) لها عند الإستشعار بوجود خطر داخلي أو خارجي يهدها أو يهدد وحدة أصحابها أو يشغلهم عن معركتهم الحقيقية في إنجاح التجربة السياسية الشيعية في العراق كونها تمثل كل الأطياف السياسية الشيعية في العراق . وفعلاً إستطاعت إيران ولحد الآن تامين وحدة الصف السياسي الشيعي و ممارسة أعلى درجات الضغط على كل الأطراف السياسية داخل وخارج العراق من أجل إبقاء التيار الديني حاكماً في العراق وممسك بكل مصادرالقوة فيه ؛ وتنوع الدعم الإيراني (سياسياً وامنياً وإقتصادياً ولوجستياً وثقافياً وشرعياً) للتيار الديني الممسك بالسلطة في العراق بقوة .
(4) أن المنظرين السياسيين للمشروع السياسي الشيعي في العراق يعتبرون تجربتهم   هي إمتداد للتجربة السياسية الشيعية في إيران الإسلامية ومكلمة لها ؛ كون منطلقاتها العقائدية واحدة وأهدافها واحدة ومرجعيتها متقاربة ؛ بل واحدة وهي تابعة و جزء من التجربة الإيرانية (عند من يؤمنون بنظرية “الولي الفقيه”).
 كل ذلك وفر أرضية لتعايش المشروعين السياسيين وتقاربهما إلى حدود بعيدة جدا تكاد تتطابق في أغلب الأحيان وكلاهما يستشعران حاجة كل منهما للأخر حاجة تكاد تكون مصيرية .
ومن الطبيعي جداً في ظل هذا التقارب السياسي الكبير أن تكون هنالك (مصالح) سياسية وغير سياسية متبادلة خاصة لكل طرف من الأطراف ويجب أن يلتزم كل طرف بإلتزاماته تجاه الطرف الثاني وخصوصاً الجانب الإيراني بصفته الجانب الأقوى والداعم الأكبر إن لم يكن الجانب الوحيد المؤتمن (الدعم الأمريكي مرتهن بالمصالح السياسية فقط وهي متغيرة “غير ثابتة” بينما الدعم الإيراني”ثابت” كونه مرتهن بوحدة المذهب والعقيدة إضافة إلى المصالح السياسية) هذا عدا المشتركات الكثيرة بين الجانبين لذا فإن المصالح  السياسية الإيرانية المطلوبة لابد أن تتناسب مع حجم الدعم الذي تقدمه الجمهورية الإيرانية الإسلامية ومستوى أهميته . ومن المهم جداً أن تضمن إيران عدم ضياع دعمها وجهودها في العراق وهذا يعطي لإيران فرصة أكبر للتدخل في الشأن العراقي . وما يمنح إيران فرصة أقوى هو التنازع السياسي والطائفي في العراق بين أصحاب (المشروعين الإسلاميين) المتناقضين وفي ظل وجود مسلحين أو مقاومين متمرسين سُنة إضافة إلى الخطر الكبير الذي يهدد المشروع السياسي الشيعي في العراق وهو التطرف الديني التكفيري المسلح (القاعدة) ولقد ساهمت إيران بعدة طرق و وسائل لتضخيم هذا الخطر وخلطته بوهم كبير (إن هذا الخطر له حواضنه ورعاته في المجتمعات السُنية) وإن (الحل الأمني) هو الحل الوحيد الكفيل بالقضاء عليه وإن إيران الحليف المصيري في محاربة (الإرهاب) ولابد من تحصين التجربة الدينية هذه من التهديدات “الطائفية” بسياج أمني “موالي” متين ومن أجل ذلك رعت إيران أغلب المليشيات الطائفية في العراق ! وكل ما يشتد الخطر على التجربة السياسية في العراق تكون الحاجة أكبر إلى وحدة المذهب وإلى الدعم الإيراني المطلق بصفته الحليف الشرعي قبل أن يكون الحليف السياسي وبقاء الإرهاب يعني بقاء الحاجة إلى الدعم الإيراني للعراق وزيادته تعني زيادة الحاجة إلى هذا الدعم . وجردت المشروع السياسي الشيعي من وسائله في تحقيق السلم الإجتماعي والقضاء على الإرهاب الذي يهدد العراق والعراقيين بكل أشكاله بل إن الحل الأمني المجرد ساهم في إيجاد إرهاب (شيعي) لمواجهة الإرهاب (السُني)!.
ومما عزز الدور السياسي الإيراني في العراق هو إنعدام ثقة أصحاب التيار السياسي الشيعي  (بالمشروع الوطني) وكذلك بالمشروع اللبرالي والعلماني مما ساهم في زيادة عزلته التي فرضها على نفسه وزادت حاجته إلى تعزيز الثقة والإطمئنان الذي قدمته إيران في مواجهة أخطار المشاريع الوطنية على المشروع السياسي الشيعي (قد تكون الآن محدودة التأثير) لكنها من المكن مستقبلاً إن تكون منافساً قوياً في قاعدتهم الشعبية الشيعية لذا بقوا يشعرون بالعزلة الفكرية والتنظيمية.
تلك هي الملامح العامة للمشروع السياسي الشيعي في العراق ولكن هناك أيضا علامات تغيير وتجديد داخل بعض مكونات المشروع السياسي الشيعي (قد يكون برعاية بعض المرجعيات العراقية) بدأت تتبلور يمكنها مستقبلاً أن تغيير من التطرف وتحد من الإندفاع الطائفي وقد توقف الإندفاع الغير منضبط  باتجاه المشروع الإيراني متوازنة مع التوجه الوطني دون التعريض بالعقيدة ألإقتراب من المشاريع السياسية الأخرى في العراق . وهذا يحتاج إلى رصد مستقل.وبهذا انتهينا من البحث بين السياسة والعقيدة لنتابع البحث في منحى جديد إن شاء الله.

[email protected]